أجمعت القيادات الإسرائيلية من يمينها إلى أقصى يمينها، في خضّم سلسلة التحريضات المتطرفة المتتالية ضد حركة المقاطعة وعدم الاستثمار وفرض عقوبات على إسرائيل، «بي دي اس» ذات القيادة الفلسطينية، على رأي واضح وصريح ألا وهو ضرورة القضاء على الحركة قبل أن تتمكن من تحقيق أهدافها المتمثلة في الحرية والعدالة والمساواة. واتفق هؤلاء على أن «بي دي اس» تعتبر «خطراً استراتيجياً» على نظام إسرائيل الاضطهادي المركب من احتلال واستعمار وأبارتهايد، وهي سياسات تم تبنّيها من قِبل المؤسسة الحاكمة الصهيونية في إسرائيل منذ إنشاء الدولة.
وفي مؤتمرٍ رعته صحيفة «يديعوت أحرنوت» اليمينية بتاريخ 28/3/2016 تحت عنوان «أوقفوا بي دي اس» قام كل الوزراء والقادة اليمينيين والمتطرفين، باستخدام لغة تحريضية لا شك أنها مألوفة جداً للمناضلين ضد الأبارتهايد في جنوب أفريقيا.
وكان وزير الداخلية آرييه ديري قد دعا إلى طرد بعض نشطاء المقاطعة من فلسطين بحجة أنه: «لا يمكنك إعطاء خدك الأيسر لمن يصفعك على خدك الأيمن». أما أخطر تهديد فقد جاء من وزير الاستخبارات يسرائيل كاتس الذي استخدم لغة غامضة لإرسال رسالة إرهاب إلى نشطاء المقاطعة الفلسطينيين والعالميين قائلاً: «من الأفضل لكم إيقاف بي دي اس وإلا فإننا سنقوم (باغتيالات مدنية)». وأضاف موضحاً: «يجب أن نعمل على فضح الجهات الفاعلة، الأشخاص، النظام، الآليات، وصلاتهم بالمنظمات التي تخطت بالفعل عتبة النشاط العسكري والإرهابي، وقطعاً من خلال هذا نستطيع التصدي لهم والقيام بعزلهم ونقل المعلومات إلى وكلاء الاستخبارات في جميع أنحاء العالم. يجب أن نعلم أننا هنا في مواجهة معركة تحت غطاءات عديدة».
إن ما سبق يطرح أمامنا السؤال التالي: ما الذي يعنيه لنا هذا كنشطاء مقاطعة، وخاصة هنا في فلسطين؟
إنني شخصياً أعيش في غزة المحاصرة، وكنت شاهداً على ثلاث حروب شنيعة ارتكبتها إسرائيل بحق القطاع. وكنت على وشك أن أفقد حياتي أكثر من مرّة، لكني فقدت رفاقاً مقرّبين، زملاءَ، أقاربَ، وطلاباً. وكباقي أبناء قطاع غزة الصامد عشت صدمة نفسية لا تصفها كلمات بعد أن رأيت الرعب بكل أشكاله. فضلاً عن أنني مُنعت من حضور جنازتي والدي ووالدتي، وحُرمت من رؤية شقيقتي وأبنائها منذ أكثر من 16 عاماً حتى اليوم، رغم أنهم يقطنون في بيت لحم التي تبعد مسافة ساعة واحدة بالسيارة من هنا، وأعيش، كباقي أبناء القطاع المحاصر، ظروفاً حياتية صعبة بلا كهرباء ولا مياه صالحة للشرب منذ 2006.
وإنني كشخص رأى مذبحة أطفال عائلة بكر على شاطئ غزة وفي وضح النهار، وقرأ بمرارة أسماء أفراد 66 عائلة مُسحت من السجّلات المدنية بعد إبادتها بشكل كامل بالأسلحة الإسرائيلية، كان عليّ أن أحارب بوعيٍ تامٍ إمكانية أن أتحول إلى مجرد رقم في تقاريرٍ إخباريٍة غربية لا يهمها سوى الأرقام إذا كانت الضحية فلسطينية!
إن 2200 إنسان من بينهم 551 طفلاً في عام 2014، ومثلهم 1200 إنسان من بينهم 443 طفلاً في عام 2009، بالإضافة إلى 200 إنسان في عام 2012، لم يحالفهم الحظ مثلما حالفني، وكانوا ضحايا الآلات الحربية الإسرائيلية ومؤامرة الصمت الدولية.
والآن، وبعد كل ذلك، يأتي من يخبرني، وبسبب مطالبتي اللاعنفية بمسائلة إسرائيل، وهذا ما تفعله «بي دي اس»، وعلى الرغم من فشل المجتمع الدولي في تحميل إسرائيل مسؤولية جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية، إنني وزملائي معرّضون «لاغتيالات مدنية»، ما لم نكن عبيداً مطيعين مثل العم توم الأميركي «الأسود» لدولة إسرائيل «الديموقراطية».
فما الذي فعلناه نحن نشطاء المقاطعة حتى يصل قادة إسرائيل إلى حافة الجنون الذي أبدوه في مؤتمر «يديعوت احرنوت» آنف الذكر؟
فبعد كل ما مررنا به من مآسي وظلم وقهر منذ عام 1948 حتى اليوم، هل يعتقد نظام الأبارتهايد الإسرائيلي حقيقة أننا سنتراجع عن أنبل ظاهرة نضالية مارسها الشعب الفلسطيني؟ هل أبدى أي قائد من الحركات المناهضة لنظام الأبارتهايد والمقاومة للاستعمار أي ضعف في مواجهة تهديدات شبيهة؟ هل أوقف ملايين الجنوب أفارقة والسود في أميركا والهنود نضالهم ضد العنصرية واللامساواة والاستعمار عند تعرضهم لتهديدات شبيهة؟
لا لم يفعلوا!
بل إن التاريخ خلّد ألمع الأسماء في التاريخ المعاصر، مثل المهاتما غاندي ونيلسون مانديلا وستيف بيكو ومارتن لوثر كينج وروزا باركس. وكان أيقونة النضال المدني ضد الاستعمار البريطاني المهاتما غاندي قد أخبرنا أنهم «في البداية يتجاهلونك، ثم يضحكون عليك، ثم يحاربونك، ثم تنتصر».
وبالنظر إلى إنجازات المقاطعة في العشر سنوات الأخيرة حتى اليوم، نستطيع أن نقول إننا الآن ننتصر.
فكما قال لنا أيقونة النضال ضد الأبارتهيد العنصري نيلسون مانديلا: «إن حرية جنوب أفريقيا لن تكتمل إلا بحرية الفلسطينيين» وغني عن الذكر أنه كان سيُعتقل، إن لم يتعرض للاغتيال، لقوله شيئاً كهذا في إسرائيل اليوم.
ولا يغيب عن ذهني ستيف بيكو، مؤسس حركة الوعي الأسود. إن رجال التحقيق العنصريين الذين قاموا باغتياله لا يسمع بهم أحد لأنهم ببساطة حجزوا مكاناً لهم في مزبلة التاريخ، وهي نفس المزبلة التي يرقد بها آرئيل شارون، مناحيم بيغين، اسحاق شامير، اسحاق رابين، وموشيه ديان، وقريباً كل أولئك الوزراء وقادة المعارضة الصهاينة الذين يعتبرون أن مطالبتنا بتطبيق الحرية والمساواة تشكّل «خطراً وجودياً» على دولة إسرائيل.
إن المأساة الحقيقية لفلسطين ما بعد أوسلو لا تكمن في أن الغالبية الساحقة من الفلسطينيين لم يتم سؤالهم إذا ما كانوا يريدون حقاً حكماً ذاتياً إدارياً محدوداً، بل أنهم حُرموا من استخدام أدوات للتفاوض حول خلق واقع جديد يتخطى الأمر الواقع الذي فرضه الاحتلال. ألم يصبح من الواضح وضوح الشمس أن نظام الفصل العنصري الإسرائيلي قام بالتوقيع على اتفاقيات أوسلو وقدم لنا «حكماً ذاتياً محدوداً» لأن هذا لا يكلّفه شيء؟
من هنا تأتي أهمية حركة «بي دي اس»، والتي تعبّر عن تصميمنا على تطوير خطابنا الفلسطيني، ورغبتنا في تحقيق العدالة والمساواة. بكلمات أخرى، إن ما يحرّك «بي دي اس» هو رغبتنا في تحرير عقولنا من سرطان الاستعمار، ومن فيروس أوسلو، في طريقنا للوصول إلى التحرير بعيداً عن هلوسة «الاستقلال» التي تتصّدر الواجهة.
وإن الادّعاء بأن النضال من أجل العدالة والمساواة هو معاداة للسامية، لا يختلف شيئاً عن الادّعاء بأن مانيدلا كان عنصرياً مثلاً، أو أن غاندي كان عنيفاً! ومن هنا، فإن خياراتنا كنشطاء مقاطعة مفتوحة على احتمالين: إما السير على خطى بيكو ومانديلا وغاندي وباركس وكينج، أو اتخاذ قادة البانتوستانات سيئة السمعة مثل منجسوثو بوتيليزي ولوكاس مانجوبي قدوة لنا.
وخيارنا واضح، لأنه الخيار الوحيد الذي سوف يقودنا نحو تحرير فلسطين، وتحقيق السلام والعدل لكل سكانها.

* مستشار سياساتي في شبكة السياسات الفلسطينية «الشبكة»، وأستاذ جامعي في جامعة الأقصى -غزة