«الثورات المضادّة»، مصطلح جديد دخل إلى القاموس السياسي والإعلامي في العالم العربي، في ظل حال المد الثوري التي تجتاح المنطقة، ولا سيما بعد الانتصارين اللذين تحققا في تونس ومصر. انتصاران لا تزال عناصرهما غير مكتملة، على اعتبار أن التغيير لا يزال غير شامل. فالثورتان المظفرتان في هذين البلدين نجحتا في إزالة رأس النظامين الديكتاتوريين، غير أن أجزاءً لا بأس بها من جسد هذين النظامين لا تزال حاضرة وفاعلة، وقادرة على إحداث تغيير مضاد.
أجزاء يمثّل بقاؤها تحدّياً لمفهوم الحراك الشعبي الذي قام في تونس ومصر. هل هو ثورة أم انتفاضة؟ سؤال خلق حالاً من النقاش في الأوساط السياسية في البلدين الثائرين، وتونس خصوصاً، خلص إلى اعتبار أن الهبّة الشعبية هي «ثورة غير مكتملة»، على اعتبار أنها «أسقطت الديكتاتور، لكنها لم تُسقط الديكتاتورية».
على هذا الأساس كان، ولا يزال، القلق من الحراك المضاد يؤرّق الثوار المنتصرين، ويدفعهم إلى التنبه إلى الريبة من السلطات الانتقالية، ولا سيما أنها جزء من بطانة النظام السابق. وبالتالي، فإن التغيير الديموقراطي لا يمكن أن يكون بأدوات الديكتاتوريّة السابقة، ومؤسساتها التي كانت قائمة، سواء في ما يتعلّق بالمجالس التشريعية أو الوزارات، وحتى الدستور الذي فصّل على مقاس زين العابدين بن علي وحسني مبارك.
قد تكون المعركة ضد «الثورة المضادة» في تونس ومصر لا تزال في مراحله الأولى، لكنها تسير بخطى ثابتة باتجاه تحقيق النصر النهائي ووضع الثورة في سكتها الصحيحة. معركة لا تحظى بنصيبها من الاهتمام الإعلامي، في ظل الثورات المتنقلة والانكباب على متابعة الوضع الليبي ومصيره، ولا سيما أنه سيكون حاسماً في تحديد مصير «دومينو» سقوط الأنظمة الديكتاتوية، التي على ما يبدو تسعى إلى خوض معركة استباقيّة على الأراضي
الليبية.
المعركة ضد «الثورة المضادة» قد لا تكون أقل أهمية مما هو حاصل في ليبيا، وخصوصاً لجهة تثبيت مكاسب الهبّات الشعبية، التي ألهبها جسد المشتعل محمد البوعزيزي، الذي تحوّلت عربته من بيع الخضر إلى طيف ينثر الياسمين التونسي فوق ربوع العالم العربي المقهور بالقمع والصمت.
وكما كانت تونس السباقة إلى النصر على الديكتاتور، ها هي مرة أخرى تقدّم أنموذج النصر على بقايا النظام، وتمهّد لجمهورية جديدة خالية من الشوائب التي خلفها حكم زين العابدين بن علي. نصر متعدد المراحل، تحقّق بفعل الإصرار والصمود في وجه الحركات الالتفافية، أو الحكومة الالتفافية كما يحلو للبعض تسميتها في تونس، التي هدفت إلى إحباط العزائم والدفع إلى القبول بالنتائج المرحلية المتمثّلة بإسقاط زين العابدين بن علي ولجان التعديل الجزئي للدستور، الذي قد يسهم في تفريخ ديكتاتور جديد. حركات عمدت إلى شعار مبطّن مضمونه «إما نحن أو الفوضى»، وهو ما تظهّر في حالات انفلات أمني، التي تؤدي «بقايا النظام» دوراً أساسياً فيها، وكان هدفها دفع الناس إلى الانفضاض من حول الثورة، والتحسّر على أيام الاستتباب الأمني، وبالتالي الاكتفاء بما تحقّق.
محاولات فشلت، وجاء أول من أمس نصر جديد في المعركة على «الثورة المضادة». فبعد إسقاط حكومة محمد الغنوشي، الذي عيّنه بن علي، جاء خطاب الرئيس المؤقت، رئيس البرلمان، فؤاد المبزّع ليعلن الخطوة الأولى على طريق ولادة الجمهورية التونسيّة الجديدة. إعلان بالإكراه، فرضته حركة الشارع الضاغطة على المؤسستين السياسية والعسكرية، ليقضي على مساعي التجميل الذي كانت تسعى إليه الحكومة الانتقالية، وليهدم ما كان قائماً في عهد بن علي، ويبدأ البناء من جديد. هدم طاول أول من أمس المجلس التشريعي والدستور، وفتح الباب أمام انتخاب مجلس تأسيسي جديد مهمته وضع دستور جديد وتحديد شكل دولة ما بعد الثورة.
انتصار جديد يضاف إلى الفضل التونسي على الثورات العربية. قد لا تكون هذه المعركة هي النهائية ضد المحاولات الالتفافية، غير أنها معركة حاسمة لوضع الثورة على سكتها الصحيحة، وتقديم أنموذج جديد يحتذى. فهنيئاً لتونس نصرها الجديد وفضلها القديم الذي سيذكره التاريخ.