الأعلام اللبنانية لا تكفي للوحدة، والطقس الجميل ليس بالضرورة ربيعاً ثورياً، كذلك السماء لن تسقط بمكبرات الصوت. صحيح أنّ الطغاة يخافون الأغنيات، لكنّهم صمٌّ هنا. عملياً، كان ينقص خروج الانقسام إلى العلن، لاكتشاف الرمال المتحركة التي يسبح فيها التحرك العلماني الأخير. تخطى الأمر عشرات المجموعات على الفايسبوك. لم تعد القصة قصة عشرات القادة الميدانيين، المتسابقين للحصول على فرصة للمشاركة في برنامج تلفزيوني تهريجي. لقد اقتربت التحركات الميدانية من مشهد التشرذم القديم. ما عادت المكابرة نافعة، ولا زيادة أرقام المشاركين في التظاهرات مجدية. وإذا أردنا تضخيم الموضوع، على طريقة القوى السياسية الرجعية، يمكن أن نضيف المزيد من الجنون المجاني إلى أحلامنا. وللتذكير، فإنّ بعض المنضوين في تجمع 14 آذار، يؤمنون ـــــ بلا مغالاة ـــــ بأنّ الحشد المذكور المؤسس لولادة هذا الفريق، الذي أتى بالناس من الغيتوات المذهبية إلى ساحة الشهداء بواسطة الحافلات، بعد أسابيع من الشحن الطائفي، هو نفسه الذي مثّل دافعاً لثورة الياسمين وشجع المصريين على الحريّة. وهذا ليس تهكماً على 14 آذار. بعض أركان هذا الفريق، وهم من أعمدة النظام الطائفي بطبيعة الحال، يفاخر بهذا الهذيان على شاشات التلفزة، بل إنّ بعضهم يصرخ حين يشرع في مقاربةٍ من هذا النوع، مستغرباً نفيها. وأكثر من ذلك، فإنّ الفريق الآخر، في المعارضة السابقة، الذي يضم بدوره أبطالاً في «ويكيليكس»، لا يزال مصرّاً على استثمار صمود المقاومين في عدوان تموز 2006 طائفياً، وتحويل المقاومة إلى فزاعة لخصوم الداخل، لمجرد تحصيل أكبر عدد ممكن من الأقارب كوزراء. وعند بعض من فريق 8 آذار، تبيح مقدسات بعد التحرير خطاباً عنفياً هدّاماً، يشمل التلويح بقطع الأيدي والرؤوس، وتالياً، تقديس أيام القتل في المدينة. أوليس السابع من أيّار يوماً مجيداً؟ العلمانيون اليوم، على قلّتهم عددياً، غارقون في فخ تضخيمي مماثل، وإن كانت نياتهم لا تحمل الخبث ذاته الذي يشبع الخطاب الديني ـــــ الطائفي فاشيةً. والغبطة التي تلت نصب الخيمة الشهيرة أمام وزارة الداخلية، التي فرّخت خيماً جنينية في المناطق، هي أوضح النماذج على كارثة التضخيم الساذج تلك. ليس من المطلوب مقاربة المسألة بعقلانية هيغيلية، تستتبعها الحرية والذاتية، لكن على الأقل احترام الأحلام المنشودة، آخذين في الاعتبار أنّ التعقيل يكمن في علمنة الثقافة، لا في مسايرتها عبر مظاهر رمزية خاوية. وأخيراً، صار عندنا خيمة خجولة ضد الفرز الديموغرافي، في وطن لم يلامس أهله حافة الكوزموبوليتانية منذ نشوئه. هل هذه هي الثورة التي يهتف المتظاهرون لحصولها؟ خيمة؟ نتخلى عن كلّ النضالات، والحقوق المدنية والاقتصادية، ونبذ العنصرية ضد العمال واللاجئين، ورفض التمييز الجندري، من أجل خيمة. هذه ليست دعوة إلى اليأس، ولا داعي للمواربة. بالنسبة إلى آلاف الشباب التواقين للحصول على تأشيرة دخول إلى كندا، اليأس أسهل بكثير من الإيمان بحراك مشلول يفتقر إلى الديناميكية، بسبب تفشي ملامح الأدلجة المنفّرة على تفاصيله. وبلا شباب، لا ثورة ولا من يثورون، إلا إذا كنا نتحدث عن حراك نخبوي طفيف، لن يصيب في مجزرة اجتماعية كالطائفية مقتلاً.
رغم كلّ هذا التعب، من الإنصاف القول، إنّ التظاهرات الأخيرة، ضمت وجوهاً جديدة تخلت عن خوف قديم، وهذا ليس بالأمر السهل. لعلّه مطر يسقط في بحر اليأس اللبناني. فبعد اغتيال الرئيس الأسبق للحكومة رفيق الحريري، أصبح الخروج من الطائفة هنا أكثر صعوبة. ولبنان، كما هو معلوم، يكاد يكون المكان الوحيد في العالم الذي يدخل فيه الناس المجتمع كجماعات، لا كأفراد. حتى في الأنظمة التوتاليتارية حتى العظم، تقاس علاقة المواطنين بالنظام وفقاً لمنطلقات فردية، على قاعدة ولاء الفرد للحزب الحاكم. الاستقطاب لبنانياً جماعي، والخطاب التربوي، والإعلامي، وحتى الوظيفي، لا ينجو من الطائفية، بل يتداخل معها ويتكاملان. لذلك، إنّ تعميم الفشل على جميع العلمانيين مجحف. هناك شباب متحمسون، فعلاً، وفي سعي دؤوب للوصول إلى التغيير الراديكالي المطلوب. وميدانياً، شرع هؤلاء في حملة جدية لشرح العلمانية، كي لا تبقى مصطلحاً أسيراً للنقاب الفرنسي، أو ذيلاً للنموذج الأتاتوركي، في لاوعي الكثيرين. لكنّ الفخاخ تلاحقهم بضراوة، ومنها أن يكون أحد الراغبين في تأسيس حزب إسلامي بلجيكي، مثلاً، غير طائفي هنا في لبنان، أو أن تعلن إحدى المجموعات احتكارها للحراك الشبابي سريعاً، محاولةً قطف ثمار لم تخرج من قعر الأرض بعد، وتكون أول خطوة لها باتجاه «الجماعة الإسلامية». والأنكى أن تعلن الجماعة، فوراً، أنّها «سبّاقة» في رفض النظام الطائفي، وتحذر الراغبين بإسقاطها من المساس بالمحاكم الشرعية. وفجأة، تكتشف فريقاً منضوياً في التظاهرات، يشارك الطائفيين الحملة الضروس على العلمنة، محافظاً على دعوته الهجينة لإسقاط النظام ورموزه. وللمناسبة، فإنّ هذه التوليفة لا يمكن أن تكون بعداً فكرياً. هذا تبسيطٌ مريع. وعوضاً عن أن تتحد الجهود، لإيجاد صيغة لمحاسبة الميليشيات، واقتناص اللحظات التاريخية لبناء أسس تسمح بالانقضاض عليها، تجد من يقيم حساباً لخطوط العودة، فيساوم الزعيم فلان، أو يستثني الزعيم الفلان، تحت ذرائع واهية من نوع الهوية والانتماء القومي. هكذا تتفاقم الشروخ. وفي الحقيقة، اللاطائفية من دون عزل تام للدين عن الدولة، هي طرفة شعبوية بامتياز. في الأساس، النظام مناسب بالنسبة إلى اللاطائفيين غير العلمانيين، وما علينا إلا أن نستمع إلى زعماء الطوائف ماذا يقولون عن أحزابهم لنفهم الأمر. هل هناك أبهى من صورة المحجبة التي تحمل صليباً معقوفاً، أو من رجل دين مسلم في كنيسة؟ أم أنّ هذه الصورة الكلاسيكية للهلال والصليب، التي ترفع في كلّ حشد طائفي، ليست عيشاً مشتركاً؟ من يمكنه أن يصمد أمام هذا السحر اللبناني الفريد؟ لكن، عملياً، هذه ليست لا طائفية. على العكس تماماً، فمن هذه الظواهر تحديداً تعيد الطوائف إنتاج سطوتها، وتكرّس آلهتها أنفسها على الرعية. لا ينفع التدوير هنا. «اللا» في حالة اللاطائفية تمثّل إعادة تدوير، أكثر مما هي إلغاء فعلي. وللمفارقة، المصطلحان النقيضان يعتاش أحدهما على الآخر... وهل رأى أحد ما في حياته زعيماً طائفياً لبنانياً يعترف بأنّه طائفي؟ بل إنّ البعض يذهب في الوقاحة إلى دعوة قوننة الكانتونات، للحفاظ على أسطورة «العيش المشترك».
كم كان لافتاً خلال بعض التظاهرات أن يضطر كثر من المتابعين الصادقين إلى البدء من الصفر: الطوائف في لبنان تأخذ شكلاً دينياً. والعلمانية، كآلية ميكانيكية للوصول إلى دولة مدنية، ضد هذا الشكل وليست ضد الدين نفسه. المؤلم في الموضوع أنّ الطائفيين اللبنانيين، في أحسن الأحوال، هم بلاشفة الأديان. فكما فسر الأخيرون الماركسية على طريقتهم، معتقدين أنّ الحزب الشيوعي يعرف الحقيقة المطلقة عن كيفية سير الأمور، أي الوعي الطبقي الصحيح (ماركسياً)، يرى الطائفيون اللبنانيون (باطنياً)، أنّ قتل الآخر وقمعه هو عمل مباح في سبيل الجماعة. البلاشفة كانوا أكثر إدراكاً لأنّ هدفهم كان التحرر الإنساني عامةً، وهم، في النهاية، كانوا يتحدثون عن حتمية تاريخية. وأمام هذا الواقع، لا يمكن القبول في مساومات مع الطوائف، ليس لأنّها تفتقر إلى الأخلاقيات الشكلية التي تفرضها الأديان وحسب، بل لأنّ أقلوية العلمانيين لا تحتمل هذا الحد من الانتهازية. والتجارب هنا جليّة: اليسار الديموقراطي والحزب السوري القومي الاجتماعي مثالاً. أما القول بلاطائفية، وإلغاء الطائفية السياسية عبر لجنة يرأسها نواب طائفيون، فهو تصرف محض انتهازي، مع كامل التقدير والاحترام للباحثين الذين عاشوا تجارب واسعة، تمكنهم من فهم صعوبة التغيير جذرياً. ومما لا شك فيه، أنّ هؤلاء الباحثين، يفهمون جيداً ماذا يعني أن تلغى الطائفية السياسية من دون نظام علماني بديل.
حسناً هذا حلم. لكن باستثناء جحافل المهاجرين، ثمة من لا يريد التخلي عن أحلامه هنا. هناك فئة تريد نظاماً علمانياً، ينهي أوضح تجليات الطائفية الدينية بعد الحرب الأهلية: كابوس اسمه 8 و14 آذار. نظام يسمح لمواطن أن يقول على الملأ إنّه متعاطف مع شعب سوريا ضد رجعيّة البعث، من دون أن يصنف حريرياً، أو أن يعلن أنّ بناء سوليدير على جثث الفقراء، هو جريمة العصر، ولا يعد مشاركاً في اغتيال الحريري. وحتى ذلك الوقت، كلّ شيء أفضل من مساومة النظام والتصالح معه، ذلك لأنّ العلمانيين لم يتخطوا مقولة نيتشه «لسنا صادقين إلا في أحلامنا» بعد. ولأنّ الأحلام مركب وهمي في النهاية، تتبعثر تفاصيلها في لحظات اليقظة سريعاً.

* من أسرة «الأخبار»