لا تزال الأحداث تتوالى في تونس يوماً بعد يوم، ولا يزال الشعب هو صانع الأحداث ويد الله تحرك الجماهير. ويعبّر المشهد اليوم عن حالة عدم الاستعداد لما بعد الانتفاضة والخوف من «سرقة ثورة الشعب» والخشية من إزاحة طاغية دون تغيير كبير فى النظام نفسه والسياسات التى كان يتّبعها.
الدروس لا تنقطع وقد سالت أنهار كثيرة من الحبر، وقرأنا صحفاً عديدة من التحليلات واستمعنا إلى حوارات متواصلة عن الأحداث والثورة. صدقت توقعات وخابت أمنيات، ولا تزال جعبة القدر تفاجئنا بالكثير، وهذه الدروس واضحة للعيان أمام كل الأطراف الفاعلة أو المراقبة.
الشعوب لها دروس، والحكام لهم دروس، والنخب الفكرية والثقافية لها دروس، والأحزاب والحركات السياسية لها دروس، والحركة الإسلامية، أيضاً، لها دروس. على الشعوب أن تتحرك دفاعاً عن حريتها وكرامتها وحقوقها، لا طلباً ـــــ فقط ـــــ لحاجة البطون ولستر العورات، وعليها ألّا تنتظر من يقودها طويلاً، وألا تخشى القبضة الأمنية الباطشة ولا الجيوش التى تتمترس خلفها النظم الحاكمة.
وعلى الحكام أن يدركوا أنّ الاستقرار الظاهري دون أسس حقيقية وهم كبير، وأنّ التقارير التى ترفعها الجهات المحيطة بهم لا تعبّر إلا عن أمنياتهم هم، بعيداً عن الواقع الذي لم يعد خافياً على أحد، وأنّ القوى الخارجية التى يعتمدون عليها لن تغني عنهم شيئاً أمام غضب الجماهير الثائرة. حتى الجيوش والقوات البوليسية، التي ينفقون عليها المليارات، لن تجد شيئاً أمام حركة الشعوب. والسبيل الوحيد لتحقيق الاستقرار والأمن للجميع هو الإصلاح الجاد والحقيقي والتغيير الشامل في استراتيجيات الحكم. أما التعبير الصحيح عن هوية الأمة ومصالحها ضد الهيمنة الخارجية والنهب الداخلي والفساد المستشري، فهو إطلاق الحريات العامة لتداول سلمي للسلطة، لا يقصي أحداً ولا يمنع قوة شعبية من الحق في التنظيم والتعبير، وذلك عبر انتخابات حرّة وسليمة بضمانات حقيقية.
أما النخب العربية، فقد كشفتها أحداث الثورة التونسية. لقد مارست أكبر عملية خداع للشعوب، التي اكتشفت ذلك بعد ربع قرن من الزمان، وأصبحت فى وادٍ والناس فى وادٍ آخر. نخب متغربة متصهينة متأمركة، لا تعبّر عن هوية الأمة ولا عن مصالحها، تدعي العلم والمعرفة وتمارس الخداع والكذب.
الدرس التونسي للحركات السياسية، وبالذات للحركة الإسلامية، بالغ الأهمية، فهى الأقرب إلى الناس، وهي التي عمل النظام التونسي ـــــ وقلّدته معظم الأنظمة العربية بدرجات متفاوتة ـــــ على إقصائها وتهميشها وعزلها ونفيها وتشريدها أو سجنها لمدد متطاولة، وهي التي لا تزال بعض أركان النظام السابق وأبواقه الإعلامية، في العالم العربي، تمارس تضليلاً واسع النطاق للتخويف منها والتحذير من إطلاق حريتها.
أول ملامح ذلك الدرس هو أنّ النصر مع الصبر وأنّ مع العسر يسراً وأنّ رحمة الله قريبة من المحسنين. فقد جاء الفرج لحركة النهضة ولكل الإسلاميين التونسيين من حيث لا يحتسبون، بعد معاناة طويلة لربع قرن من الزمان.
خرج المعتقلون من السجون، وسيعود المنفيون المشردون في الأرض إلى ديارهم، وسيحصلون، إن شاء الله، على حقهم في التنظيم والتعبير والحركة والنشاط، وسيقبل عليهم الناس بنظرتهم السليمة ووعيهم العظيم.
علهيم أن يتأسوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا ينتقموا لأنفسهم قط، ولا يشمتوا فى أحد، وأن يغلّبوا المصالح العليا للبلاد والعباد فوق أية مصالح خاصة، شخصية أو حركية، وأن يمدوا أيديهم إلى الجميع ـــــ وفق قواعد عامة ـــــ للعمل من أجل تحقيق آمال التونسيين، وذلك من أجل أهداف عدّة. منها، الانتقال من حال الاستبداد إلى حال الحرية، والعمل على قطع الطريق على كلّ العابثين الذين يريدون إشاعة الفوضى في البلاد لمنع الشعب التونسي من قطف ثمار ثورته، ولتخويف الشعوب العربية من الاقتداء بحركة الشعب التونسي العظيمة، كذلك من أجل رسم سياسة جديدة لتونس تعيد إليها هويتها العروبية الإسلامية الوسطية المعتدلة، مع مشاركة كل القوى الفاعلة، متجاوزين كل الخلافات الإيديولوجية أو الفكرية.
كذلك أيضاً لتقديم نموذج تونسي جديد يلهب مشاعر العرب والمسلمين لإحداث التغيير المنشود. نموذج يحقق الكرامة والعدل، والتنمية مع الديموقراطية، والبناء، والاعتزاز بالهوية الحضارية مع التواصل مع العالم أجمع، والاستقلال مع التعاون الدولي.
لست هنا في معرض الموجّه أو المنظّر لإخواننا الصامدين في تونس وخارجها، لكنّه واجب النصيحة من مسلم يحب إخوانه، ويأمل الخير لهم ولبلدهم، وهم أدرى مني ببلدهم وحاجاتهم. هي آمال وعِبر تصلح للإسلاميين فى كل مكان.
على إخواننا أن يستفيدوا من تجارب الآخرين ومراجعاتهم، وخاصةً في البلاد التي قادها إسلاميون أو شاركوا في حكمها.
أما الإسلاميون خارج تونس، فلهم دروس وعبر وعظات كثيرة.
علينا أن نهتم أكثر فأكثر بالناس والشعوب، بهمومهم ومشاكلهم، بآمالهم وأمنياتهم، وأن نحسن التعبير عنهم وحمل مطالبهم.
علينا أن نعطى القدر الأكبر من وقتنا وجهدنا للنشاط وسط الناس، في مساجدنا وفي شوارعنا، في مساكننا، وفي أماكن عملنا، في معاهدنا وجامعاتنا كما في مصانعنا وحقولنا. علينا أن ندرك أنّ محاضن التربية التي تعتمدها الحركة الإسلامية، إنما جُعلت للإعداد للنشاط العام وسط الناس، وإذا لم تؤد ذلك الدور، فيجب مراجعة ما نُشغل به فيها، من مناهج ونقاش، وحوار وخطط.
في نشاطنا مع الشعوب والجماهير، يجب أن نحوّل التدين الفطري البسيط إلى تدين فعّال نشيط. يجب أن نغرس القيم الإيجابية في نفوس الناس، بديلاً عن القيم السلبية. يجب أن نعلّم الناس ونقودهم بالقدوة الحسنة للتصدي للظلم والفساد والاستبداد، وأن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر، وأنّ الأجل والرزق بيد الله تعالى.
علينا أن نحيي في نفوس الشعوب طاقة الإيمان الجبارة، وأن نقوّي صلتهم بالله الواحد القهّار، وأن نعلّمهم أنّ الإسلام جعل العبادات والطقوس لهدف نبيل هو إيجاد قيم العدل والقسط ومقاومة الظلم والدفاع عن الكرامة الإنسانية والمساواة بين الناس والحرية للإنسان. الإنسان الذي لا يسجد إلا لله وحده، ولا يطأطئ رأسه خنوعاً لمخلوق مهما كان.
على شبابنا الإسلاميين أن يوظفوا معارفهم التكنولوجية لحفز همم الناس والشباب لحمل أمانة التغيير والإصلاح، لا لمجرد ممارسة الطقوس والشكليات، أو الجدال المتواصل حول قضايا يتجادل حولها المسلمون طوال ألف عام أو يزيد.
علينا ـــــ نحن معشر الإسلاميين ـــــ بكل جماعاتنا وحركاتنا، ألا نتخلّف عن حركة الناس وسعيهم نحو التغيير، لكي نضبط البوصلة نحو الله تعالى ابتغاء مرضاته، ولكي يعبّر الناس عن آمالهم الحقيقية فى إطار هويتهم الإسلامية وانبثاقاً من عقيدتهم التوحيدية، ويشاركوا فى حفظ حركة الشعوب التي لا ينبغي أن يسرقها لصوص الثورات ومشاغبو الشوارع وبقايا النظم الاستبدادية، كما علينا أن نقطف، مع الجميع، ثمار الثورات في التغيير المنتظر، إذ لن يقعد أحد فى بيته ثم يطالب بعد ذلك بنصيب في جنى الثمار. فالسياسة الحقيقية هي الوجود الفعلي وسط الشعب لا مجرد خوض الانتخابات أو التنافس على السلطة.
علينا أن نشارك الجميع ـــــ وفق القواسم المشتركة ـــــ من أجل تحقيق المصالح العليا للبلاد، ومن أجل إنقاذ العباد من الظلم والفساد والاستبداد، مع احتفاظنا بهويتنا وبرنامجنا، وذلك استعداداً في ما بعد، في مرحلة لاحقة، للتنافس الشريف في نظام حر ديموقراطي يسعى فيه الجميع لنيل ثقة الناس.
علينا أن نستعد لمرحلة انتقالية، آتية لا ريب فيها، بعد أن تنجلي ظلمات الاستبداد والفساد والظلم والطغيان التي رانت على بلادنا العربية والإسلامية، نتنفس فيها معاً نسيم الحرية والكرامة والعدل للجميع. مرحلة إذا أحسنّا العمل من أجلها فستكون قصيرة ولا يطول بنا وبالناس الانتظار.
الدرس التونسي عظيم، وهي أولى ثورات القرن العشرين، ستغيّر فى الغالب موازين القوى في المنطقة، وسيثبت للجميع أنّ العرب والمسلمين قادرون دوماً، رغم كل الضغوط، على صنع التاريخ، وبناء المستقبل وغرس الآمال للأجيال في الثقة بالله القادر على كل شيء.
* قيادي في جماعة الإخوان المسلمين في مصر