الحدث، أسلوبه، منفّذه، غاياته، ليست جديدة عالمياً: متطرّف إسلاميّ شاب، يفجّر نفسه. بيد أنّ الجديد فيه هو أنه يحدث في السويد، في استوكهولم تحديداً، وفي شارع «أولوف بالمه» ذي الدلالات الرمزية. أي في وسط الحي التجاري الذي أضحى فخاً للاغتيالات السياسية النوعيّة، المنتقاة، القاتلة، ويحدث الساعة الخامسة تقريباً من عصر يوم اكتظ فيه وسط استوكهولم بمتسوقي أعياد الميلاد، ويحدث أخيراً في نهاية عام وبداية حقبة سياسية جديدة، أبرز سماتها وصول اليمين العنصري الى مقاعد البرلمان.هدفا التنفيذ المعلنان من الشرطة السويدية تقليديان، لا خصوصيّة جديّة كبيرة فيهما: الاعتراض على مشاركة السويد عسكرياً في الحرب الأفغانية، وإدانة الصمت على مروّجي الرسوم المسيئة للنبي محمد. ضعف الخصوصية هنا، ناشئ من كون مملكة السويد ـــــ خلافاً للدنمارك في قضية مماثلة ـــــ لم تؤيد رسمياً نشر رسوم لاش فيلكس، التي ظهرت قبل ثلاث سنوات. كذلك الرأي العام السويدي غير محبذ لتوريط المجتمع في مقايضات سياسية غير نافعة اقتصادياً واجتماعياً وأمنياً، حتى لو كانت تتعلق بالحرية الفردية. أمّا أقرب صحيفة الى موقع التفجيرات فهي «داغنس نيهيتر»، التي لا صلة لها بهذه الرسوم من قريب أو بعيد.
ولو عدنا قليلاً إلى الوراء نتذكر أنّ عمليات مماثلة جرت في السويد، في أوقات سابقة، صعّدها الإعلام وأجهزة الأمن الى السقف الأعلى المثير للذعر الاجتماعي. منها ما قام به القس السويدي، النرويجي الأصل، رونر سوغارد في مواعظ كنسية علنية، باعها على أقراص مدمجة، حيث هاجم الإسلام بعنف ووصف الرسول محمداً بأنّه «مغتصب جنسي، مضطرب الشخصية». وقد نشرت صحيفة «أفتون بلادت» السويدية أقواله تلك على صفحتها الأولى في 19 نيسان 2005.
ورغم النفخ الإعلامي، مرّت تلك القضية بسلام، وطوى النسيان آراء رونر وأزماته العاطفية والرساليّة، بعدما حصل على حماية الشرطة السويدية، تحسباً لأي عمل عدواني قد يقوم به إرهابيون مسلمون، يهدف الى الحد من حريته في التعبير عن معتقداته وتطبيق واجباته التنويرية. وقد رافقت تلك الحادثة موجة تحذيرات تعبوية، تصعيدية، استباقية، أكدت أنّ «الخبراء يتخوفون من أعمال إرهابية أصولية ضد السويد» («إكسبرسن»، 3 شباط 2006)، وأنّ «السويد يشار إليها على أنها هدف إرهابي مقبل» («آفتون بلادت»، 31 نيسان 2005). وهي تحذيرات سربتها أجهزة الأمن ونشرتها كبرى الصحف على صفحاتها الأولى بالخط العريض، هدفها تعبئة المواطنين، عن طريق ما يعرف في علم النفس الاجتماعي باستنفار «غريزة الخوف».
أما إرسال الجنود السويديين، فهو مشكلة سويدية أكثر منها مشكلة دولية أو عقائدية حتى الآن، بسبب الميل التقليدي السويدي العام غير المحبذ لإرسال الجنود الى مناطق الحروب، والاحتفاظ بالوجه الماكر والمضلل، لكن الجميل، الذي اسمه الحياد السويدي.
بيد أنّ الأمر النوعي في هذا الحدث هو أنّ شخصية بطله، لا أهدافه فحسب، تحمل إشارات مثالية من نوع الحرب على الإرهاب عالمياً، كما لو أنّ المصادفات المصيرية الماكرة صممت الأهداف تصميماً فنياً لكي تطابق صفات الانتحاري الشخصية، ولكي ترسم ملامحه الدولية النموذجية، المطلوبة عالمياً في مشروع «الحرب على الإرهاب». وهنا يبرز دور القدر الخطير في رسم هذه التراجيديا المعاصرة.
أمام قوة الصدمة، كان لزاماً على الإعلام أن يكون قائداً حقيقياً للرأي العام الوطني. فالتعبئة الوطنية ضد الخطر، مهمة أساسية من مهمات الإعلام، لكن بدلاً من ذلك وقع الإعلام ضحية لفوضى الصورة والكلمة والتعبير، التي أمسكت بخناقه إمساكاً قاتلاً.
إنّ الثقة بالنفس القائمة على قوة الحقيقة، هي المصدر الأساسي للأمن الاجتماعي في نظام ديموقراطي. أما الفوضى الإعلامية واصطياد الإثارة القائمة على تغليب الشحن العاطفي السلبي على حساب الحقيقة، مهما كانت شريفة الدوافع، فإنّها، في حالات الإرهاب ذي الصبغة العقائدية المتعصبة، تصبح مادة مساندة لمناخ العنف. كما تصبح ربما حاضنة طبيعية لإنبات أجنّة الخوف السلبي من الآخر، وتعزيز الميول العدوانية الجماعية، بدلاً من الميل الى الحلول الإنسانية.
إنّ متابعة تفصيلات الحدث وتسلسله تكشف عن حالة من الهيجان اللفظي والإثارة العاطفية الخيالية، وعن قوة تأثير التصورات المسبقة، والتخيلات الجاهزة والمعلبة والمخبأة، التي غرق فيها الإعلام الرسمي والشعبي.

فوضى الصور والكلمات

بدأت تفاصيل الصورة تتكامل بسرعة عجيبة ولافتة بعد صمت مؤقت دام ساعات طويلة، وأخذت كلّ دفعة من الصور الجديدة تزيح ما قبلها وتبني الصورة المثلى، التي يبحث عنها صانعو الرأي العام والمستفيدون من نتائجه اللاحقة. ففي ثلاثة أيام فحسب، انتقل الانتحاري من كونه هاوياً، قليل الخبرة في السلاح أو عديمها، الى قريب من بن لادن؛ ومن شخص معزول «مجنون وحيد»، كما سمّته صحيفة «إكسبرسن»، الى عنصر في جماعة أوسع يجري البحث عن مساعدين له؛ ومن «ميت في انفجارات غامضة» (داغنس نيهيتر) وشاب حسن السلوك تمرد على أسرته سراً، الى متمرس، متطرف، متعصب، ينفذ أجندات عالمية.
التسارع المذهل لنمو الشخصية، وبناء هيكلها الدعائي سينمائياً أكثر منه جنائياً، قاد الى تسارع ردود الفعل الاجتماعية، إذ لم يفت الجالية المسلمة التعجيل في إظهار ردّ الفعل، فقامت بتزويق بناء الصورة الدعائية المنشودة حين هبت من نومها، وعرضت، في اليوم التالي، وجهها السلمي المعادي للإرهاب في وسط استوكهولم، لكي تدرأ عن الإسلام والمسلمين صفة الإرهاب، ولكي تقدم شهادة مدرسية بحسن السيرة والسلوك والبراءة الجماعية. ثم اختتم وزير الخارجية العراقي المشهد باعتلائه خشبة الحدث، راسماً حدود جبهة الحرب، الممتدة من كابول الى بغداد مروراً باستوكهولم. حدث هذا العرض السياسي في اللحظة التصعيدية المناسبة، لكي يعزز اليقين الذي أحدثه الفعل في نفوس المواطنين السويديين. وهو يقين ظل هشاً، منذ إعداده وشحنه منذ عقدين من الزمن، ولم يكن يحتاج إلا الى واقعة حسية، لكي يغدو يقيناً حقيقياً راسخاً، وصورة حية، ملموسة لمساً عيانياً، لا هاجساً أو أمنية، أو رغبة دفينة.
ومن مفارقات الحدث المأسوي، أنّ شخصية المنفّذ حملت الخصائص النموذجية، المثالية إعلامياً، التي يحلم بها كلّ توّاق الى قيادة دفة حرب على الإرهاب في صورته الأميركية النمطية المميزة. إنّ ارتباط الانتحاري، ولادة وولاءً، بقطبي الإرهاب الدولي الرئيسين عالمياً، العراق وأفغانستان، دولة العراق الإسلامية والقاعدة (بن لادن)، جعل من الحدث هدفاً شيطانياً خالصاً، غير قابل للمجادلة أو المناقشة أو إثارة التساؤلات حول الأخطاء الممكنة والمحتملة. لقد بلغت الحماسة في تدفق الصور الدعائية حداً دفع أحد الصحافيين الى أن يختتم وصفه للحدث بهذه العبارات الشبقية الشاذة أخلاقياً ونفسياً: «ظلت الجثة وحدها تُراقَبُ بنظرات مغرية من صور فتيات الإعلانات الملصوقة على واجهات المحال». ولم يكن هذا الوصف سويّاً، كخيال أدبي أو كسرد واقعي، إذ لم تعرف هوية الجثة فوراً، حتى من الفتيات العفيفات، اللواتي لم توقعهن الجثة في الإغراء الذي أحسّ به ذلك الصحافي تجاهها. لذلك اندفع عدد من المارة، تحت تأثير المشاعر الإنسانية النبيلة، المميزة للشخصية السويدية، وراحوا يسعفون الانتحاري، من دون أن يعرفوا سبب مقتله وأهدافه، حتى جاءت الشرطة وأرغمتهم على إخلاء موقع الحدث، وتركت الانتحاري يلفظ أنفاسه الأخيرة على مهل، ووجهه يستقبل ندف الثلج المتساقطة من السماء.

أسئلة هادئة تعقب العاصفة

في حوالي الساعة الثانية عشرة من نهار اليوم التالي، دعا رئيس الوزراء السويدي فردريك راينفلت، الشعب، الى توخي الهدوء وضبط النفس، معرباً عن خشيته من أن «يضع الحدثُ الرياحَ تحت جناحي العنصريين ومعادي الأغراب». وأظهر رئيس جهاز الاستخبارات (سَبو)، اندش دانيالسون، عدم حماسته الى اتخاذ إجراءات إضافية في القوانين أو القوات، والاكتفاء بزيادة الاتصال بالناس وبمؤسسات المجتمع في مواقع السكن، والتزمت وزيرة العدل الصمت. أما السياسيون والإعلاميون، فقد أكدوا، في الأعم، عدم كفاءة أعمال التحري الاستباقية، وتقصير أجهزة الأمن في كشف بعض خيوط الحدث قبل وقوعه.
ردود الفعل الحكومية الهادئة، والتصعيد الإعلامي ذو السقف العالي، واضطراب سيل المعلومات، تشي صراحة بأنّ الحدث تحت السيطرة حقاً، وأنّه يسير في الاتجاه المطلوب. لكن، أية سيطرة وأي اتجاه؟
عدا الجانب الإعلامي التعبوي الواسع، وعدا مقتل الإرهابي من دون أضرار بشرية أو مادية (انتحار نظيف)، وعدا تحقيق الأمنية المعتّقة بإثارة الفزع الاجتماعي عملياً، التي حلم بها كثيرون، لم يبق أمام المراقب للحدث الآن سوى الأسئلة المحيرة الغامضة، التي تركها صاحب الجثة من دون إجابة.
أهم هذه الأسئلة يتعلق بتضارب الحبكة الجرمية وتناقضها وضحالتها، وركاكة التفسيرات التي أحاطت بالحدث. يعزو البعض هذه الفوضى الإعلامية الى ضعف الخبرة. لكن هذه التهمة مردودة لمن يعود الى الوراء عقدين من الزمن، منذ أن تولّى كارل بِلد السلطة، فكثرت الاستعدادات التعبوية بنحو مثير: حادثة الغواصات الروسية، إعلان الطوارئ عقب تفجير ملجأ العامرية في بغداد إبان حرب الخليج الثانية، اختلاق المهمة الرسالية للقس رونر في 2005 وتصعيد التعبئة ضد المسلمين، إعلان النفير الإعلامي العام، المصحوب بإثارة الفزع من الأغراب بعد حادثة يولاند بوستن ونشر الرسوم المسيئة للإسلام في 2005، وفي عام 2007عند نشر رسوم لاش فيلكس (من أصول غير سويدية خالصة، حاله كحال القس رونر والمجرم المسمى لازرمان). كل ذلك يؤكد أنّ الاستعدادات النفسية والإعلامية والأمنية كانت كافية وقت وقوع الحدث؛ وربما كانت، على العكس، مستنفرة بنحو إثاري، ومتدربة تدريباً ذا شحن عاطفي تصعيدي، لاستقبال ما سيحدث.
في ظل هذا المناخ، أضحى من العسير أن يفهم المرء سر الاضطراب في الحجج والمعلوات والتفسيرات، بدءاً من الادعاء بأنّ الحادث أثار «الفزع الجماعي» في وسط استوكهولم. وهو أمر لم يحدث بالصورة التي صنعها الإعلام، كما أثبتت الصور المتحركة والثابتة، وكما أفاد شهود العيان من المتبضعين في الأماكن المزدحمة في ميدان سيرغل وقرب أسواق كاللرين وما حولها، عدا لحظة الانفجار الثاني، التي استمر فيها التوتر لأقل من دقيقتين.
أثبتت الواقعة والصور المتحركة والثابتة، الملتقطة من الزوايا والمساقط المختلفة، أنّ الإنسان المعاصر أصبح يستعيض عن الفضول الفطري القديم والحشرية البدائية الملازمة لثقافة عصري الكتابة والشفاهية، بالوسائل الحديثة صوتاً وصورة. وقد أمدتنا هذه الثقافة الجديدة بصور تكذب تماماً الصورة التي أريدت إشاعتها لاحقاً حول «الفزع الجماعي». يقول أحد شهود العيان: «تجمع مئات الناس حول السيارة. وقف الناس يتفرجون. كان الوضع هادئاً تقريباً، حتى إنّ بعض المتفرجين تقدموا وشرعوا بالتصوير» («افتون بلادت»، 12 كانون الأول). أما ما تكررت إشاعته عن انفجار السيارة، الذي أوحى بوجود قنبلة، فقد أكد شهود العيان ما ينفيه تماماً: «سبب الانفجار يعود الى وجود قطع من اللعب النارية في حقيبة السيارة الخلفية»، وأنّ الانتحاري «أشعل النار في سيارته وسار باتجاه شارع برغّر». فهل هي قنبلة أم إشعال نار؟
أما موت الانتحاري الفوري، فقد كذبه شهود العيان أيضاً. قال من شاهد الحدث لصحيفة «اكسبرسن» يوم 14 كانون الأول: «بعد دقيقة عاد الناس الى موقع الحدث، ويعتقد أنّ البعض تحسس نبضه»، و«حينما وصلت الشرطة كان (الانتحاري) يتحرك»، «أبعدت الشرطة المتجمهرين حول الجثة»، و«وصل جهاز كشف المتفجرات حوالي الساعة السابعة» («داغنس نيهيتر»، 12 كانون الأول)، و«في الساعة الثامنة رُفعت الحقيبة وظلت الجثة في مكانها». وضع الجثة المهملة، أو غير المثيرة للاهتمام، ودور رجال الشرطة أثارا غير سؤال: لماذا تأخر وصول جهاز كشف المتفجرات (الروبوت) ساعتين؟ لماذا لم تبادر الشرطة الى تحري وضع الانتحاري لغرض الاستفادة منه حياً؟ لماذا ظلّت جثته ملقاة أكثر من ثلاث ساعات، تنظر إليها «عيون فتيات الإعلانات الداعرة»؟ هذه أسئلة فنية أكثر منها إنسانية أو أخلاقية.
لماذا غيّر الإعلام صور المشاهد الأولى لاحتراق السيارة وأبدلها بصور مثيرة تعزز فكرة تفجيرها؟ أين ذهب الإطفائيون الذين أوشكوا أن يخمدوا الحريق في الصور الأولى؟ هل حدث هذا التغيير عفواً أم كان مقصوداً؟ وما الغرض منه، ومن يقف وراءه؟
إذا تركنا تفاصيل الحدث وعدنا الى شخصية الانتحاري، نجد تضارباً أقوى في بناء صورة الشخصية، فقد أصر الإعلام على تأكيد عراقيّة الانتحاري، وقد تكرر هذا في غير موضع من صحيفة المساء (إكسبرسن) في 14 كانون الأول. بينما قال توماس لندستراند، رئيس الادعاء، في موتمره الصحافي في 14 كانون الأول، نقلاً عن صحيفة «داغنس نيهيتر» إنّه «لغز، من الشرق الأوسط، غير معروف البلد تماماً!». أيهم نصدق؟ ومن سرب خبر عراقيته؟ ولماذا؟
وعن خبرات الانتحاري وطبيعته، جاء أنّه «مجنون وحيد» و«تعلم صناعة المتفجرات عن طريق قراءة التعليمات بالانترنت» و«أنّه غير محترف» ـــــ لا انتحاري مارس تمارين الانتحار كثيراً! ـــــ بينما تقول صحيفة «داغغنس نيهيتر» في 17 كانون الأول: «المسؤول عن ملف الحادث في الشرطة السرية يقول من الصعب أن يقوم المرء بنفسه بصناعة قنبلة مثل تلك التي استخدمها الفاعل». وتضيف «البحث عن مساعدين للفاعل جار، وهناك ارتباط بين الانتحاري والانتحاري الآخر المشهور سمير خان». وبعد يوم واحد فقط، لم يعد الانتحاري وحيداً و«الشرطة السرية واثقة من أنّ آخرين كانوا مشتركين في الخطة»، و«الشرطة تطارد أعداداً من الإرهابيين»، كما تنشر صحيفة «افتون بلادت» في 18 كانون الأول.
كانت الصور الأولى للسيارة المحترقة، التي بثها التلفزيون السويدي، دليلاً قوياً على أنّ «التفجير» لم يكن تفجيراً بل كان حريقاً، لم يصب هيكل السيارة بالتمزق أو الأذى، ولم يصعد حتى الى سقف السيارة حينما وصل الإطفائيون، مما شجع المارة على التجمهر للفرجة. هذه الحقائق، تضاف اليها نتائج حرق السيارة، تثير أسئلة كثيرة مهمة: لماذا وضعت السيارة في شارع فرعي مهمل، بينما كانت هناك فرصة كبيرة جداً لإيقافها في قلب التجمعات البشرية، بما في ذلك قرب موقعي «أولينز» أو «المحطة المركزية»، اللذين قيل إنّهما كانا الهدف المحتمل لوضع الحقيبة الملغومة؟ لماذا وضعت السيارة في نهاية صف السيارات الواقفة لا في وسطها أو بينها؟ لماذا لم تملأ السيارة بالمتفجرات إذا كان الهدف «إيقاع أكبر قدر من القتلى، بالمئات»، كما قالت الصحف؟ وإذا كان صاعق الحزام الناسف قد أصابه خلل فأفشل التفجير، فهل يمكن أن تخطئ سيارة محترقة مملوءة بالمتفجرات أن تخطئ هدفها؟
وعن موقع الحدث جاء: «عدد غفير من المتسوقين كانوا في المكان أثناء وقوع الحدث» («داغنس نيهيتر»، 12 كانون الأول)، لكننا نقرأ في موضع آخر عكس ذلك: «وقع الحادث في شارع فرعي مهجور». أما رئيس الادعاء توماس لندستراند، فقد قال حرفياً في موتمره الصحافي، إنّ الحدث وقع في «شارع فارغ نسبياً» («داغنس نيهيتر»، 14 كانون الأول). يا لها من فوضى!
في اليوم الأول لتدفق الصور جرى الحديث عن «جريحين». أين اختفيا، ولماذا؟ لا أحد يعرف!
وحينما نعود الى الصحافة الصادرة صباح اليوم التالي للحدث، نجد أنّ أكبر صحيفة سويدية، وأقرب صحيفة الى موقع الحدث «داغنس نيهيتر»، تنشر الخبر على صفحتها العاشرة، في صفحة أخبار محلية، تحت عنوان عظيم الدلالة: «مقتل شخص في انفجارات غامضة في وسط المدينة». وقد نقلت الصحيفة عن مصدر أمني قوله: «سَبو (جهاز الأمن) لا يملك معلومات، مما يجعل من المشكوك فيه عدّ الحدث عملاً إرهابياً».
من هو الشخص الميت؟ ما أهدافه؟ لماذا قتل؟ كيف قتل؟ لا أحد يعرف. كان هذا اليقين هو السائد قبل إشاعة خبر الإرهابي بساعات.
رسالة الانتحاري التهديدية ببنائها المعلوماتي المضطرب والركيك وإشاراتها الدلالية، تضفي مزيداً من القلق على الصورة المهزوزة أصلاً. أما فشل انفجار الصاعق فقد فسر بطرق مثيرة، جرى تصحيحها لاحقاً. فقد قيل أولاً إنّ السبب هو انفجار الصاعق قبل الأوان لخلل في جهاز التوقيت، أو بسبب قلة الخبرة وسوء تركيب العبوات. لكن الحدث أثبت أنّ الانتحاري كان يحمل حزاماً ناسفاً، وهذا يعني أنّه لا يحتاج الى مؤقت، بل الى صاعق يدوي يتحكم هو به. وفي حال كون المؤقت يخص حقيبة الظهر، فإنّ وجود الحقيبة سليمة الى جوار الجثة ينفي ذلك الاحتمال أيضاً. أما الاعتقاد بأنّ حركة ما خاطئة قام بها الانتحاري تسببت في الانفجار، فهي فكرة ممكنة، لكنّها ناقصة إذا لم يُفسّر نوع الحركة الفعلية، المقبولة عقلياً، التي يمكن أن تكون سبباً في اشتعال صاعق الحزام الناسف. هل هي احتكاك ما بمصدر تفجيري؟ أم أنّها قدحة شرر مثلاً؟
إنّ النظام الاجتماعي ومؤسساته الديموقراطية في السويد على درجة عالية من النضج والرسوخ، لا تحتاج الى أخيلة أو مساحيق للتزويق، لكي تثبت أفضلياتها الإنسانية والحضارية. ومن جانب آخر، فإنّ الإجرام الانتحاري، باسم الدين أو غيره، لا يحتاج الى خيال واسع أيضاً أو إلى تلفيقات إعلامية، لتثبيت أسسه الباطلة والظلامية. لذلك، يغدو الدفاع عن الحقيقة وحدها هو الغاية السامية للإعلام في النظام الديموقراطي، وهو صمام أمانه الحقيقي في مواجهة الأهداف الشريرة.
على الهدف العدواني الشرير تلتقي دائماً إرادتان وتحالفان، يبدوان متعارضين ظاهرياً، لكنّهما متحدان هدفاً ووسيلة: إرادة العنصريين ومعهم الإعلام التعبوي المضلل وأيديولوجية الحرب والاحتلال والهينمة العسكرية من جهة، وإرادة جماعات الإرهاب الدولي من جهة أخرى. لذلك يحق للمواطن المسالم أن يرى في هذه الصراعات معارك أشرار، تتخذ من حياته البريئة ومن الأمن الاجتماعي المحلي والعالمي ساحة للحرب المفتوحة.

إثارة الفزع بين المتخيّل والواقعي

عند تجميع كل تلك المشاهد المضطربة، يستطيع المرء أن يرسم بواسطتها صورة تقريبية لشاب أرسل رسالة الى جهاز الأمن «يهدده» بتفجير انتحاري، ثم توجه الى مكان التفجير، وبدلاً من أن يفجر نفسه، أشعل سيارته الخالية من المتفجرات علناً في مكان غير مأهول، ثم مشى في شارع فرعي غير مأهول أيضاً، وهناك انفجر أو فُجّر حزامه الناسف. هذه الصورة المفككة قد تثير الشكوك بسبب رداءة بنائها السردي، وتضارب خطوطها التفصيلية، التي سربها ظاهر الحدث وتلقفها الإعلام بفرح وسوء دراية أو سوء نيّة. وهي صورة لا تدل على تدني المهارة المهنية وابتذالها فحسب، بل تدل أيضاً، دلالة قاطعة على سوء استغلال الحدث، وعلى الجهوزية التامة لاستثماره وتصعيده الى سقفه الأعلى، بما يخدم فكرة إثارة الذعر، أكثر من خدمة البحث عن الحقيقة وإشاعة السلام والاطمئنان الاجتماعي.
إنّ انفلات مقود المعلومات المرسلة الى الرأي العام، واختلاط الخبر بأهداف أخرى نبعت من خارج الحقيقة الخاصة بالحدث نفسه، ربما تثير شكوكاً أعمق من هذا، لأنّ المعلومات الأخيرة المطورة عن الحدث قلبت الصورة الغامضة الأولى، التي تحدثت عن «مجنون وحيد» و«قليل الخبرة» الى حقائق كبيرة مدوّلة حقاً، لكنّها أكثر غموضاً. هذا التحوير في الصورة، المرتب، والمسيّر من أعلى، يؤكد وجود انتحاري وهدف انتحاري وحزام للتفجير لدى الانتحاري وقصد مدعوم بالأدلة المادية والخطية لتنفيذ الفعل الإجرامي حقاً. لكنّ تفجيراً ما، «غامضاًَ»، كما وصفته «داغنس نيهيتر»، قد قاد الى إشعال بعض عبوات حزام الانتحاري، ففشلت العملية. لكن: كيف حصل الإشعال؟ من قام به؟ لماذا؟ لا جواب.
أسئلة كثيرة محيّرة تتطلب إعادة رسم صورة الحدث رسماً واقعياً، جنائياً، لا غائي ولا قصدياً. إنّ الاكتفاء بالرضا والدعوة الى الهدوء أمر مطلوب وضروري وإجراء حكيم وسليم، كما أنّ كسب الرأي العام أمر ضروري أيضاً، لكن من دون أن يعاد رسم المشهد رسماً واقعياً خالياً من الاضطراب ومانعاً للتأويل الضار، سيصبح الحدث منبعاً غزيراً لإثارة الشكوك، التي قد توقظ شياطين الشر مجدداً.
مجموعة واسعة من العنايات الإلهية تدخلت لمصلحة السويد العلمانية، فأفشلت خطة الانتحاري ذات الصبغة الإيمانية، وجعلت النتيجة بهذه الصورة الإعجازية: تفجير فاشل في شارع فرعي، وقتيل واحد هو الإرهابي، قاد الى فوز أصحاب النظرية السياسية القائلة: «نحن نعيش حالة حرب». أو كما قالت الصحف: «محاولة السبت كانت جرس ايقاظ للذين أنكروا أن تكون السويد تملك سبباً للقلق من الإرهاب».

من التفاصيل إلى الخلفيّات وأسرارها

إذا تركنا التفاصيل الجرمية البوليسية، وذهبنا الى المناخ السياسي في السويد، نلاحظ أنّ في هذا المناخ ما يسهم في إلقاء المزيد من الضوء على الصورة الإعلامية الرديئة المرسومة للحدث، كما رويت. منها بقاء كتلة اليمين في الحكم بأغلبية مريحة، وصعود التنظيم اليميني المتطرف المعادي للأجانب «ديمقراطيو السويد»، وتجدد مناقشة قضية المشاركة العسكرية في أفغانستان، واستقطاب موضوع ويكيليكس سويدياً، وربطه بالعدالة السويدية، وجعله مادة لتصفية الحسابات الدولية على أرض السويد. وربما يكون الصراع حول الرقابة الإلكترونية أهم وأخطر المثيرات، التي تحفّز التداعي الذهني الحر. فمن المعروف أنّ الصراع حول ما يعرف بمراقبة الإنترنت والاتصالات (أف أر آ)، وما أثاره من خلاف قوي حُسم برفض اقتراح الحكومة القاضي بمنح «سَبو» صلاحيات أوسع في مراقبة إشارات خطوط المواصلات والطرقات. وفي جلسة للبرلمان، في كانون الأول 2009، جرى التصويت ضد القرار بأغلبية. لكن سعي الحكومة لم يتوقف، فقد جرت غير محاولة لإعادة الكرّة لكن بطرق مختلفة.
كان هاجس البحث عن إرهابي حلماً عصياً راود طويلاً أخيلة التواقين الى إثارة الفزع الاجتماعي. ولم يكن هذا الهاجس، قبل الساعة الخامسة من عصر يوم السبت في 12 كانون الاول 2010، سوى خيال قديم هجومي الدوافع، يشبه الأماني الشريرة. بعد تلك الساعة المشؤومة غدا واقعاً متحققاً. هنا تتحد، ما سميناها، الإرادات المتناقضة ظاهرياً. فمن يصنع الخطوة القادمة؟ وما طبيعتها؟
بهذا العمل الانتحاري، المحاط بعشرات الأسئلة الغامضة والصور المضطربة، حصلت السويد في نهاية المطاف على بغيتها: انتحاريّها الخاص. نعم، لقد تحقق للبعض ذلك، وبأقل الخسائر أيضاً: بدون قتلى. الضحية المباشرة الوحيدة في الحدث هي الانتحاري نفسه، أما الضحايا غير المباشرين فلا علم لأحد بهم. بيد أنّ القضية في النهاية ستظل معلقة بمن يجيب عن السؤال القاتل: من هو الرابح الأكبر؟
المعجزات السويدية التي رافقت الحدث لم تقتصر على حدوث تفجير انتحاري في غير أوانه، وفي شارع فرعي «مقفر» و«مهجور»، لا يبعد سوى أمتار عن أكبر مراكز التسوق في السويد العامرة بالمتسوقين، بل على موت المفجر وحده، وفي انتخاب الموقع النموذجي للحدث، الذي شهد من قبل أكبر جريمتين سياسيتين في السويد: اغتيال أولف بالمه وأنّا ليند، أهم شخصيات الاشتراكيين السويديين والاشتراكية الدولية. المعجزة السياسية الأكبر جاءت في جلسة البرلمان ليوم 15 كانون الأول، بعد الحدث بيومين فقط، التي حملت الجواب عن سؤال الربح والخسارة سريعاً جداً، بنحو غير متوقع، حينما صادق البرلمان السويدي بإجماع كاسح ـــــ لم ينج من السقوط في فخه سوى حزب اليسار وأربعة أعضاء من حزب الخضر تمردوا على إرادة حزبهم ـــــ على قرار يقضي بإرسال قوات عسكرية مقاتلة الى الخارج قوامها الأعلى 855 شخصاً، لأجل غير محدد (مفتوح). يعني ذلك حدوث أول انقلاب علني في ترتيب اصطفاف القوى السياسية بعد صعود العنصريين واتفاق حزب الخضر مع اليمين وتناقض شعبية الاشتراكيين. ويؤكد أيضاً أنّ تصعيد مبادئ العدوانية الدولية هو عنوان المرحلة المقبلة، وأنّ التغيير تجاوز حدود الاتفاقات الى جوهر المبادئ التي لازمت الحياة السياسية تاريخياً: إنهاء خرافة الحياد الشكلي أو الدعائي، والتوجه الى الانحياز العسكري السافر والمفتوح. أيّ أنّ التغيير لم يعد سياسياً وتحالفياً، بل دخل عميقاً حتى في قلب التوجه الأيديولوجي للقوى السياسية المناهضة للحرب والعسكرة. وتلك هي أولى ثمار حصول السويد على إرهابيّها الخاص، الذي سمّته الصحافة تجميلاً «فقدان عذريتها»!
فتق آخر جديد أصاب العذرية تمثل في النتائج. فعقب يومين على الحدث، أعلنت ممثلة السويد في الاتحاد الأوروبي سيسيليا مالمستروم أنّها «تعد صفاً من الاقتراحات القانونية»، المتعلقة بزيادة الاستعدادات لمواجهة «التصعيدات» الإرهابية، وأن أوروبا «تصعّد» استعداداتها. وبدخول هوشيار زيباري على خط الحدث، تم الوصول سريعاً إلى الهدف الأقصى: ربط السويد بالعراق ربطاً رسمياً، وتدويل الحدث، لكي تغدو استوكهولم خطاً أمامياً في حرب الإرهاب. أي انتقالها من مرحلة الرسوم الساخرة الى المواجهة العنفية المسلحة. بيد أنّ دخول زيباري في الحدث، الذي أراده البعض أن يكون أداة لتعميق الإحساس بالخطر، وتحويل الهاجس الأمني الى يقين، كان سيفاً ذا حدين. فهو سيف قد يفعل العكس تماماً، فقد يرغم الذاكرة على استعادة حادثة مشابهة، تتحدث عن انتحاري عراقي من السويد أيضاً، حوصر في الموصل قبل سنتين، ففجّر حزامه الناسف قبل اصطياده على أيدي القوات الأميركية.
وعلى الصعيد الأيديولوجي الثقافي، فتح الحدث نافدة الصراع المغلقة على مصراعيها، حين هاجم الصحافي المخضرم أولف نلسون المسلمين علناً في صحيفة «اكسبرسن»، قائلاً: «إنّ نمو التأثير الاسلامي أمر حتمي. باختصار شديد. نحن نعيش حالة حرب». وعلى الرغم من أنّ الصوت الديموقراطي رد سريعاً في الصحيفة ذاتها، حين اتهمته آن شارلوت مارتيوس بـ«العنصرية ومعاداة الأغراب»، لكن النار فتحت في عدد الأحد من صحيفة «داغست نيهيتر» على دفاع الكاتب اليساري جان جيو عن المهاجرين في قضية إرهاب سابقة، متهمين إياه بأنّ «تتفيهه للتهديد الذي يمثله الإسلاميون ليس جديداً». بهذه النهاية، قام الحدث بفتح قمقم الصراع الفكري علناً، وباتحاد هذا الصراع بالإجراءات الأمنية والسياسية والقانونية السريعة اكتملت صياغة عنوان المرحلة المقبلة.

خاتمة وخلاصة

لم تقتصر حالة الفوضى على الإعلام وحده، فقد سقط في فخها أبرز ممثلي السلطة أيضاً. أول من أذاع خبر التفجيرات، رابطاً بينها وبين الإرهاب، هو وزير الخارجية السويدي كارل بِلد. ولهذا الفعل مغزى خاص جداً، يوضح بعضاً من غوامض الصورة واضطرابها. وسبب ذلك يعود الى طبيعة بِلد ومكانته بما هو شخصية سياسية، قادت حزب اليمين السويدي وحكومته فترة غير قصيرة قبل أن يصبح وزيراً للخارجية. خلال تلك الأعوام، تكرر ظهور اسم بِلد في المواقع الدولية الملتهبة عسكرياً وعرقياً: أحداث البلقان والعراق ودارفور، ومن خلال نشاطه الحكومي والشخصي سعى لأن يكون مؤسساً للاتجاه الجديد في السياسة السويدية، القائمة على مبادئ قوامها اتحاد رأس المال بالقوة العسكرية والمصالح السياسية المرتبطة بالأزمات العالمية، وهو اتجاه أميركي يميني متطرف في ثوب يميني أوروبي ملطَّف. كان إعلان كارل بِلد عن الحدث واقعة سياسية ووظيفية وأمنية مثيرة، لأنّه سبق رئيس وزرائه بأكثر من عشر ساعات في إفشاء السر وطبيعة الفعل الإرهابية، على الرغم من أن بِلد أدرى من غيره بالتقاليد الوظيفية والحزبية، لأنّه كان رئيساً سابقاً للوزراء ولحزب اليمين. ولم يكن تعليله للتسرع مقنعاً أيضاً، أو مبرراً لتجاوزه صلاحيات رفاق حزبه وقيادة البلاد الحكومية والأمنية. بيد أنّ الأمر الوحيد الأكثر إفصاحاً والأكثر إقناعاً، الذي طفح من هذه العجالة، هو رد فعل بِلد اللاشعوري: زفرة الارتياح التام، لأنّ السويد حصلت أخيراً على انتحاريّها الخاص.
* كاتب عراقي