من يقرأ ألبرت حوراني في وصفه لـ«سلطة الأعيان» (Notable’s Power) أيام السلطنة العثمانية، في نصه الشهير الصادر في 1968، لا يتمالك نفسه عن الدهشة من تطابق الوصف الذي قدمه إلى أفراد تلك النخبة مع ما هي عليه الشخصيات التي حكمت لبنان منذ الاستقلال حتى الساعة. كرّس حوراني دراسة خاصة لوصف سلطة الأعيان في المدن الكبرى للسلطنة، مخصّصاً مدن الهلال الخصيب باهتمام على حدّة. رسم صورة النخبة بوصفها مدينية، تكتسب شرعيتها من كونها من النسيج المحلي لهذه المدن. ويكتسب أفراد هذه النخبة قوتهم، من تمكّنهم من بناء شبكات موالين لهم، ينتمون إلى فئة النخب وإلى فئة العوام. لكنّ أهم عناصر قوة هذه النخبة كمنت في قدرة أفرادها على فرض أنفسهم على الوالي العثماني، إن بجعله يتخذ القرارات التي تتفق مع مصالحهم، أو بإجباره على توليتهم جباية الضرائب في المدينة وفي الأرياف التابعة لها.

وكانت سلطة الأعيان لا تفتأ تزداد خلال القرن التاسع عشر، مع احتلالهم مقاعد مجالس الولاة. وقد استطاعوا في مرحلة ما، وفي أنحاء كثيرة من المشرق العربي، تحويل الأرياف التي كانوا يتولون جباية الضرائب منها إلى ملكيات خاصة لهم.
لم تغيّر حقبة الإصلاحات أو «التنظيمات» شيئاً في هذا الوضع، ولو أنّها في المبدأ كانت تفترض الاستغناء عن الأعيان، وخصوصاً في جباية الضرائب، لمصلحة إدارة حكومية متخصّصة.
بقي الأعيان مشكلة السلطنة وسبب تأخرها واستمرارها كالـ«الرجل المريض»، حين كانت أوروبا والغرب يحققان الثورة الصناعية ويبنيان الدولة الحديثة. جعلهم موقعهم في النظام السياسي القائم عائقاً أمام التنمية. فهو كان يجهض إمكان نشوء دولة مركزية فعّالة تمتلك مشروعاً لتحقيق التنمية بما هي «تصنيع متأخّر». واستمرت سلطة الأعيان إلى ما بعد سقوط السلطنة العثمانية، وحتى خمسينيات القرن العشرين، حين أزاحتهم الدولة في أكثر من مكان وحلّت محلهم.
وقد استخدم أكثر من باحث، الزعيم المحلي بوصفه ممثلاً لفئة الأعيان، كوحدة تحليل في تعريف النظام السياسي المعاصر في لبنان. وجرى اعتماد المفاهيم الحديثة المأخوذة من الأدبيات بشأن الاستزلام السياسي والدولة النيو ـــــ باتريمونيالية، حيث يسخّر الزعماء السلطة لاكتساب موارد عامة يستخدمونها للمنفعة الخاصة. من بين هؤلاء الباحثين، مايكل جونسون، الذي خصص نصوصاً عدّة لـ«رئيس شبكة المحاسيب»، وباري بريسلر، الذي قدّم تعريفاً للزعيم بوصفه صاحب سلطة ذات منشأ محلي. لم يربط الاثنان وصفهما للزعيم بالجذور التاريخية لشكل السلطة التي يمارسها هذا الأخير.
المثير في وصف حوراني للنخب، هو رسمه للشخصية النموذجية التي كان يتحلّى بها الفرد من تلك النخبة. تأتي كلمة «المتردّد» (Circonspect) لتظهر علامة فارقة في تلك الشخصية. فالفرد من هؤلاء الأعيان كان يقف في موقع الوسط بين السلطة المركزية الممثلة بالحاكم العثماني والجمهور المحلي. وهو من موقعه ذلك، كان يفترض به أن يكون دائم الولاء والطاعة للسلطة وممثليها، من دون أن يبدو مجرّد أداة لهم. وهو من جهة أخرى، وإن كان يلجأ إلى التحريض على السلطة في معظم الأحيان، فإنّه كان يفعل ذلك في السر لا في العلن. هذه «الوسطية» جعلت البرنامج الوحيد الذي التزم به أفراد النخبة الممثلة بالأعيان، تأبيد الواقع القائم كما هو، والعمل على اقتناص الفرص لتعظيم منفعتهم منه.
يمضي «الأعيان» المحدثون في لبنان، أعمارهم وهم ينسجون تحالفات ويحقّقون إجماعات ويبحثون عن إرضاء أكبر عدد من النافذين، ويؤمنون بهذه الطريقة توسيع نفوذهم وزيادة منفعتهم ضمن الوضع القائم.
لا تجد فكرة تغيير الواقع القائم أيّ انحياز لها أو قبول بها، عند أفراد هذه النخبة. فالتغيير هو المجهول الذي يرون أنّه يناقض مصالحهم. لا يستطيع جمهورهم أن يعوّل عليهم من أجل مشروع مجتمعي جديد. كلّ ما يستطيع هذا الجمهور أن يستفيد به منهم، هو ما يوزعونه عليه من منافع، وفق معايير خصوصية.
يحتاج اللبنانيون إلى دولة تغيّر الواقع القائم. عند الكثيرين منهم شعور بأنّ الزمن ضدهم. ولدى البعض منهم شعور بأنّ هذا النوع من المسؤولين الذي يجسده «الأعيان»، قد يكون الأسوأ بين كلّ الخيارات المتاحة لهم.
*كاتب لبناني