إنه المشهد نفسه تكرّر. متظاهرون سلميّون تهاجمهم قوى الأمن و«البلطجيّة» لتفريقهم و«عدم تعكير الاستقرار». المشهد ليس في اليمن أو ليبيا أو البحرين، هو في غزّة. قوى الأمن هي حركة «حماس» الحاكمة، التي يبدو أنها لم تتعلّم من التجارب المحيطة، وأن زمن القمع الأمني أصبح خارج السياق السياسي للتعاطي مع الحركات الشعبية. فالدول العربية، التي لا تزال بعيدة عن رياح الثورات، تعمد إلى تكثيف تقديم ما تيسّر من تنازلات إلى شعوبها لتجنّب الكأس المرّة التي لا شك في أنها ستدور على الجميع.غير أن «حماس» لا تبدو سائرة على هذا الدرب. فللحركة الإسلامية دربها الخاص. درب قائم على عقلية أمنية طوّرتها من مواجهتها مع الاحتلال الإسرائيلي. غير أن هذه العقلية لا يمكن اعتمادها في الداخل في مواجهة متظاهرين، مهما كانت المبررات التي عمد مسؤولو الحكومة المقالة إلى سوقها للدفاع عن استخدام القوّة.
استخدام للقوة، بغض النظر عن العنوان السياسي للاعتصام، الذي للمفارقة لم يكن موجّهاً ضد «حماس»، بل حمل عنواناً من المفترض أن يكون جامعاً، «الشعب يريد إنهاء الانقسام». وهو شعار ترفعه «حماس» في العلن، لكن يبدو أنها ترفضه في السرّ، وعلى هذا الأساس كان قمعها للتظاهرة، التي أتت لاحقة لاجتماع الفصائل الذي كان مسرحاً للتعالي «الحمساوي» على باقي الأطراف في الساحة الفلسطينية عموماً، وساحة غزّة على وجه الخصوص.
تعالٍ كان ممهّداً لأحداث ساحة الكتيبة وما تلاها، والتي تسرّبت رغم المنع الذي فرضته «حماس» على وسائل الإعلام التي لا تنقل روايتها. لعل «حماس» لم تدرك بعد أيضاً أن زمن الإعلام الرسمي الناقل لتصريحات السلطات قد انتهى، وأن الإعلام اليوم هو لكاميرات الهواتف المحمولة وشبكات التواصل الاجتماعي التي تنقل الأحداث بالصوت والصورة. الصوت والصورة هنا لم يكونا في مصلحة الرواية التي أعلنها المتحدث باسم الحكومة المقالة طاهر النونو، ولا سيما أن الاعتداءات استهدفت إعلاميين بالدرجة الأولى.
«اشتباكات حدثت في الساحة بين المعتصمين أنفسهم، والشرطة فقط تدخلت لضبط الأوضاع»، هذا كان التبرير الرسمي للتدخّل في ساحة الكتيبة. الرواية تحمل عوامل نفيها، ولا سيما من السياق السابق لبدء الاعتصام، الذي كان مقرّراً في ميدان الجندي المجهول الذي احتله أنصار «حماس» بشعاراتهم وراياتهم المناهضة للهدف الأساسي للتظاهرة، ما حوّلها إلى مسيرة لتكريس الانقسام بدل إنهائه. واقع دفع شباب «15 آذار» إلى الانسحاب إلى ساحة الكتيبة، ما يعني أن المنسحبين من لون واحد وأصحاب شعار واحد، حتى لو اختلفت انتماءاتهم، ومهما كانت الاشتباكات بينهم، في حال حدوثها، فإنها لا تستدعي تدخّل قوات لقمعها.
رواية «حماس» واجهتها رواية المتظاهرين، التي تشير إلى أن شبيبة الحركة عمدوا إلى التحرّش بهم وافتعال إشكالات تسمح بتدخّل الأمن «الحمساوي». الرواية لها امتدادتها من الثورات العربية. فالأمن في مصر وتونس واليمن لم يكن ليتدخل لولا تحرّشات «البلطجية».
وفيما تبقى رواية المتظاهرين غير موثّقة، من الممكن طرح تساؤل أساسي بشأن عملية القمع اللاحقة في جامعة الأزهر، حيث كانت تتمركز مجموعة من المعتصمين للمطالبة بإنهاء الانقسام. لم يكن هناك إشكالات بين المتظاهرين، ولا تحرّشات، ومع ذلك اقتحم أمن الحركة الحرم الجامعي لتفريق المتظاهرين، الذين سقط منهم عدد من الجرحى، من دون أن تعمد الحكومة المقالة إلى تبرير ذلك، سوى بإطلاق خطباء الجمعة لاتهام المعتصمين بأنهم مموّلون من الخارج «بمليوني دولار». اتهامات نفسها راجت في ميدان التحرير في القاهرة، وتروّج في صنعاء وتعز والمنامة وغيرها من المناطق الثائرة.
تصرّف أمني وسياسي لا يمكن إدراجه إلا في خانة الديكتاتوريّة التي لا تقبل بالرأي الآخر على الأرض نفسها. إنها نموذج مصغّر عمّا كانت عليه الحال في مصر وتونس، وما هو عليه الأمر في اليمن. إنه نموذج الحزب الحاكم يتكرّر مع مسمّى جديد هذه المرّة. إغراءات السلطة هي نفسها، لا المساحة ولا الثروات تؤدي دوراً في التحكّم في منسوب الدفاع عن الكرسي.
لعل من الأفضل لـ«حماس»، كي تحافظ على سمعتها التي بنتها كحركة مقاومة، الاتعاظ من تجارب الحكام المخلوعين الذين يسيرون على هذا الطريق، والابتعاد عن تقليد الديكتاتوريين.