جعجع مع البابا وليس مع الولي الفقيه
في مقالةٍ له بعنوان «جعجع أو البابا»، نشرتها «الأخبار» في عدد الجمعة 4 آذار 2011، تناول الصحافي غسّان سعود جملة مواضيع شائكة تتعلّق بكلٍ من البابوية في روما، البطريركية المارونية، والقوات اللبنانية، وبعلاقة هذه الأطراف بعضها ببعض، متوخيّاً الإسقاطات الزمانية والمكانية من اجل نسج سيناريو روائي متكامل قدّمه للقرّاء على طبق «الحقيقة المطلقة» التي تبقى في النهاية ملكاً للتاريخ والمستقبل دون سواهما.
ينطلق سعود في مقاربته تلك، من إعتباره ان القوات اللبنانية قاتلت معظم الأطراف المسيحية تحت شعار «القضية»، متجاهلاً ان العماد عون نفسه كان السبّاق في الإقرار بأحقيّة هذه «القضية»، وذلك في اول مؤتمرٍ صحافي عقده بعد تعيينه رئيساً للحكومة الإنتقالية، إذ وضع علم القوات على رأسه وتحته عبارة «القضية» قائلاً بالحرف الواحد: «هذه لا يمكن لأحد أن يحيد عنها»...
لقد أوحى سعود بأن الفاتيكان يريد للمسيحيّين في لبنان التماثل مع «نمط مسيحيّي سوريا» أي، بمعنى آخر، العيش ككائناتٍ بيولوجية تأكل وتشرب وتنام دون التعاطي في الشأن السياسي والوطني، من هنا- ودائماً بحسب سعود- وقع التصادم بين الفاتيكان من جهة والقوات اللبنانية من جهةٍ ثانية. ولا شك ان هذا القول الذي ينطوي على الكثير من التبسيط يتجاهل وقائع دامغة تُبيّن رغبة الفاتيكان بانخراط المسيحيين في اللعبة السياسية اللبنانية، وتؤكد بالمقابل ان تلاقي القوات اللبنانية مع الفاتيكان ينبع من رؤية استراتيجية مُشتركة لمستقبل المسيحيين ومصيرهم في لبنان. ويمكن في هذا الإطار إيراد أنموذجين من تلاقي الفاتيكان مع القوات اللبنانية وتصادمها مع أطرافٍ مسيحية اُخرى، الأوّل يوم وافق الفاتيكان على اتفاق الطائف وسارع الى إيفاد المونسيور بابلو بوانتي لتقديم اوراق اعتماده للرئيس الياس الهراوي في أوج اعتراض العماد عون على هذا الإتفاق والتشكيك بشرعية الهراوي، ولا شك ان البطريرك صفير دفع ثمن توجهات الفاتيكان يوم اقتحم مناصرون للعماد عون بكركي وعاثوا فيها فساداً وتخريباً. والثاني، يوم زار قداسة البابا يوحنا بولس الثاني لبنان في أيّار 1997 واطلق السينودوس من أجل لبنان الذي أثنى على الدور السياسي لمسيحيّي لبنان ممّا أعطى جرعة دعمٍ كبيرة للتيارات المسيحية السيادية في مواجهتها للوصاية السورية واسترجاعها الوطن المسلوب.
ثم يحاول سعود تصوير الأمر وكأنّ البطريرك صفير سعى لإنتزاع مواقع متقدّمة له على الساحة السياسية، متناسياً ان دور البطريرك صفير السياسي والوطني لم يصل الى هذا المستوى المتقدّم، إلاّ يوم غُيّب صوت العقل وحلّت محلّه حروب التحرير العبثية. حينها توجّهت الأنظار الداخلية والدولية الى بكركي لفرملة موجة الجنون والهستيريا المتمادية، فعُقدت لهذه الغاية إجتماعات مسيحية متتالية من اجل وضع بعض الضوابط السياسية التي تحدّ من ضرر حرب التحرير على المسيحيين. ثم ما لبث دور بكركي أن تعاظم أكثر فأكثر يوم وافقت مع الفاتيكان على إتفاق الطائف. ولاحقاً تحوّلت بكركي الى محجٍّ ومرجعيةٍ لكل المسيحيين واللبنانيين السياديين بعد نفي العماد عون واعتقال الدكتور جعجع. من هنا يتبيّن ان جنوح بعض الأطراف المسيحية نحو التصعيد ونحر الذات المسيحية، هو السبب المباشر الذي اعطى للموقع الروحي لدى الموارنة هذا البُعد السياسي والوطني المتقدّم.
لقد كان حريّاً بالصحافي سعود الذي يُثني على نموذج العيش «المسيحي» في سوريا ويحاول تصوير النظام السوري بمظهر حامي المسيحيين في سوريا، أن ينطلق بدايةً من الأرضية اللبنانية، ويصف تقهقر الواقع المسيحي في لبنان على الصعد كافةً ومن مختلف التيارات السياسية المسيحية، طيلة حقبة الوصاية السورية، ثم فلينتقل الى الواقع المسيحي المأسوي في العراق، حيث تُشير كل المعلومات ولا سيمّا ما جاء منها في وثائق ويكيليكس الى ان معظم الإرهابيين الذين يذبحون المسيحيين في العراق يدخلون عبر الحدود مع سوريا...
وبالنسبة للثوابت التاريخية المسيحية التي حاول سعود الإجتهاد بشرحها في شكلٍ مغاير لما هي عليه حقيقةً، فهي التي عمل لها الرئيس فؤاد شهاب وعبّرت عنها الجبهة اللبنانية، ونادى بها العميد ريمون ادّه، وتتمثّل بالحفاظ على سيادة لبنان وآحادية الدولة والسلاح الشرعي وليس الإنضمام الى سياسة المحاور وازدواجية السلاح واحتكار قرار السلم والحرب، وهي الإلتزام بمقررات الجامعة العربية ومواثيق الأمم المتحدة وليس الإلتحاق بولاية الفقيه وضرب الدستور والمؤسسات وعدم الإعتراف بقرارات الشرعية الدولية ولا سيمّا القرارات 1559، 1680، 1701، 1757... فأيّهما اقرب الى الثوابت التاريخية المسيحية: القوات اللبنانية، ام «مسيحيو» 8 آذار؟
في الحقيقة، إن توجّه القوات اللبنانية والدكتور جعجع تجاه الدور المسيحي في لبنان، هو التوجّه نفسه الذي وافقت القوات عليه مع دستور الطائف، والذي يضمن حريّة الأفراد والجماعات ويُشدّد على المناصفة المسيحية الإسلامية وعلى العيش المشترك، وهو التوجّه إيّاه الذي باركه الفاتيكان من خلال موافقته على إتفاق الطائف، في حين ان بعض الأطراف الأخرى سعت وتسعى جاهدةً لضرب هذا الإتفاق، والإنقضاض على المناصفة تحت الف ستارٍ وستار...
ثم ينطلق سعود من كون سياسة الفاتيكان تدعو لبناء مؤسسات اجتماعية وصحية بهدف تثبيت المسيحيين في ارضهم، ليستنتج بأن هذه السياسة تتناقض مع مشروع القوات اللبنانية، متجاهلاً ان القوات اللبنانية لم تكتفِ فقط بالدعوات والتمنّيات، وإنما وضعت كل إمكاناتها المادية واللوجستية في سبيل تثبيت المسيحيين في ارضهم من خلال بناء مؤسسات إعلامية، وإنشاء مشاريع سكنية، ومؤسسات تعاضد إجتماعية ونقل مشترك، وغيرها، قبل ان يأتي طوفان حرب الإلغاء وزمن الوصاية على كل شيء... ناهيك بتقديم القوات اللبنانية الآلاف من خيرة رجالها للدفاع عن هذا الوجود يوم تلكّأت مؤسسات الدولة اللبنانية عن القيام بواجباتها البديهية...
وفي النهاية نؤكد أن الموارنة والقوات اللبنانية لم يراهنوا يوماً على الخارج ايّاً يكن هذا الخارج، لأن الحرية في التاريخ الماروني ترقى الى مرتبة القداسة وهي ملازمة للوجود الماروني بكل أوجهه، فبقدر ما تتقاطع مواقف هذا الخارج وسلوكه مع حريّة لبنان ومع كرامة المسيحيين واللبنانيين، بقدر ما يقترب في سياسته وتوجهاته من القوات اللبنانية.
جان عبد المسيح