من الآن وصاعداً، سيصعب على أبواق السلالات العربية الحاكمة، تسويغ ما يجري خارج البقعة التونسية «المحرّرة». والصعوبة في ذلك متأتّية من عودة الفعل التثويري الجذري إلى الواجهة، بعدما جوّفته طويلاً سلالات النفط العربية والطغَم العسكرية الانقلابية المتواطئة معها. وقد أسهمت عملية الشراء الممنهجة «للنخب» السياسية والاقتصادية والثقافية العربية، في تكريس فعل التجويف ذاك، وإدراجه في سياقات معينة. سياقات أريد لها أن تبدو مفارقة لطبيعتها المدجّنة. وحتى يحصل ذلك، كان لا بد من إشراك «النخب» في المعادلة. فهؤلاء يضفون «شرعية» على أيّ عملية نهب يشاركون فيها. أضف الى ذلك قدرتهم على «تعطيل الفعل الجماهيري» الذي ينهضون به عادة، ويهندسون أطره ومآلاته. نحن إذاً أمام عملية تآمر على الفعل الثوري، طرفاها السلالات الحاكمة ونخبها الفاسدة. عملية عطّلت آليات الشعوب العربية ووضعتها خارج اللحظة التاريخية. وتشغيل هذه الآليات مجدداً منوط بالتحرّر من وصاية النخب والنظم المشغّلة لها. وهو أمر يحتاج إلى فعل تراكمي لا يتراجع أمام البطش السلطوي، ولا يسلّم بالهزائم المتكررة التي يتعرض لها. طبعاً، لم تتوافر هذه الخبرة النضالية لكثير من الشعوب العربية، وذلك لأسباب متعددة، لا مجال للخوض فيها الآن. وما يهمنا هنا تحديداً هو النموذج التونسي، الذي راكم، بخلاف غيره من النماذج العربية النضالية (لبنان وموريتانيا واليمن... الخ) تجارب متّسقة وناضجة اجتماعياً ومفارقة للنسق الطائفي المهيمن. هكذا، لا يعود ممكناً مثلاً أن يستحوذ طرف بعينه على انتفاضة الخبز التي اندلعت في تونس في عام 1984، ويجيّرها لمصلحة فئوية أو طائفية أو قبلية، كما يحصل عادة في لبنان أو في موريتانيا. فهذا شعب أنجز «استقلاله» و«تجاوز انقساماته» وبات صراعه مع سلطته القمعية، صراعاً من أجل إدارة أفضل وأكثر عدلاً لعملية توزيع الثروة في البلاد.
وهذا يعني أنّ البعد الطبقي حاضر بقوة في انتفاضات الشعب التونسي المتكررة من أجل العدالة الاجتماعية. وهو أمر لا يريد كثير من كتاب السلالات الحاكمة فهمه. وحين يسلّمون به مرغمين، تحت وطأة التعاطف الشعبي العارم مع ثورة شعب تونس، يقولون: «حسناً. إنها انتفاضة من أجل الخبز والحرية!». لا، أيها «السادة». هذه ثورة بكل ما للكلمة من معنى. وإذا كانت عودة مصطلح التثوير الى التداول تخيفكم حقاً، فالأفضل أن تكفّوا عن الكتابة، وأن تعتصموا بحبال الصمت، ريثما ينجلي هذا التناقض نهائياً، بين مصلحتكم الضيقة ومصلحة «الغوغاء» الذين أشبعتموهم شتماً منذ عقود. ومن لم يقتنع منكم بهذا التوصيف للثورة التونسية، فما عليه إلا أن يراجع دروس التاريخ. دروس تفيدنا بأنّ ما يبدو للوهلة الأولى احتجاجاً على القهر الطبقي والتفاوت الاجتماعي، سرعان ما يتدحرج إلى مطالب أخرى ذات بعد سياسي واضح. بهذا المعنى ينتقل فعل التثوير من الاقتصاد إلى السياسة، ويؤول إحراق محمد البوعزيزي نفسه من أجل رغيف الخبز، الى حصيلة سياسية بحتة. حصيلة لا تنفصل فيها المطالب السياسية عن نظيرتها الاقتصادية. وهذه الجدلية المستمرة بين الاقتصاد والسياسة، هي التي أفضت بالثنائي ماركس ـــ إنجلز الى «نحت» مصطلح الاقتصاد السياسي (بعد استعارته مقلوباً من آدم سميث) وتعميمه في أدبياتهم. فمن لدن هذا المصطلح بالذات، انطلقت كل الثورات اللاحقة ضد أنظمة الانحياز الطبقي في العالم. هكذا يجب أن يبدأ النقاش في شأن الثورة التونسية العارمة على ديكتاتورية بن علي المنحازة طبقياً. فحتى نصل الى خلاصات منطقية، لا بد من أن يكون السياق الذي يؤطر نقاشنا، متّسقاً وذا جدوى فعلية. وحينها لا يعود مهمّاً كثيراً ما يقوله هذا البوق أو ذاك عن الجدوى النضالية للانتفاضة التونسية.
غير أنّ الكلام عن الجدوى من هذه الانتفاضة له ما يبرّره أحياناً. هذا إذا ما أخرجنا التبرير ذاك من سياق الاستعمال النيوليبرالي المبتذل له. استعمال لا يضير أصحابه كثيراً الكلام التجريدي عن الخبز والحرية، بقدر ما يضيرهم إكساء هذا الكلام لحماً وعظماً، كفيلين بوضع ثنائية الخبز والحرية هذه موضع التنفيذ. والموضع هنا يتعيّن بإنفاذ عملية إسقاط النظام الذي منع الحرية والخبز عن شعبه. وهو ما لا يبدو أنّه في متناول التونسيين اليوم. وهذا هو مغزى الكلام أعلاه عن الجدوى من الثورة إذا ما بدأت عملية حصاد نتائجها على حساب من نهض بها فعلاً. فالخاسر الأكبر من عملية التسوية التي يجريها أقطاب النظام السابق مع رموز المعارضة المدجّنة، هو الشعب التونسي، بطلابه وعماله ونقابييه وفنانيه وحقوقييه. ذلك أنّ هؤلاء لم يفعلوا ما فعلوه، حتى تأتي أحزاب صوريّة، نصّبها الديكتاتور المخلوع، لتقطف ثمار الثورة وتوظّفها في عملية سلطوية بحتة تذكّر بممارسات النظام البائد.
وإذا استمرت عملية تجويف الفعل الثوري على هذه الوتيرة، فهذا يعني أننا استسلمنا لكل الحجج التي تسوقها السلالات العربية ونخبها، في سياق دفاعها عن نفسها ضد هذا الفعل. لا أدري ما إذا كانت النظرية التروتسكية صالحة للاستخدام هنا، لكنّها حتماً تفيد في حضّ الشعب التونسي على عدم استبدال طاغية بآخر، أو الاكتفاء بتغيير الأقنعة، من دون أن يطرأ أيّ تعديل على السياسات التي نهبت ثروات البلد. وحتى لو لم تنتقل عدوى هذه الثورة إلى البلدان العربية والأفريقية المجاورة عملاً بمبدأ الثورة المستمرة، فإنّ إظهار إمكان تثوير المجتمع بالكامل وجعله جزءاً لا يتجزأ من عملية التغيير، من شأنه تقديم المثال أو النموذج للغير. يكفي في هذا السياق أن تقوم بفعل التثوير وتصل به إلى خواتيمه، حتى تثبت لمن يستخفّ بك وبنضالك أنّ ما كان ممكناً للروس أو للفرنسيين أو للصينيين، بات في متناولنا أيضاً، وبالقدر نفسه ، إن لم يكن أكثر.
لم يعد التنظير للثورة رطانة فارغة بعد اليوم. ففي وسع أيّ كان أن يرمي في وجهك تهمة الرّطانة عندما تحاججه، إلا في هذا الأمر. لقد جرّد الشعب التونسي المعلّقين العرب من ذريعة فريدة لتسويغ التسلّط والنّهب المنظّم. أصبح بإمكان المرء اليوم أن يدعو كل الشعوب العربية إلى الاحتذاء بالنموذج التونسي، من دون أن يخشى رشقه بتهمة الشعبوية وممالأة «الغوغاء». ذلك أنّ «الغوغاء» اليوم هم من استعادوا الديموقراطية من جزمة الديكتاتور. أما النخبة فأدركت أنّها يجب أن تلتحق بركب الجماهير. فوقوفها على الحياد سيعزلها ويجعلها منبوذة أمام قطاعات عريضة من الشعب. وهذا أمر لا طاقة لها عليه، في حقبة جديدة، تنبني على الإجماعات الوطنية، لا على التمترس وراء أوهام التناقض بين «التنوير» و«الظلامية»، أو بين «النخبوية» و«الغوغاء».
قد لا تكون هناك صلة مباشرة بين هذه الثنائيات المصطنعة وما قاله أخيراً نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي سيلفان شالوم عن أحداث تونس، لكن الربط بينهما يبقى ضرورياً حتى تفهم هذه «النخب» كيفية استغلال الغرب حججها في تنصيب دُماه حكاماً علينا وعلى أجيالنا المقبلة. ومما قاله شالوم في هذا الصدد: «نأمل أن يستمر الاعتدال، فتونس دولة معتدلة، وكانت مرتبطة طوال السنين الماضية بالغرب، ونحن نتابع التطورات، من أجل الحفاظ على علاقاتنا مع هذه الدولة، ونأمل أن يمنع المجتمع الدولي جهات إسلامية من السيطرة عليها».
ما نعرفه حتى الآن من متابعة الحراك التونسي، أنّ التنظيم الإسلامي الوحيد في تونس (حركة النهضة) لم يظهر على نحو جدي إلا حين وصلت الثورة إلى «خواتيمها». مثله في ذلك مثل باقي الأحزاب التقليدية هناك. وهذا يعني أنّ فعل التثوير عندما يتجذّر في مجتمع ما، لا يعود يفرّق بين إسلامي ويساري أو بين مؤمن وملحد. فهذه تناقضات ثانوية، لا مكان لها في الحقبات التي تشهد تغييراً جذرياً في السلطة. أما عندما تصل عملية التغيير إلى خواتيمها، ويستوي النظام البديل في مكانه، فحينها تبدأ هذه التناقضات بالظهور، من دون أن تأخذ بالضرورة الحجم الذي أريد لها أن تأخذه أيام كان النظام يؤدي دوراً وظيفياً في خدمة المصالح الغربية والإسرائيلية. هنالك مزيد من الدروس التي علّمتنا إياها ثورة الشعب التونسي، لكنّ الوقت لا يتسع لتفصيلها. ومجرّد استبطان بعضها من شعوب أخرى مجاورة، يعني أنّ الرسالة قد وصلت، وأنّ فعل التثوير لم يعد رطانة فحسب، بل بات حقيقة واقعة.
* كاتب سوري