نمرّ، في المنطقة العربية، بظرف تاريخي أشعلته الثورات الشعبية التي انطلقت بدايةً من تونس الخضراء، مروراً بمصرنا الأبية وانتهاءً بليبيا واليمن والبحرين والجزائر، ومن يدري من سيلحق بالركب التحرري. ألقت هذه الثورات بظلالها على تفاصيل الحياة في هذه البلدان، وفرضت على الجميع مراجعة النفس وضرورة التعرف إلى واقع المرحلة الراهنة ومحاولة استشراف المستقبل. هذا ما حاولتُ القيام به، مع المدرسة النسوية التي أنتمي إليها فكرياً، وهي مدرسة النسوية الإسلامية. حاولت أن أدرك أين نحن وما نحن مُقبلات عليه. نشأت مدرسة النسوية الإسلامية في أواخر القرن المنصرم، في محاولة من نسويات لإعادة قراءة النص الديني الإسلامي، لإيمان منهن بعدالة التشريع الإسلامي، ولإزالة ما لحق به من عهود من التفسير والتطبيق الأبوي الذكوري، لاعتقادهن أنّ المرأة قد استبعدت تاريخياً عن إنتاج النص الديني، مما أدى إلى أبوية التفسير. تمظهر فكر هذه المدرسة مع العديد من النسويات الإسلاميات، منهن على سبيل المثال لا الحصر، آمنة ودود وأسماء برلس وعزيزة الهبري وأميمة أبو بكر وزيبا مير حسيني وزينة أنور وفريدة بناني. ولم يقتصر إنتاج النسوية الإسلامية على الإنتاج الأكاديمي، بل تضافر معه النشاط الحقوقي والدفاعي، ولعل أبرز الأمثلة على ذلك، منظمة «الأخوات في الإسلام»، في ماليزيا. كما تكوّنت منظمات نسوية إسلامية دولية مثل «مساواة». وتمثل «الأخوات في الإسلام» و«مساواة» مؤسسات نسوية إسلامية صرفة، وهناك، الى جانب ذلك، منظمات وشبكات نسوية علمانية، تضم في عضويتها نسويات إسلاميات، مثل شبكة التضامن «نساء في ظل قوانين المسلمين»، و«مؤسسة المرأة والذاكرة» و«نظرة للدراسات النسوية»، والأخيرتان في مصر.
كثيراً ما كان هناك تقسيم حاد، في ما يتعلق بالتعامل مع الإسلام وأثره على حياة النساء، وقسّمت النسويات بناءً على موقفهن من الإسلام ودوره. في أقصى اليسار، نجد العلمانيات المتشددات، اللواتي يرفضن أيّ إشارة أو تعامل مع الدين بصفته نظاماً أبوياً يرسّخ قهر المرأة، وفي الوسط علمانيات «أكثر تسامحاً»، يتعاملن مع الدين على أنّه النظام السائد وعليهن إصلاحه لضمان حياة أفضل للنساء. وإلى اليمين قليلاً، هناك النسوية الإسلامية التي لا تزال تتمسك بالنص، إلا أنّها ترى تفسيراً نسوياً له، فيما نجد في أقصى اليمين، الإسلاميات اللواتي يرين العدالة التامة في التفاسير التقليدية للشريعة. لقد ظل هذا التقسيم يقصي الأطراف بعضها عن بعض، وينسي المتشابهين في الأهداف أنّ اختلاف المرجعيات ليس سبباً كافياً للتباعد والتخندق.
ما دفعني الى كتابة هذه المقالة ليس فقط اللحظة الثورية التي تدفعنا الى التطهر ومحاولة إعادة البناء، فإضافة إلى ذلك، أرى أنّ بعض ما كانت تعانيه الحركة النسوية من مشكلات بدأ بالانحسار، وأقصد بذلك استبعاد الحركة النسوية الإسلامية، على أساس أنّها الأحدث نشوءً. أتذكّر في أوائل سنوات الألفية، قراءتي لما كتبته الدكتورة هبة رؤوف عزت (رغم رفضها الدائم لاعتبار نفسها نسوية إسلامية ومهاجمتها للفكر النسوي) في مقالتها في مجلة «ألف»، بعنوان «المرأة والاجتهاد: نحو خطاب إسلامي جديد»، عن المواجهات الحادة بين النسويات العلمانيات والنسويات الإسلاميات. كذلك، يمر في ذهني ما أشارت إليه البروفسورة هوما هودفار عن «أصولية العلمانيات»، أي إقصاء العلمانيات التام للإسلاميات من الصورة، وعدم التعاطي معهن، فقط لأنّ الإسلاميات اتخذن مرجعية دينية، كما أسترجع نبرة العداء الدائم الموجّه نحو النسويات الإسلاميات، أو أتهمهن بأنّهن مجرد محاولة للالتفاف على مكتسبات النسويات ومكتسبات الحداثة، بمحاولتهن إعادة النظر في النص الديني، كما قالت دلال البزري، إلا أنّ الأوقات الصعبة أثبتت تهاوي هذا المقولة، ففي 2009، في إيران، حيث قمة الاستقطاب ما بين العلمانيّات والنسويات الإسلاميات، اتحدت أطياف الحركة النسوية لمواجهة الطاغية أحمدي نجاد، وأنشأن تحالفاً للحركة النسوية ضم زهاء الأربعين منظمة و700 فرد. وهذا يعدّ من أهم ما أنجزته اللحظة الدموية، التي مرت بها إيران، للحركة النسوية التي كثيراً ما توجّست من أصحاب التوجه الديني في دولة لا تعلو فيها إلا أصوات الأصوليين. وكذلك هي الحالة في مصر، حيث كان هناك تعامل حذر واستقطاب بين أطياف الحركة النسوية، إلا أنّه كانت هناك محاولات جيدة لعدم عزل الإسلاميات، لكنّ العدد القليل، والاتجاه الأكاديمي للإسلاميات، ساعدا، بطريقة وإن كانت غير مقصودة، على بعدهن عن الحقل الأكثر نشاطاً للحركة النسوية المصرية، وهو الدفاع والمناصرة، إلا أنّ التكاتف والمؤازرة اللذين شهدتهما الحركة يؤكّدان زوال ثنائية «الإسلامي في مواجهة العلماني».
كما عرضت سابقاً، تُغيّر اللحظات التاريخية التحالفات، إلا أنّ هناك محاولات قديمة مستمرة لرأب الصدع بين الإسلاميات والعلمانيات. من هذه المحاولات «نساء في ظل قوانين المسلمين»، و«مؤسسة المرأة والذاكرة»، انضمت إليهما «نظرة للدراسات النسوية» أخيراً. أنشأت شبكة التضامن «نساء في ظل قوانين المسلمين»، في الثمانينات من القرن المنصرم، وهي رد فعل على استخدام الشريعة في انتهاك حقوق النساء. لذا تكوّنت هذه الشبكة للدفاع عن حقوق النساء ضد عسف القوانين المستقاة من الشريعة. وقد ارتأت هذه الشبكة أنّ هناك رؤى متعددة للشريعة، وليس هناك شريعة واحدة يجمع عليها المسلمون. جمعت عضوية هذه الشبكة نساءً مسلمات وغير مسلمات ولا دينيات، إلا أنّ الإسلام يؤثر في حياتهن جميعاً، وقد اتفقن جميعاً على النسوية كإيديولوجيا حاكمة، واخترن هدفاً واحداً، هو الدفاع عن النساء.
أما «مؤسسة المرأة والذاكرة»، فهي مؤسسة بحثية بالأساس، تهدف الى إنتاج معرفة بديلة، تتناول فيها التاريخ العربي الذي غيّبت النساء من مجرى أحداثه، وتستكشف المرأة والذاكرة العربية، باحثةً عن عالمة أو فقيهة أو محدثة. وقد أعادت المؤسسة إنتاج ونشر الإنتاج الفكري لرائدات الحركة النسوية الذي ذهب طي النسيان. وما يميز «المرأة والذاكرة»، أنّ الفريق العامل فيها يتألف من نسويات علمانيّات وإسلاميات، إلّا أنّ هدفاً واحداً جمعهن وهو إعادة كتابة التاريخ العربي من منظور نسوي.
أما «نظرة للدراسات النسوية»، فقد بدأت في 2006، وضمّ الفريق نسويين ونسويات علمانيين وإسلاميين. و«نظرة»، مثل «المرأة والذاكرة»، تهدف الى إنتاج المعرفة، وكذلك نشرها، وتنمية القدرات، وتعمل وحدة المرئيات فيها على إنتاج مواد مسموعة ومرئية تتناول قضايا النوع الاجتماعي. ليست هذه المؤسسات آخر الكيانات التي تتعامل فيها النسويات جنباً الى جنب، بغضّ النظر عن مرجعياتهن، فهناك أمثلة أخرى عدّة، لكنّني اقتصرت في الذكر على ما عايشته ورأيته، في تجربتي المحلية (في مصر) والدولية.
على الرغم من أنّ الإيديولوجيات جمعتنا، وفرّقتنا المرجعيات، أكّدت الأوقات الصعبة أنّ التضامن النسوي قائم، وأنّه يمكننا أنّ نعوّل عليه في لحظاتنا الصعبة.
* من مجموعة «نظرة للدراسات النسوية» المصرية