من تابع مواقف القوى السياسية من الدعوة إلى إضراب يوم «25 يناير»، يلمس الموقف «السلبي» لجماعة الإخوان المسلمين، الذين شارك بعضهم فردياً فيه، لكنّهم بدأوا يحاولون توسيع المشاركة بعدئذ. فقد كان قرارهم هو عدم الدعوة إلى الإضراب، وربما المشاركة الرمزية فيه، على أساس أنّها دعوة، ككل الدعوات السابقة، أيّ التي لا معنى لها.لكنّها حين قررت المشاركة، تاهت بين جموع هائلة من البشر، تحمل مطالب أبعد مما تطرح أو تقبل، سواء تعلق الأمر بإسقاط النظام أو بالمطالب الاقتصادية الخاصة بالعمل والأجور والسكن، أو الدولة المدنية، وما إلى ذلك. وإذا كانت قد حاولت أن تزيد من دورها، وأن تحاول إدخال خطابها في وسط هذا الفيض من البشر، فقد فشلت في ذلك رغم لجوئها إلى «الطقوس الدينية»، كالصلاة بين الجموع لتحقيق ذلك.
وإذا كان النظام المتداعي قد حاول أن يلصق الانتفاضة بهذه الجماعة، لاسترضاء البلدان الإمبريالية وتخويف العلمانيين والمسيحيين، وتوسيع البطش، تحت عنوان مقاومة الأصولية والإرهاب، وإذا كان التخوّف من سيطرة الإسلاميين يحكم النظرة الغربية لما جري، فإنّ الوقائع لا تسمح بتصديق كلّ ذلك. فقد توضح حجم الإخوان المسلمين بدقة، إذ إنّ لهم حشداً، لكنّه ضاع في خضم كلّ هذه الطبقات التي انتفضت، ولهم وجود، لكنّه في حيّز محدَّد. وبالتالي، ليس الخوف في أن يسيطروا على الانتفاضة بعد نجاح الثورة، فهذا محال ولقد توضح ذلك خلال مسيرتها، لكن يجب أن ندرس بدقة صيرورة التحولات الممكنة في ضوء النتائج التي أفرزتها، والتي يمكن أن يستفيد الإخوان منها.
فالانتفاضة كانت عفوية، رغم أنّها بدأت بدعوة واضحة. بمعنى أنّ الجهات الداعية لا تمتلك تنظيماً كان هو المحرّك لكل هذه الجموع، بل إنّ «صدفة» حدثت هي التي فرضت تجاوباً كبيراً من طبقات مسحوقة، ناضل بعضها في السنوات الماضية في حركات احتجاج موضعية، وكان الوضع الاقتصادي يطحنها إلى حد الهلاك، لهذا امتلكت حالة احتقان هائلة. وربما جاءت الانتفاضة التونسية لكي تنقل هذا الاحتقان إلى مرحلة التفجر الذي توضح من خلال التجاوب مع دعوة على فايسبوك من شباب ينتمون إلى هذه الطبقات، ويعيشون أزماتها الفظيعة، وبالتالي كانوا يتحسسون وضعها أكثر من كل الأحزاب، ولا سيما اليسارية.
ورغم إمساك الشباب المبادرين بقيادة الانتفاضة إلى الآن، وكذلك تحديد مطالبها، حاولت الأحزاب والقوى الأخرى، وتحاول قطف ثمارها، سواء عبر أداء دور توجيهي أو قيادي، أو الدخول في المفاوضات مع النظام للوصول إلى صيغة تبدو هي الحل الذي حققته الانتفاضة. وجماعة الإخوان المسلمين من هذه القوى، وربما اعتقدت أنّ تحقيق انفراج ديموقراطي كامل، والاعتراف بها حزباً سياسياً، سيؤهلانها لأن تفوز بحجم كبير في أي انتخابات يفرضها التغيير المتحقق، لتصبح القوة الرئيسية في البلد. وقد تطمح إلى أن تحكم كذلك، وفق المثال التركي، رغم أنّه مثال مناقض لما تطرح، لأنّ في تركيا حزباً علمانياً يحكم، وإن كان ذا خلفية دينية من حيث الإرث الثقافي. هذا سيناريو قد يخلد في ذهن قيادة الجماعة، لكنّه ليس السيناريو الوحيد. وربما استشعرت هذه القيادة بأنّ هذه الجموع الهائلة التي انتفضت على أساس مطالب اقتصادية معيشية لن تعطي أصواتها لجماعة كانت مع إعادة أرض الفلاحين للإقطاع القديم، وأيدت الخصخصة إلى أبعد مدى، ولم تنبس بأي مطلب يخص الطبقات المفقرة؛ إذ ظل خطابها خطاباً «أخلاقياً»، يلمس الهوامش، ويكرس الذاتية الضيقة، ويفرض ما بات من مخلفات الماضي في ما يتعلق بقيم الحياة باسم الدين، في الوقت الذي تنطلق فيه من اللبرلة الاقتصادية اعتماداً على الحق المطلق في الملكية، وحصر الاقتصاد بالتجارة. ربما هذه القيادة هي أكثر من يعرف أنّ قوتها في تلاشٍ، وأنّ الدور الكبير الذي أدته نتيجة الفراغ السياسي الذي تركه اليسار، لم يعد ممكناً، لأنّ صراع الطبقات الشعبية بات من أجل نمط اقتصادي مختلف عما هو سائد. وهي مع أسوأ ما هو سائد، أي الليبرالية المنفلتة والمافياوية، تأسيساً على الدين. كذلك ليست لديها حلول لكل هذه المشكلات الهائلة التي أوجدتها سلطة المافيا، أو أنّ حلولها هي استكمال لما قامت به هذه السلطة، وهو الأمر الذي جعلها ترفع شعاراً فضفاضاً ودون معنى ملموس هو: الإسلام هو الحل.
بمعنى أنّ هذه القيادة تعي أكثر من غيرها أنّ أيّ انتخابات حرة لن تصبّ في مصلحة نتيجة انفراز الوضع، وتوضح الموقع الطبقي لمختلف القوى. فالشعب يريد الخبز، وهي تقدّم الآخرة. الشعب يريد العمل، وهي تشجّع التجارة (أي الليبرالية). الشعب يريد الأرض، وهي مصممة على حق الملاك الإقطاعيين القدامى الذين انهتهم ثورة يوليو/ تموز 1952. الشعب يريد الحرية وهي تعمل على تطبيق الشريعة وفرض قيم متقادمة، وتتدخل في خصوصيات البشر. وهي كذلك تفرض منظوراً أصولياً ضيقاً للعلاقات والتعاملات والقيم والأخلاق. هذا الفهم هو الذي جعلهم، قبل سقوط النظام، يركضون وراء الحوار الذي دعا إليه عمر سليمان تحت حجة كسب الشرعية، فهذا هو الطريق الذي يفتح على دور ما بالتفاهم مع قوى في السلطة. وهو الذي جعلهم يوافقون على تعديل الدستور فقط، لا صياغة دستور جديد، كما تطرح الانتفاضة.
إذاً، الانتفاضة لن تأتي بالإسلاميين. والشعب لن يأتي بهم قوةً كبيرةً من خلال الانتخابات. فمن سيأتي بهم بالتالي؟ الفكرة التي كانت تتسرب منذ زمن، هي تلك التي تشير إلى الصيغة التركية، أي الجيش والإسلاميين. الجيش هو الضامن والإسلاميون هم الحاكم. لكن الإشارة إلى مصر كانت تقول بتحالف بين قيادات الجيش والإسلاميين، يقود إلى إدخالهم السلطة، ربما عبر انتخابات برلمانية تجعلهم القوة الأكبر مما يفرض تأليفهم الوزارة، أو قوة كبيرة تشارك في حكومة مسيطر عليها. وإذا كانت «الحرب على الإرهاب» قد أوجدت حساسيات في هذا المجال، فقد تقدم باراك أوباما في خطابه في القاهرة، وفي خطابه في إسطنبول خطوات في هذا الطريق، إذ ميّز بين الإسلام والإرهاب، وفتح الطريق لتفاهم مع الإسلاميين.
هل حان موعد إعادة التحالف بين جماعة الإخوان وأميركا، هذا التحالف الذي صمد لعقود، وظلّ قائماً رغم الخلافات العلنية، وكان تحالفاً وثيقاً ضد «الشيوعية» والتقدم والعلمنة والديموقراطية؟
اذاً، هناك بعض الحلول الممكنة للولايات المتحدة في مواجهة الأزمة العميقة التي تعيشها البلدان العربية كلّها، لا مصر فقط (وأيضاً كلّ الأطراف). وبالتالي، يتعلق الأمر بتونس الآن بعد الانتفاضة والتغيير في شكل السلطة. فالأزمة الاقتصادية عميقة إلى حد لا يمكن تجاهله، والولايات المتحدة مأزومة ولا تستطيع تقديم الدعم الكافي لتجاوز أزمة البلدان التي باتت على عتبة انفجار اجتماعي كبير، مثل مصر وتونس، والنظم ذاتها عاجزة عن حلّ هذه الأزمة. بالتالي، هل يكون الخيار هو التدمير والفوضى من خلال سيطرة أصولية تطيح كلّ عناصر التقدم، وتفرض انقسام المجتمعات دينياً وطائفياً؟
فرغم كل الخوف المعمم من الأصولية، إلا أنّ كلّ سياساتها تصبّ في مصلحة الرأسمال. فهي مع اللبرلة إلى أقصى مدى، ويتركز نشاط منتسبيها الأساسيين في التجارة والمال، وهي عنصر شقاق مجتمعي لأنّها تطرح الدولة الدينية وتطبيق الشريعة. كذلك فإنّها تقيس على مبدأ «الإيمان والإلحاد» وهي هنا ضد حركة التقدم، التي تبدو لها حركة ملحدة بمختلف تياراتها، الديموقراطية والقومية والماركسية. وهذا ما تدركه الولايات المتحدة أكثر من أي طرف آخر، وبالتالي عملت في الماضي للإفادة منه. فحتى وهي تحوّل الإسلام إلى «بعبع» و«إرهاب»، كانت تتقصد ذلك وتستفيد منه، لأنّ «الأسلمة» تعني الصراع الذاتي والتفكك في مجتمعات تجاوزت إمكان الحكم الديني من جهة، والاقتصاد الإسلامي الليبرالي من جهة أخرى. والسودان مثال كبير في هذا المجال، حيث أفضى الحكم الإسلامي إلى تدمير الاقتصاد وسيطرة النهب المافياوي، وتفكك البلاد. بالتالي فإنّ أي دور أساسي لجماعة الإخوان المسلمين سيكون بالتفاهم مع الولايات المتحدة فقط. وهنا سيكون التوافق على استمرار معاهدة كامب ديفيد مع الدولة الصهيونية تحت أي مبررات، وكذلك الالتزام بكل الاتفاقات والمعاهدات، والسياسات الاقتصادية. وبراغماتية الجماعة تسمح بذلك.
إنّ تصاعد الصراع الطبقي يفضي بالضرورة إلى تراجع دور الإسلام السياسي الذي لم يعبّر ولا يستطيع التعبير عن مشكلات الطبقات الشعبية، بل عبّر عن مصالح فئات تجارية تقليدية، لا تتناقض في كلّ الأحوال مع الرأسمال الإمبريالي، بل ربما تناقضت مع فئات رأسمالية جديدة ذات طابع مافياوي، أو كانت منافسة لها. وكان الصراع يتمحور حول دور كلّ منها في إطار الاقتصاد المحلي، والدور السياسي لها. هذا هو جوهر الصراع الذي امتد لسنوات، بعد مصالحة أجراها الرئيس أنور السادات لتصفية الحساب مع كل أطياف اليسار وهو يصفي التركة الناصرية، ويقلب السياسات الاقتصادية لمصلحة «الانفتاح». وربما كان تخوّف المافيا الجديدة من دورها نتاج الحديث الأميركي، منذ نهاية تسعينيات القرن العشرين، عن إشراكها في بنية السلطة، أكثر منه نتاج تناقض عميق في السياسات.
في كلّ الأحوال، إنّ الصراع الواقعي هو الذي سيفرض النتائج، لا أي تصورات أو أفكار معدة مسبقاً. وتحوّل الصراع إلى صراع على الخيار الاقتصادي، وعلى مطالب الأجر والعمل والسكن والضمان الصحي والاجتماعي لا يبقي لقوة أصولية دوراً يذكر.

* كاتب عربي