ما الذي يعطي الثورات الشعبية الحالية في العالم العربي خصوصية، تجعلها محط أنظار العالم ومحل تعاطف الأمة؟ سؤال قد يجد أجوبته في مقاربة عادلة بين الثورات العفوية التي تبدأ بفعل شعبي، وبين «الثورات» التي تكون مطية للدول الكبرى، من أجل وضع أقدامها في الأماكن الخصبة والغنية بالثروات.ثمة مقاربة سرعان ما قفزت الى الأذهان، بعد نجاح ثورة تونس، وانغرست أكثر بعد خلع الرئيس المصري حسني مبارك عن الحكم في مصر. مقاربة استفهامية، حول الفارق بين التخلص من نظام ظالم في العراق بمساعدة الدول المستعمِرة، وبين إسقاط أنظمة فاسدة بمجهود جماهيري في الشارع. الفارق كبير جداً، ليس فقط في المعطيات والدوافع والقيم الأخلاقية التي تقف وراء العمل التغييري، بل أيضاً على مستوى التداعيات والنتائج. حصيلة ثورتي مصر وتونس لم يتجاوز ثمنها من الضحايا ألف شهيد، بينما وصل عدد ضحايا الغزو الأميركي ـــــ البريطاني للعراق إلى 655000 عراقي، منذ بدء الحرب في آذار 2003. مع ذلك ثمة تقاطع يصل بين هذين النمطين من التغيير.
«إنّه الاقتصاد يا غبي». عبارة قالها الرئيس الأسبق للولايات المتحدة، بيل كلينتون، خلال حملته الانتخابية ضد الرئيس السابق جورج بوش الأب، في التسعينيات من القرن الماضي. بيد أنّ هذا القول، الذي كان عنواناً لتقرير سري صدر عن السفارة الأميركية في طرابلس الغرب في عام 2009، بات يشير إلى أهمية العامل الاقتصادي في التغيير السياسي.
انطلاقاً من هذا المفهوم، يمكن رصد عوامل تثوير الشباب العربي في بلاد يعيش معظم سكانها تحت خط الفقر، رغم الثروات النفطية الهائلة في بعضها، والثروات الطبيعية في أخرى.
ثمة دور رائد لما عُرف بقضية وثائق «ويكيليكس»، التي شكلت إرهاصات الثورات الحالية في الوطن العربي. فقد استفزّت الفضائح حول آليات إدارة الحكم في أكثر من دولة، مشاعر الجماهير التي بات طموحها ليس أقل من اعتماد الشفافية في الأداء السياسي لإدارة الحكم.
هناك أسباب عدّة لاندلاع هذه الثورات المفاجئة. أسباب نضجت بفعل الإجحاف الاقتصادي، وتوسّعت كردّ فعل قوي على أساليب القمع ومصادرة الحريات، لتصل إلى ذروتها بفعل التمييز الطائفي هنا، أو القبلي هناك، أو الطبقي (أغنياء/ فقراء) في كل دولة.
ومن المعروف أنّ فساد السلطة وزبانيتها قد نهشا مصر وتونس لعقود طوال، رغم افتقار هذين البلدين الى ثروات نفطية، على غرار ليبيا ودول الخليج. وفي ليبيا، أشارت وثيقة سريّة للسفارة الأميركية عام 2009، الى أنّ مواطني هذه الدولة الأفريقية، التي لا يتجاوز عدد سكانها 6.5 ملايين نسمة، سيظلون «هادئين من ناحية سياسية ما دام الوضع الاقتصادي مقبولاً».
بيد أنّ نبوءة الاقتصاد تحققت، بعد أشهر قليلة من صدور دراسة اقتصادية اجتماعية أفادت بأنّ نحو 29 في المئة من إجمالي الأسر الليبية تعيش تحت خط الفقر. وأضافت الدراسة، التي أعدّتها أمانة اللجنة الشعبية العامة للتخطيط والمالية (رسمية)، إنّ عدد السكان تحت خط الفقر زاد من نحو 605 آلاف في 1992 ــ 1993 إلى نحو 739 ألفاً عام 2001، حسبما نقل موقع وكالة «ليبيا برس»، في لندن.
هذه الدراسة هي غيض من فيض التقارير التي تقول إنّ نحو 60 في المئة من القوة العاملة الليبية تعمل في القطاع العام، بأجور لم تتغير منذ عشرات السنين، كما أنّ تقرير الفساد الدولي لسنة 2010 يضع ليبيا في المرتبة الـ 146 من بين 178 دولة. كذلك أفادت تقارير دولية عن ارتفاع نسبة العاطلين من العمل إلى 25 في المئة.
وفي موضوع الحريّات، ليس خافياً على مراقب، سياسات السجون والقمع والمنع وكمّ الأفواه التي تمارسها السلطات الليبية منذ نجاح ثورتها في عام 1969. فلا أحزاب ولا صحف حرة أو مستقلة ولا رأي مخالفاً للعقيد، يمكن تمريره. قمع ظهر مع بداية الاحتجاجات في 17 شباط الماضي، حين اندفع المئات من الليبيين الى مدينة بنغازي في تظاهرة سلمية للتضامن مع عائلات ضحايا مجزرة سجن بوسليم (1996)، فتدخلت قوات الأمن وميليشيات اللجان الثورية لقمع المتظاهرين الذين أصيب منهم 38 شخصاً بجراح.
أمّا وصول الأمور الى ذروتها وانفلات العقدة الأساسية، فكانت بحافز من ثورتين مجاورتين؛ في الشرق ثورة النيل المصرية وفي الشمال الغربي ثورة الكرامة التونسية. هذا ما يفسّر القلق الليبي من انتقال الثورات إلى البلاد من جيرانها. قلق عبّرت عنه السلطات الليبية بتضييق الإجراءات على المسافرين الآتين براً من تونس والجزائر ومصر، منذ اندلاع الثورات، كأنّها استشعرت الخطر مبكراً.
ولا بد هنا من التذكير بمواقف القذافي التي تعاطفت مع الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي، في تناقض تام مع نبض الشارع العربي ومنه الشارع الليبي، والتي صبّت في غير مصلحة «ملك ملوك أفريقيا». مواقف تعززت بأداء للقذافي يجتر ما قام به الرئيسان المخلوعان.
ثمة ثورة ليبية حقيقية انطلقت في الشرق، حيث مدينة بنغازي التي كانت تاريخياً من أشرس المدن المقاومة للاستعمار الإيطالي، ومن أكثر المناطق رفضاً لسياسات السلطة، سواء كانت ملكية في عهد السنوسي سابقاً أو جماهيرية في عهد القذافي حالياً. وكانت السلطات الليبية تتبع، دائماً، سياسات تمييزية بين الشرق والغرب.
لكن في أي حال، اتخذت ثورات تونس ومصر وليبيا والبحرين واليمن والجزائر وغيرها، خصوصية معينة غير مسبوقة في تاريخ الثورات المعروفة. خصوصية تنأى بالثوار عن أي تنظيم أيديولوجي أو تشكيلات حزبية تقليدية أو حتى تيارات دينية تطالب بـ«حكم الله في الأرض». لقد تغيّرت صورة الثورات الحديثة المنطلقة من الشارع بطريقة عفوية والمُعززة بآليات تكنولوجية حديثة (فايسبوك وتويتر وغيرها من أساليب الاتصال والتواصل). أصبحت هذه الثورات، التي يمكن أن تستوعب من هم في أطر حزبية أو دينية أو نقابية، ثورات فضفاضة لا تتقيّد ببرنامج عمل مُسبق أو بمانيفستو يلتزم صيغة عمل الحزب ومبادئه وأهدافه السياسية والفكرية. ثورات تسعى الى المطالبة بحقوقها المهدورة في العيش والحرية والقيم الإنسانية عبر صياغة دستور يلائم تنوّع أطيافها ومشارب مواطنيها وطموحاتهم. دستور ينطلق من حاجات الناس وأهدافهم وطموحاتهم.
النقطة الأبرز هنا، أنّ الثورات التي تنطلق من وجع الناس وجراحاتهم، وتغيّر الواقع بدماء هذا الشعب وإصراره وتضحياته بعيداً عن أي تدخّل أجنبي، لا تتطلب حجماً من التضحية، بقدر الانخراط في مشاريع التغيير التي تأتي من الخارج. وهناك نماذج كثيرة على ذلك في العالم العربي، لعل آخرها في العراق، تبيّن كم يصبح البلد الذي «يتحرّر» من سلطته الديكتاتورية، بأيدي الاحتلال، مرهوناً لهذا الاحتلال سياسياً واقصادياً، فضلاً عما يتركه الاحتلال قبل رحيله، من فتن وقنابل موقوتة طائفية أو عرقية أو حتى حدودية، كما فعلت بريطانيا وفرنسا في البلدان العربية بعدما «حرّرتها» من الظلم العثماني عبر اتفاقية «سايس بيكو».
في النهاية، يبقى الاقتصاد هو الأساس بقطع النظر عن شكل الثورة وطبيعتها. الاقتصاد هو من دفع الدول الرأسمالية إلى دعم مكونات سياسية واجتماعية في بعض البلدان التوتاليتارية من أجل السيطرة على منابع النفط في هذه البلدان. كما أنّ الاقتصاد هو من دفع أبناء تونس ومصر الى الشارع لوقف مصادرة ثرواتهم ورغيف خبزهم من حيتان السلطة والمال والاستخبارات.

* من أسرة «الأخبار»