يتواصل حراك الشارع العربي لإنتاج ثوراته وحركاته الاحتجاجية على الأنظمة القمعية التي كتمت أنفاسه عقوداً، متطلّعاً إلى نيل الحرية والكرامة وبناء دول جديدة ترتكز على هذه المفاهيم. ويستمر عجز بعض النخب الفكرية والإعلامية عن اللحاق بتسارع الأحداث ونبض الشارع وتطلعاته، في ظل الذهنية القديمة التي تحدد سقفاً منخفضاً لطموحاتهم وتطلعاتهم. وعندما تحاول هذه النخب اللحاق بركب الثورات تنتقي منها ما يناسب هواها السياسي والأيديولوجي.هذه النخب ووسائل الإعلام تؤمن بالحرية المجتزأة، وتفصّل الثورات على مقاسات حساباتها المختلفة، فتكون حركة شعبية ما ثورة مجيدة، وأخرى مؤامرة خارجية وعبثاً أمنياً. وتجهد بعض وسائل الإعلام في نقل الحقيقة، ومواكبة التغيير في بلدان معينة، ثم تدير ظهرها للتغيير نفسه في بلدان أخرى، وكلّ ذلك يأتي بوحي من الحسابات السياسية والفكرية، وحتى المذهبية الضيقة.
يمكن في هذا الصدد تذكر موقف بعض مثقفي «الاعتدال العربي» من الحركة الاحتجاجية في طهران عام 2009، التي أعقبت إعادة انتخاب أحمدي نجاد. كان خطاب هؤلاء يتحدث عن الحرية والديموقراطية، ويندد بمساوئ القمع الديني للنظام الإيراني، ويجد في الثورة الخضراء تعبيراً عن التطلع الإيراني الشعبي إلى الحرية. هذا التأييد لحقّ الشعوب في تقرير مصيرها ونيل حريتها، لم ينعكس في خطاب هؤلاء تجاه الثورتين التونسية والمصرية. فقد انحازوا لخطاب الإعلام الرسمي للنظامين السابقين، وتحدثوا عن مؤامرة خارجية إيرانية مرّة، وعن مؤامرة إسلاموية مرات، وسخّفوا المحتشدين في الساحات، ليمتدحوا حكمة هذه الأنظمة وقدرتها على الخروج من مأزقها.
ومع مرور الأيام، وظهور تباشير السقوط، تخف حدّة اللهجة المؤيدة للأنظمة، دون أن تحل محلّها حماسة للتغيير، لكن البعض لا يستحي بعد نجاح الثورات من تأييدها بعدما كان يعارضها علانيةً. وفي المحصّلة، لا يمكن تجاوز ارتباط هذه الفئة إما بأهواء سياسية مؤيدة لأنظمة قمعية تدفعها إلى رفض الحرية في تلك البلدان، أو بمصالح شخصية مع الأجندة السياسية التي تعمل في إطارها تلك الأنظمة. يدفع ذلك باتجاه مواقف تعبّر عن ازدواجية المعايير في النظرة إلى المسألة الديموقراطية، وتفضح أكاذيب الليبرالية التي يزيّنون بها خطابهم.
للنخب الدينية، ومن يطرحون أنفسهم شيوخاً معتدلين ومؤمنين بالشعوب وحقها في الحرية، نصيبهم من ازدواجية المعايير هذه. فقد شُوهدوا يحرّضون الناس على الثورة في مصر وتونس وليبيا ويتحدثون عن فساد الأنظمة وطاغوتيتها، لكن حين جاء دور البحرين، في سلسلة الثورات العربية، حصل الانقلاب في الخطاب لمصلحة النظام هناك ضد الشعب انطلاقاً من الحسابات المذهبية الضيقة. وانجرف المعتدلون في حملات السعار المذهبي وباتوا وقوداً لها، تحركهم الجماهير المحتقنة مذهبياً، وتدفعهم باتجاه التحريض المذهبي ضد الوحدة الوطنية، وحتماً ضد الحرية.
بعض مثقفي «الممانعة» أصروا على مشاركة خصومهم في حمل راية الازدواجية. فبعدما هلّلوا لثورتي مصر وتونس توقفوا عند الحركة الاحتجاجية السورية، وصوّبوا نيرانهم عليها مرددين دعاية النظام السوري حول وجود مؤامرة غربية/ صهيونية على سوريا «الصمود والتصدي». ومع حديث المؤامرة، بدأت حملات التخوين لكلّ من يريد الحرية للشعب السوري ويساند حقه في تقرير مصيره، باعتبار أنّه يطعن في دولة «المواجهة»، وبالتالي في قضية فلسطين.
يسجل للنظام السوري دعمه للمقاومة في فلسطين ولبنان، لكن ذلك لا يعني تجاهل قمعه لشعبه وعقليته الأمنية التي تتفوق على نظيراتها في النظامين المصري والتونسي. ولا يعني ذلك أيضاً، تضخيم «المواجهة والتصدي» (التي يمكن مشاهدة نموذجهما في الجولان المحتل!) ليمسحا كلّ عارٍ يرتكبه هذا النظام بإصراره على أسلوبه الغبي القديم في التعاطي الأمني، حتى مع الأطفال الصغار.
يبدو أنّ هناك من يعتبر الممانعة غاية في حد ذاتها، لا وسيلة لاسترداد حقوق المجتمعات والشعوب وتحرير إرادتها وقرارها من هيمنة الخارج. وإذا كانت الممانعة هي قضية تحرير المجتمعات من الهيمنة الخارجية، وإذا كانت قضية فلسطين هي قضية تحرير الإنسان وحقه في أرضه وحريته وكرامته، فإنّ قضية التغيير الديموقراطي هي قضية تحرير أفراد المجتمع من الاستبداد الداخلي، وهي قرين الممانعة الذي يكملها ولا يناقضها، ولا قيمة لممانعة من أجل حرية مجتمع أفراده في سجن كبير.
لعل أحد أهم أسباب فشلنا في مواجهة إسرائيل والهيمنة الاستعمارية هو فشل هذه الأنظمة، الممانعة والمعتدلة، في بناء الدولة القوية في الداخل وتذرعها بالقضية المركزية لتعطيل كل إصلاح. والقوة هنا تعني التنمية والإنتاج في مختلف المجالات، في ظلّ مجتمع حر ديموقراطي، يشارك الجميع فيه في بناء الدولة ونهضتها. لقد بدأت الشعوب العربية مواجهة إسرائيل بإعادة بناء دولها على أسس جديدة حديثة، لتكمل المسار المقاوم وتُكَمَّل نظرية المقاومة التي لا تقتصر على ردّ الفعل العسكري، بل تتجاوزه إلى الفعل السياسي والاقتصادي والعمل على إحداث نهضة شاملة في مواجهة التحديات الخارجية.
إنّ الدفاع عن النظام السوري ورفض التغيير من باب الخوف على مصير الممانعة، يستبطنان تشكيكاً مثيراً للاشمئزاز في قومية الشعب السوري ونضالاته، وفي ما يمكن أن تفرزه عملية ديموقراطية حقيقية في سوريا. وإذا كانت العروبة والمقاومة تُختزلان في شخص بشار الأسد، فلا معنى للحديث عن القومية العربية والأمة وقضيتها وترديد الكلام المستهلك عن وجدان الشعوب طالما التشكيك في وجدانها يحدث في لحظات الاختبار الحقيقي. التصالح مع الذات فكرياً وثقافياً في قضية الحريات العامة والديموقراطية يقتضي الإيمان بها دون أن تنتقص من هذا الإيمان «لكن» خاصة بالحسابات السياسية والأيديولوجية، ودون تفرقة بين نظام قمعي وآخر، ودون غض الطرف عن حق كلّ الشعوب في تقرير مصيرها، مهما كانت النتائج مخالفة للهوى السياسي والفكري.
احترام إرادة الشعوب أساس الإيمان بالحرية الكاملة غير المجتزأة، وإحالة الحراك الشعبي المطالب بالحرية على المؤامرة الخارجية عبث لا طائل منه. وإذا كانت المؤامرة الخارجية قادرة على تحريك الشارع في تونس ومصر واليمن والبحرين وليبيا وسوريا وحشد الملايين في الساحات، فالمجد للمؤامرة!
* كاتب سعودي