منذ اولى أعوام مراهقته، كان يعرف أنّه يريد شيئاً مختلفاً. أصدقاؤه الذين عرفوه منذ الطفولة لم يستطيعوا فهم ماذا جرى له... اهتمامه بالفتيات مثلاً. بدا وكأنه يملي عليه استراتجيات تنحو الى المبالغة. من بعيد، بدا وكأنه يقلّد شخصيات مستوحاة من أفلام السينما، فحول رومانسيين يطبعهم الصفاء. اطال شعره لمرحلة معينة، وتركه مزيّتاً. من بعيد أيضاً، بدا وكأنه رفيق للبنات اللواتي يحوم من حولهن، اكثر منه «مصاحباً» لهن، بحسب تعبير أبناء جيله لوصف الارتباط العاطفي.
هذا الواقع بحد ذاته، في المدرسة التي ارتادها، وهي ثانوية واقعة بين نهر الكلب وعرمون، جعله من فئة مختلفة عن سيئّي الحظ في صفّه. عندما استطاع ان يرتبط بفتاة من زميلاته، بات تواصل رفاقه معه شبه مستحيل. في حديقة المدرسة، كان الثنائي يمسكان بيدي بعضهما باستمرار، وبدا كليهما وكأنهما مبرمجان لابقاء احاديثهما سرّية. كانت علاقتهما، ضمن الاقلية في صفّهما التي استطاعت ان «تصاحب»، هي الاطول زمناً، وساهمت اكثر من أي شيء في خلق اول فجوة بين محمد علي واصدقائه. لكن اصدقاءه كانوا اكثر من سعداء باستقباله مجدداً الى عشيرتهم عندما انفصل عن حبيبته. طبعاً، لم يخبرهم أبداً بتفاصيل ما حصل ولا بأسباب الانفصال ولا حتى اذا كان الانفصال مؤلماً ام لا.
في أحد الايام، نشب عراك بين اثنين من التلاميذ في الصف. انجرّ احدهما، وكان قصير القامة، الى الرد عبر الشتيمة على مضايقات ثانٍ متنمّر، فما كان من الثاني الا ان انتقل الى الضرب. تعرّض قصير القامة الى ضرب مبرح، ووقع على الارض، ورُكل في مؤخرته فيما كان في وضعية ركوع، وتم اذلاله امام تلاميذ الصف. فتجمع بعض الفتيان وعملوا على ابعاد كلا المتعاركين، كل نحو جهة، متعاملين معهما بالمثل. اما باقي التلامذة، فوقفوا متفرجين ومتفرجات، فيما اعربت بعض الفتيات، ممن يَحُمْنَ في العادة في مدار الشباب المتنمرين، عن شعورهم بالاستياء من رفيقهم، وذلك لمدة ربما فاقت الخمس دقائق. وقد قسّمت الحادثة الآراء في الصف، بين من اعتمد المزاح قاصداً طوي الصفحة واعادة جو مفترض من الالفة، سابق للعراك، وبين الاغلبية ممن حبسوا شعورهم تجنباً لتوريط انفسهم. لكن محمد علي تميزّ عن باقي تلاميذ الصف. دان كلا طرفي العراك، المتنمّر وقصير القامة. لم يتحدّث في الامر طبعاً، لكن وجهه كان يشي بالازدراء. عندما اقترب منه قصير القامة لاحقاً، كما يحدث في العادة بعد حوادث من هذا النوع اذ يبحث الشخص المذلول عن أي نظرة تعاطف او تفهّم في محيطه، اعرب له محمد علي عن ازدرائه. «شو بلا عازة انتم الاثنين».
هناك امر اضافي في خصوص سنوات محمد علي المدرسية قد يجوز التوقّف عنده، ولو لم يبدُ في حينه ذا أهمية. كان وجوده في حصّة «الفنون التشكيلية» مثل عدمه. لم يكن أداؤه في الفروض عديماً، كما لم يكن جيداً، بل لم يكن له اي وزن في حصة الاهتمامات البصرية هذه، حيث كانت اعين الطلاب مسلّطة على الاقلية المتفوّقة او الشغوفة بالرسم والكولّاج، وكان البعض يُلزم «الموهوبين» بتنفيذ مشاريعهم في السر أملاً برفع مستوى علاماتهم. لكن معنى وجود محمد علي في هذا الصف لم يختلف عن معنى وجوده في حديقة المدرسة عندما كان ينزوي مع «صاحبته» أو صديقاته، وبدوا وكأنهم يتابعون الاحاديث نفسها في المحلّتين. ماذا كان محتوى الفروض التي قدّمها في هذه الحصة وتم تقييمه على اساسها، لن نعرف ابداً والله اعلم.

كان البعض يُلزم «الموهوبين»
بتنفيذ مشاريعهم في السر أملاً برفع مستوى علاماتهم

في عمر الثامنة عشرة، اختار محمد علي الهندسة المعمارية. وفيما كان من التلامذة القلائل في صفّه الذين اختاروا هذا التخصص، بدا وكأنه أخذ القرار بشكل تلقائي، طبيعي، مثلما اختار غيره تخصص «البزنس». كان يعلم انه لا يريد التقدم الى احدى جامعات المدينة الاميركية، فكان بالتالي خارجاً عن حركة القلق الجماعية التي عمّت الصف بين شهري ايلول وكانون الثاني، فيما كان الجميع يتقدم لامتحانات التقييم اللغوي والحسابي، «التوفِل» و»ال-اس آي تي». هذا الواقع جعل لسببٍ ما وجوده مُزعجاً في نظر بعض اصدقائه، لكنهم كتموا مشاعرهم اذ لم يفهموا ماهية شعورهم بالانزعاج.
قدَّمت الجامعة لمحمد علي ولجميع الطلاب كوكبة جديدة من الخيارات الرمزية. ولما كان مَوقع الفتى الاجتماعي في المدرسة يُحدده مزيج من صُدف النمو البيولوجي وهرمية طبقية صارمة، كان على الفرد في الجامعة ان يقبض بنفسه على ما يغوي شخصيته، والخيارات كانت اوسع من تلك التي في المدرسة ومُرتكزة إلى بنى اكثر تنوع. ومع ان خيارات محمد علي كانت واسعة نسبياً، في ما خص الصداقات الجديدة والفتيات، واطر الترف وتحقيق الذات، لم يحل عبوره الى هذه دون بعض التحولّات النوعية في سلوكه. من بين هذه التحولات، كان افتتانه الصريح «بعبقرية» طالبٍ في المسرح اصبح صديقاً له عبر احدى الفتيات. كانت هذه المرة الاولى التي يراه اصدقاؤه مُتحمساً وشغوفاً في علاقته مع أي شيء. هنا تحديداً، لم يعد باستطاعهم التعرّف إليه. وكان اسم طالب المسرح، حسين، مدعاة سخرية في امسياتهم في غياب محمد علي. وكما كان مُتوقعاً، كان اجتماعهم الاول والاخير بالشاب جافاً. عندما عرّفهم محمد علي على بعضهم، تبادل الفريقان التحية بما يشبه الهمس ولم يجد أحد الحاجة في متابعة الحديث. كانت تلك الأيام أيضاً حين بدؤوا تباعاً وتدريجياً بالتوقف عن مقابلة محمد علي.
يَنقل احد الشهود حادثة اخرى في خصوص محمد علي، حصلت بعد اعوام عدة من سنين الجامعة. كان معروفاً عنه انه لم يعتبر نفسه معني «بالسياسة». لم يتحدّث بأمورها، ولم يثر بدوره قابلية احد للحديث معه فيها. والشاهد يحكي انه في مرة التقى بمحمد علي فيما كان يجتمع بسلّة من الاصدقاء على الغذاء في مطعم في حيّ الجمّيزة. كان ذلك في يوم من أيار 2008. كان الجميع حول الطاولة يتكلم عن احداث هذا الشهر العسكرية، المنتهية حديثاً، والكل فرح او راضٍ بالنتيجة، ما عدا محمد علي. ومع انه لم يكن صديقاً للآخرين، ولم يشاركهم سوى صداقة واحد منهم، لم تكتم ملامح وجهه علامات الازدراء. عند مخاطبته، كان يُتمتم ببعض الكلمات، عن انه «قرفان»، ثم انه «قرفان من هالبلد». لم يكن لديه تشخيص للحالة السياسية، ولم يُعرب عن تمسكّه بشيء، لكنه أراد ان يكون واضحاً انه، شخصياً، يمرّ بنوع من «السبلين». هذا مع العلم ان احداث هذا الشهر، فيما يَخصّ مكان سكنه وتسكّعه في حينه، لم تطاله اكثر من مدى اقترابه من شاشة التلفزيون.
شاهدٌ آخر، من اصدقائه السابقين، يسرد التطورات التالية. علِم شاهدنا وخطيبته ان احدى الجمعيات ستقيم مجموعة من النشاطات الفنية في اماكن مُتفرقة من المدينة، وذلك لمدة عشرة ايام. وبما انهما منذ مدة يرغبان في الذهاب معاً الى مسرحية، أيّ كانت، قررا اعتماد أكثر العروض شبهاً بالمسرح مما قدّمه البرنامج المنشور على الفايسبوك. تفاجأ الشاهد بقراءة اسم محمد علي، وكانت قائمة العروض تقدّمه بموازاة العنوان التالي: «كيف ما شاهدته لم اشاهده بالاساس (هذه ليست محاضرة عن الفنون)». وجد شاهدنا العنوان طريفاً، واثار رغبته باكتشاف ماذا حلّ بصديقه القديم. فاتفق مع خطيبته على حضور العرض. كانا من اول الواصلين الى قاعة المسرح، وبعد نصف ساعة من الانتظار، كانت القاعة قد امتلأت بالكامل والعيون جميعها مسلّطة على خشبة المسرح. وكانت طاولة موضوعة على الخشبة، وعليها لابتوب. اما التطورات التي تبعت، فقد تركت شاهدنا في حالة ذهول. دخل محمد علي المسرح بهدوء، دون ان يلتفت الى الجمهور، وجلس خلف اللابتوب، وبدأ بالقراءة. بدا وكأنه اكثر البشر جدّية على وجه الكوكب. ولم يستطع صديقه السابق التعرّف إليه.