الاستفتاء الشعبيّ على التعديلات الدستوريّة


تواجه عملية الانتقال الديموقراطي في مصر تحدّياً مهماً اليوم، إذ يقترع المصريون، لأوّل مرّة منذ عقود، في انتخابات حرّة ونزيهة، وفي أوّل استحقاق سياسي بعد ثورة 25 يناير/ كانون الثاني، وذلك للاستفتاء على مواد الدستور التسع التي عملت على تعديلها لجنةٌ دستورية ألّفها المجلس الأعلى للقوّات المسلّحة برئاسة المستشار طارق البشري وعضويّة ستّة أعضاء (ثلاثة قضاة من المحكمة الدستورية العليا وثلاثة من أساتذة القانون الدستوري).

وتتعلّق التعديلات بشروط ترشّح رئيس الجمهورية ومدّة الرئاسة وضمانات العملية الانتخابية وقواعد إعداد دستور جديد، فيما لم تتطرّق إلى المواد المتعلقة بالصلاحيات الممنوحة للرئيس (نحو 36 مادة). وستؤلفّ التعديلات الدستورية ـــــ في حال الموافقة عليها ـــــ دستوراً مؤقّتاً يحكم المرحلة الانتقاليّة، وينظّم عمليّة الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقبلة، إلى حين إعداد دستور جديد. أمّا في حال رفض التّعديلات، فإنّ ذلك من شأنه أن يمدّد المرحلة الانتقالية ويمثّّل تحدّياً صعباً للمجلس العسكري الذي يسعى إلى إقرار التعديلات لتكون بمثابة إعلان دستوري يحكم المرحلة الانتقالية وينظّم الاستحقاقات السياسية المقبلة. وكان الإعلان الدستوري الذي أصدره المجلس العسكري يوم 13 فبراير/ شباط قد عطّل العمل بالدستور الحالي المعروف بدستور 71، وبذلك انتقلت إليه كل السلطات الدستورية.
وفي خطوة إجرائية وغير مسبوقة لضمان نزاهة العملية الانتخابية، يصوّت المصريّون ببطاقات الرقم القومي لا بالبطاقات الانتخابية. ويقتصر دور وزارة الداخلية على تأمين العملية الانتخابيّة، فيما سيكون القضاء هو الجهة الوحيدة المنوط بها الإشراف على العملية الانتخابية.
يجري الاستفتاء على تعديل المواد الرقم (75، و76، و77، و88، و93، و193، و148)، إضافة إلى إلغاء المادة 179، وكذلك إضافة فقرة أخيرة إلى المادة 189، ومادتين جديدتين برقمي 189 مكرّر، و189 مكرر «1». أهمّ التعديلات على الإطلاق هي التي تطال المواد 75، و76، و77 التي حدّدت شروط ترشيح الرئيس وطرق ترشّحه ومدّة الرئاسة التي قُلّصت إلى أربع سنوات ـــــ بدلاً من ستّ في النص القديم ـــــ تجدّد مرّة واحدة فقط. المادة 88 تتعلّق بإعادة العمل بالإشراف القضائي الكامل على الانتخابات، والمادتان 189 مكرر و189 مكرر 1 اللتان حدَّدتا طريقة إعداد دستور جديد والجهات الملزمة بإعداده.
ويأتي الاستفتاء في سياق سياسي مشحون، وسط حالة من الانقسام الحاد داخل الجماعة الوطنيّة المصريّة، حيث برز تيّاران أساسيّان: الأوّل تمثّله جماعة الإخوان المسلمين والمجلس العسكري الذي حثّ المصريّين على التّصويت بـ«نعم». يرى هذا التيّار أنّه لا بدّ من التصويت على التعديلات باعتبارها وثيقة دستورية مستقلّة، لا باعتبارها جزءاً من دستور معطّل وهدفها هو تنظيم انتقال السلطة، وأنّ الظروف الحالية لا تسمح بالعمل على دستور جديد. فالمشكلة ليست في صياغة دستور أو كتابته، بل في تحقيق إجماع وطني على بنوده، ولا سيّما في ما يتعلّق بمصير المادة الثانية التي تنصّ على أنّ الشريعة الإسلاميّة هي مصدر رئيس للتّشريع، وشكل النظام السياسي ونسبة الخمسِين في المائة للعمال والفلاحين. ويرى هذا التيار أيضاً أنّه لا بدّ أن تعدّ الدستور الجديد هيئةٌ منتخبة لا هيئة مختارة من المجلس العسكري.
أمّا التيّار المعارض، وهو يشمل تياراً عريضاً من ائتلاف شباب ثورة 25 يناير وحركة 6 أبريل وجبهة التغيير، التي يرأسها محمد البرادعي ومجموعة الأحزاب السياسية، التجمع والناصري والوفد، فهو يعدّ التعديلات التفافاً على مبادئ الثورة.
وعموماً، لم توجه الاعتراضات إلى التعديلات نفسها بقدر ما وُجّهت ضد ما لم يُعدَّل، أي الصلاحيات المنوطة برئيس الجمهورية. وقد عكست تخوّفاً مشروعاً من إعادة إنتاج النظام الاستبدادي عبر عدم تعديل سلطات الرئيس واختيار المجلس العسكري الانتقائي لمواد بعينها لتعدّل، فيما تُركت صلاحيات الرئيس. وثمة خشية لدى هذا التيار من أن يكون في وسع رئيس الجمهورية الذي ستفرزه الانتخابات الرئاسية المقبلة، التي يتعيّن حتماً إجراؤها قبل نهاية المرحلة الانتقالية، ممارسة تأثير مباشر في عمل اللجنة التأسيسية، وخصوصاً بالنسبة إلى المواد المتعلقة بصلاحياته وفترة ولايته. كذلك فإنّ هناك تخوّفاً من أن تفضيَ الانتخابات التشريعية المبكرة إلى تقاسم كلّ من الإخوان وفلول الحزب الوطني لمقاعد الهيئة التّشريعية. فالقوى السياسية الأخرى ـــــ ولا سيما قوى الثورة ـــــ لا تزال تفتقد التنظيم الكافي لاجتياز اختبار الانتخابات. هذا إلى جانب التخوّف أيضاً من عقد الاستفتاء في ظل استمرار حالة الانفلات الأمني وغياب الشرطة ومحاولات النظام السابق إحداث حالة من الفوضى في البلاد. ويقترح هؤلاء إصدار إعلان دستوري يتضمّن المواد الأساسية لإدارة شؤون البلاد إلى حين وضع دستور جديد، وتأليف مجلس رئاسي من مدنيّين اثنيْن وعسكري واحد لإدارة شؤون البلاد، خلال فترة انتقالية مدّتها ستة شهور على الأكثر، يكون من صلاحياته إصدار مراسيم بقوانين، من بينها مرسومٌ ينظم إنشاء الأحزاب السياسية، وتأليف لجنة من حوالى 50 عضواً من السّياسيين والمفكّرين وأساتذة القانون الدستوري لإعداد مشروع دستور جديد كامل للبلاد خلال شهر على الأكثر.
ورغم تصاعد مطالب اللحظة الأخيرة بالتأجيل أو الإلغاء واستبدال الاستفتاء بإعلان مبادئ دستورية أساسيّة يستند إلى شرعية الثورة، إلّا أن من اللافت أنّ القوى السياسية لم تطالب بمقاطعة الاستفتاء، بل هناك دعوات للذهاب إلى صناديق الاقتراع وممارسة حقّ الانتخاب والتصويت بـ«لا» أو «نعم».
يأتي الاستفتاء أيضاً في وقت تزداد فيه المخاوف من وجود دلائل قويّة على ثورة مضادّة لإجهاض مكتسبات الثورة، تقوم بها عناصر من الحزب الوطني ورجال الأعمال المرتبطين بهم وعناصر من جهاز أمن الدولة المنحل، وسط استمرار التظاهرات لتحقيق مطالب فئوية وحالة أمنية غير مستقرة. دفع هذا الأمر المجلس العسكري إلى إصدار تحذير ضدّ تنفيذ مسيرات أو تجمّعات أو اعتصامات يوم التصويت على الاستفتاء، مؤكّداً أنّ كلّ من يحاول التعرّض لعملية الاستفتاء أو إعاقتها «تطبَّق عليه أحكام قانون البلطجة».
هذا الاستفتاء هو بمثابة خطوة أولى على طريق مجموعة من الاستحقاقات السياسية المتوقّعة خلال المرحلة الانتقاليّة، ومنها الانتخابات التشريعية والانتخابات الرئاسية، رغم تباين الآراء حيال أيّهما يجب أن يُعقد أوّلاً.
وثمّة إجماع، حتى بين صفوف الخبراء الدستوريين الذين شاركوا في لجنة التعديلات الدستورية، على أنّه يجب تغيير الدّستور الحالي، لا تعديله، فهو «دستور فاسد»، بحسب تعبير الفقيه الدستوري إبراهيم درويش، لأنّه كان معبّراً عن المناخ السياسي والاقتصادي والاجتماعي قبل ثورة 25 يناير. إلا أنّ هؤلاء يقرّون بأنّ إعداد دستور جديد يتطلّب لجنة تأسيسيّة يؤلفها برلمان منتخب، لا المجلس العسكري، ولن ينتهيَ عملها قبل عام. كذلك فإنّ إعداد دستور جديد من شأنه أن يفتح باباً لن يقفل للجدَل، بشأن بعض المواد ذات الحساسيّة، ومنها المادّة الثانية في الدستور (الإسلام دين الدّولة واللّغة العربية لغتها الرسمية والشريعة الإسلامية ومبادئ الشريعة مصدران رئيسان للتّشريع). وعلى حدّ تعبير أبي العلا ماضي، أحد مؤسّسي حزب الوسط، ذي التّوجّه الإسلامي، فإنّ الحديث عن تغيير الدّستور «قد يفجّر المجتمع من الدّاخل».
ويدافع فقهاء الدّستور عن المادة 75 التي لاقت معارضة، لكونها تركّز على ما يُعرف بـ«نقاء الجنسية» لرئيس مصر، إذ اشترط التعديل ألّا يحمل المرشّح للرئاسة أيّ جنسية أخرى غير الجنسيّة المصرية، وألّا يكون مقترناً بغير مصريّة. يقول أحد الأعضاء المشاركين إنّ اللّجنة استهدفت «تحصين المنصب»، نظراً إلى محوريّة الدّور الذي تقوم به مصر، وكذلك أكّدوا أنّ التعديل لا يحرم المرأة من حقّ الترشّح لمنصب الرئاسة. ويدافع المستشار البشري أيضاً عن التّعديل بقوله إنّ مسألة ازدواج الجنسية صدرت بها أحكام من المحكمة الإدارية العليا بالنسبة إلى أعضاء في البرلمان، مع العلم بأنّ منصب رئيس الجمهورية أهمّ، وقانون السّلك الدبلوماسي والعسكري يمنع زواج أيّ عضو في السلك الدبلوماسي من أجنبية، والأولى أن يحصل ذلك بالنسبة إلى رئيس الجمهورية.
وتُعدّ هذه التعديلات التي يُستفتى عليها مرحلةً أولى، تليها مرحلةٌ لاحقة تتعلق بتعديل نصوص القوانين المكمّلة أو المتفرّعة عن النّصوص الدستورية التي عُدّلت، وهي قوانين مباشرة الحقوق السياسية، وقوانين مجلسيْ الشعب والشورى، وقانون انتخاب رئيس الجمهورية.
أمّا بالنّسبة إلى موقف جماعة الإخوان المسلمين، فمن الواضح أنّ الجماعة تدفع بقوّة في اتّجاه سيناريو الموافقة، من أجل المضيّ في تنفيذ بقية الاستحقاقات الأخرى، وعلى رأسها الانتخابات البرلمانية. ومن شأن الاستفتاء أن يُظهر ـــــ ربما لأوّل مرة منذ عقود ـــــ الكتلة الانتخابية الحقيقية للإخوان، ومدى قدرتها على التأثير. كذلك فإنّ الجماعة، في سعيها إلى إمرار التعديلات، مدفوعة بهاجس عدم تمديد حكم العسكر للبلاد والانتقال إلى وضع ديموقراطي. غير أنّ سعي الإخوان يصطدم بعقبات عدّة، أهمُّها المخاوف التي عبّر عنها أكثر من تيار سياسي، ولا سيّما ثوار 25 يناير، من أنّ الإخوان هم من سيقطفون ثمار الثورة بالسّيطرة على الهيئة التشريعية أو تقاسمها مع فلول الحزب الوطني إن جرت الانتخابات البرلمانية وفق الجدول الزمني الذي أقرّته القوّات المسلّحة (على الأرجح حزيران/ يونيو). ورغم سعْي الإخوان لى تبديد مخاوف الجماعة الوطنية المصرية بالتأكيد أنّ مبدأ الإخوان سيكون «مشاركة لا مغالبة»، وأنّ الجماعة تعهّدت بألا تترشّح لأكثر من ثلث المقاعد (من أصل 510)، وهي لن ترشّح أحداً في الانتخابات الرئاسية. بل إنّ عضو مكتب الإرشاد عصام العريان أعلن استعداد الإخوان لخوْض الانتخابات «بقائمة وطنية موحّدة»، يشارك فيها شباب الثورة ومن يرغب من القوى السّياسية.
أمّا في حال عدم الموافقة على التعديلات الدستورية، فهناك سيناريوان:
إمّا أن تُعدّل مواد أخرى (منها المواد المتعلقة بصلاحيات الرئيس) آخذين في الاعتبار ملاحظات المعارضين ثم تُعرض على الاستفتاء للمرّة الثانية.
وإمّا أن يستجيب المجلس لمطالب المعارضين بإصدار بيان دستوري ببنود معدودة، يحدّد آليات إدارة الفترة الانتقالية، وصلاحيات المجلس الرئاسي المدني المزمع تأليفه وسلطاته، وتأليف جمعية تأسيسية لوضع دستور جديد للبلاد، وإطلاق الحرّيات العامة والتنظيمات النقابية.
من شأن نتائج الاستفتاء أن توضح ما إذا كانت عمليّة الانتقال الديموقراطي في مصر ستُحكم عبر تعديل الدستور أو تعطيله تماماً ووضع دستور جديد. والأهمّ أنّه سيكون بمثابة إشارة مهمة إلى تحديد القوى التي ستمثّل عملية الانتقال الديموقراطي وتؤثّر فيها، ومعرفة أوزانها الحقيقية في صندوق الاقتراع. وفي كل الحالات، يبدو لنا أنّ عملية التحوّل الديموقراطي في مصر لا تزال في بداياتها، وأنّ المعارك المقبلة على الرئاسة وعلى السلطة التشريعية هي التي ستحسم: هل يستند نظام حكم قائم على مبادئ الثورة، أو مجرد عملية إصلاح للنظام السابق.






الموقف التركي من ثورة 17 فبراير



مثّل الموقف التركي المعارض للدعوات الدولية المتزايدة إلى فرض منطقة حظر جوي على ليبيا نقطة استفهام لدى عدد من مراقبي الحراك على الساحة الدولية المرتبط بمسار الأحداث في ليبيا.
وصفت تركيا الدعوة إلى منطقة حظر جوي بأنّها غير «مفيدة وتنطوي على مخاطر»، وقال رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان إنّ «التدخّل العسكري من قبل حلف شمالي الأطلسي في ليبيا أو أي دولة أخرى ستنجم عنه أثارٌ عكسية تماماً». وعلى خلاف الموقف التركي، فقد أيّدت دولٌ عدّة، كبريطانيا وفرنسا، فرض حظْر جوّي على ليبيا، فيما لا يزال الموقف الأميركي يشوبه نوع من الغموض، وخاصّة في ظلّ غياب موقف واضح للقوى الكبرى (الصين، روسيا) [كان ذلك قبل جلسة مجلس الأمن أول من أمس].
وقد تناولت التحليلات العربية والغربية موقف تركيا من مسألة الحظر الجوّي بالنقد، وخاصّة أنّ تركيا سبق أن شاركت في عدّة مهمات تدخّل فيها حلف الناتو، كما حصل في البوسنة والهرسك، وكوسوفو، وأفغانستان.
لا يمكن قراءة الموقف التركي الحالي بالاستناد إلى مواقف سابقة أدّت تركيا في بعضها دور المحرّض لإنتاج التدخّل العسكري. ولغرض الاستدلال علمياً، لا بدّ بدايةً من عملية استقراء موضوعية للمواقف السابقة، ووضْعها في سياقها التاريخي مع مراعاة طبيعة النظام الدّولي، والمصلحة القوميّة للدول التي تعدّ المحدّد الرئيس لسياساتها الخارجية.
مثّل تعريف الناتو وتحديد هويّته، بعد انهيار حلف وارسو، مدخلاً لنقاشات عدّة، وخاصّة بعد أن ساد تفاؤل بتراجع دور الأحلاف والتنظيمات العسكرية. وجرى بعد قمّة روما، في 1991، تحديد الفهم الاستراتيجي الجديد للناتو وتعيين مهمّته في إطار «المحافظة على التوازن الاستراتيجي في أوروبا».
وبفعل أزمة البوسنة والهرسك، تعزّزت فكرة أنّ الأدوات الداخلية الأوروبية أضعف من التعامل مع معطيات تهدّد التوازن الاستراتيجي في أوروبا ذاتها. وكادت تسود فكرة أنّه لولا العمليات العسكرية للناتو، لما كان هناك مجال لهذا التوازن في أوروبا الشرقية أن يتغيّر أصلاً. لذلك، كان ضرورياً إيجاد دور تدخّلي للناتو اتُّفق عليه في 1995، في ما عُرف بـ«اتفاق دايتون»، وأصبح بموجبه الحلف ذراعاً لتدخّل الأمم المتّحدة.
كذلك فإنّ التدخّل في كوسوفو جاء بعد مناقشات بشأن تجديد مهمة الحلف الاستراتيجية، وخاصة عندما عمد الناتو مع الولايات المتّحدة إلى ملء الفراغ الذي حصل في التوازن الاستراتيجي بعد انتهاء الحرب الباردة في وسط أوروبا وغربها.
وفي إطار هذه التنظيرات، تطوّرت علاقات تركيا مع حلف شمالي الأطلسي بعد الحرب الباردة، عبر تقاطعات عدّة أبرزها العلاقات التركية ـــــ الأميركية وعلاقات تركيا مع الاتحاد الأوروبي وعلاقات الولايات المتحدة الأميركية مع الاتحاد الأوروبي.
فقد رأت تركيا في العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية بديلاً من علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي، عندما تتعثر المفاوضات مع الاتحاد. وقد اعتمدت على محور حلف شمالي الأطلسي من أجل دعم هذه العلاقة، فيما عدّت أميركا تركيا لاعباً فاعلاً في البلقان وشرق أوروبا والشرق الأوسط عندما تتعارض سياسته الأولى مع الدّول الأوروبية.
يمثل تدخّل حلف شمالي الأطلسي في البلقان، وما نجم عنه من وضع دولي، أكثرَ الأمثلة وضوحاً على ذلك، إذ أرادت تركيا إقامة توازن بين العناصر البوشناقية والألبانية، وأحسّت بضرورة الاهتمام بمستقبل هذه العناصر. ومن خلال توافق مصالحها في هذا الشأن مع مصالح الولايات المتحدة الأميركية، وخاصة التعاون في منطقة حوض بحر قزوين الغنية بالبترول ودول آسيا الوسطى، استطاعت تركيا أن تُقنع الولايات المتحدة الأميركية بتدخل عسكري في إطار الأطلسي في البوسنة والهرسك، ثم في كوسوفو، رغم معارضة العديد من الدول الأوروبية.
بعد هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، ازدادت أهمية تركيا باعتبارها طرفاً رئيساً و«مسلماً»، في إطار ما عُرف بـ«الحرب على الإرهاب»، إذ تجاوبت تركيا مع المعطيات التي طبعت النظام الدولي في تلك المرحلة، فازداد التعاون اللوجستي والاستخباري مع الولايات المتّحدة، وتجاوبت تركيا مع التوجّه الأميركي لتفعيل المادة 5 من معاهدة الدّفاع الخاصة بحلف الناتو التي تفرض على جميع الأعضاء في الحلف تقديم جميع أشكال المساعدة لأيّ دولة تواجه عدواناً خارجياً. وسهّلت تركيا استخدام القوات الأميركية أراضيها ومجالها الجوّي لبدء الحرب على أفغانستان في أكتوبر/ تشرين الأوّل 2001.
وكان هذا الدور محلّ تقدير الولايات المتحدة وإعجابها، التي استفادت معنوياً ورمزياً من مشاركة دولة مسلمة في إطار حربها على أفغانستان، وخاصة بعد إرسال تركيا ما يقارب 1200 جندي لتقديم العون لقوّات الدّعم والإسناد التابعة لحلف الناتو. ولا تزال تركيا تؤدي دوراً مهماً في إطار تقديم العون اللوجستي والتدريبي لقوات الجيش والشرطة الأفغانية.
مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في تركيا، بدأت محدّدات العلاقات التركية مع حلف شمالي الأطلسي تأخذ شكلاً جديداً، وخاصة مع محاولة تركيا تعريف دورها في إطار سياسة «متعدّدة الأبعاد» في الدّوائر الجيوسياسية المختلفة، وخاصّة في الدائرة الشرق أوسطيّة التي شهدت حركة نشطة للدبلوماسية التركية خلال العقد الأوّل من القرن العشرين.
حرصت تركيا، في الأسابيع الأولى من عمر الثورة الليبية، على عدم إصدار أيّ موقف رسمي يحدّد خياراتها تجاه أحد الطرفين. فقد انتهجتْ في تعاطيها مع الأزمة الليبية مبدأ «عدم إنتاج ردّ فعل». ورغم وجود رأي عام من جمهور حزب العدالة والتنمية يساند حركة 17 فبراير، إلّا أنّ ذلك لم يجعل حكومة حزب العدالة والتنمية تتوافق مع الحملة السياسية والإعلامية ضدّ نظام القذافي، وخاصّة بعد المجازر التي ارتُكبت بحقّ الشعب الليبي.
مثّل العقد المنصرم أوّل خروج حقيقي للسياسة الخارجية التركية عن الدائرة الغربية (الأطلسية والأوروبية)، وخاصّة بعد احتلال العراق وظهور معضلة أمنية بالنسبة إلى تركيا على حدودها الجنوبية. من هنا بدأت العدسة الجيوستراتيجية التركية تركّز على الدّائرة الشرق أوسطية كدائرة فاعلة في سياساتها (المتعدّدة الأبعاد). واستطاعت تركيا تحقيق قفزات نوعيّة على مستوى تطوّر العلاقات بينها وبين دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وخاصّة في ما يتعلّق بمستوى التبادل التجاري والتعاون الاقتصادي مع هذه الدّول، التي وجد فيها الدور التركي ترحيباً وقبولاً شعبياً لاعتبارات ثقافية عديدة.
انعكس التوجّه التركي على العلاقات مع ليبيا، فقد وصل مستوى التبادل التجاري بينهما عام 2010 إلى 9,8 مليارات دولار، وأعلنت ليبيا أنّها ستقدّم استثمارات بقيمة 100 مليار دولار للشركات التركية حتى عام 2013. وأعلنت استثمارات في قطاع التشييد وصلت قيمتها إلى 15 مليار دولار، مُنحت إلى الشركات التركية في هذا المجال. ومنذ عام 2010 دخل حيّز التنفيذ 160 مشروعاً استثماريّاً تركيّاً في ليبيا.
أمّا على المستوى السياسي، فقد ارتبطت تركيا مع القذافي بعلاقات يمكن وصفها بالتاريخية. ومن محطاتها المهمة وقوف العقيد القذافي إلى جانب تركيا أثناء التدخل العسكري في قبرص عام 1974، وتعزيز العلاقات الليبية التركية على نحو كبير في عهد حزب العدالة والتنمية، مع دعوة ليبيا لرئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان ضيفاً مشاركاً في القمّة العربية في سرت 2010. وقد عمل العقيد القذافي على استثمار رمزية وجود أردوغان للدعاية لسياسته الثلاثية الأبعاد (العربي، الأفريقي، الإسلامي).
انطلاقاً من ذلك، ونتيجة لتعاظم الفاعلية التركية في شمال أفريقيا على حساب الدول التقليدية كفرنسا، فسّرت تركيا السعي إلى استصدار تدخّل عسكري للناتو على أنه فرصة للدول الكبرى، وخاصة فرنسا، لاستعادة نفوذها التقليدي في شمال أفريقيا. وهو ما يهدّد المصالح التركية والدور التركي في هذه المنطقة، وخاصّة بعد أن دأبت فرنسا على أن تكون الركيزة الأساسية لمعارضة أيّ تقدم حاصل في المساعي التركية للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. ويمكن الدلالة على ذلك من خلال تصريحات سابقة لوزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو أواخر العام الماضي عندما قال «نحن العثمانيون الجدد»، في إشارة إلى تنامي الدور التركي في شمال أفريقيا على حساب الدول الكبرى. وفي لهجة سادها نزوع إلى التحدّي، قال داود أوغلو في 24/11/2010: «لقد أعطيت أوامري إلى الخارجية التركية بأن يجد ساركوزي (الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي)، كلّما رفع رأسه في أفريقيا، سفارة تركية عليها العلم التركي».
تدرك حكومة العدالة والتنمية أنّ موقفها من تطوّرات الأحداث في ليبيا سيؤدّي إلى ردّ فعل سلبي في أوساط الشعب المساند بدرجة كبيرة لثورة 17 فبراير، وخاصّة أنّ أردوغان اتّخذ موقفاً متقدماً خلال الثورة المصرية. كذلك كان من الشخصيات السبّاقة الدّاعية إلى تنحّي مبارك، انطلاقاً من حجم التأييد الشعبي لثورة 25 يناير في تركيا، وذلك رغم أنّ استعادة مصر لدورها الطبيعي في الدائرة العربية سيكون لها تأثير في التغلغل التركي ونفوذه في هذه المنطقة.
كذلك سيكون للموقف التركي غير المفهوم للرأي العام انعكاسات على التجاذب الحاصل في الحياة السياسية التركية، إذ ستجد أحزاب المعارضة العلمانية، وخاصةً حزب الشعب الجمهوري (CHP) وحزب الحركة القومية (MHP)، ذريعةً لتجنيد رأي عام يسبق الانتخابات البرلمانية التي ستجري في شهر يونيو/ حزيران المقبل، يتهم حزب العدالة والتنمية بتجاهل الدائرة الغربية كدائرة حاضنة للتوجّهات الجيوسراتيجية للسياسة الخارجية التركية مقابل دعم أنظمة «ديكتاتورية» في الدائرة الشرق أوسطية.
في المحصلة، إنّ براغماتية الموقف التركي ناتجة من واقعية السياسة الخارجية التركية التي تسعى، شأنها شأن الدول الغربية، إلى الموازنة بين حسابات الربح والخسارة في مصالحها القومية قبل إنتاج أيّ موقف تدخّلي في ليبيا. لذلك، بعد قرار فرض الحظر الجوّي على ليبيا، قدْ تطلب تركيا تفعيل «مبادرة إسطنبول» للتعاون بين الناتو ودول الخليج العربي، ما يحقق ضمان مشاركة عربية في أيّ تدخل للناتو في ليبيا. وسبق أن أكدت الدول العربية المذكورة استعدادها للمشاركة، من دون حاجة للعودة إلى اتفاقية إسطنبول.
لا شك في أنّ موقف الحكومة التركية الحالي من العقيد القذافي والثورة في ليبيا قد ألحق ضرراً بصورة تركيا عند العرب، وذلك بعد أن حققت تقدماً في عهد أردوغان نفسه.