لا جدال في أهمية المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، سواء بالنسبة إلى الرافضين لها، أو بالنسبة إلى المؤيّدين. والواقع أنّ تأثير عمل المحكمة ومفاعيلها قد بدآ قبل صدور قرارها الاتهامي يوم الاثنين الماضي، وسيستمرّان، بل سيتصاعدان، في الأسابيع والأشهر والسنين المقبلة. أوّل الغيث في هذا الأمر، كان إفشال المساعي السعودية ـــــ السورية في واشنطن، وبقرار صريح ومباشر من الإدارة الأميركية، وبوجود أحد طرفي المبادرة العربية والمحكمة الدولية. نعني بذلك كلّاً من الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز ورئيس الحكومة اللبنانية المستقيلة السيّد سعد الحريري.قبل ذلك، كانت واشنطن قد أعلنت تمسّكها بالمحكمة. وهي ردّت على محاولة حجب المساهمة المالية اللبنانية عنها، بتقديم مساعدة للمحكمة بقيمة عشرة ملايين دولار. كذلك ردّت على مساعي الانسحاب الرسمي اللبناني منها، بتأكيد طابعها الدولي، وبالتالي استمرارها واستمرار دورها وعملها، حتى لو تخلى الجانب الرسمي اللبناني عنها.
لا تنشد الولايات المتحدة العدالة. ولو كانت تغار عليها فعلاً، لاختبرنا ذلك في موقفها من الحقوق والمطالب الفلسطينية. فواشنطن ترى في المحكمة أداة للضغط على خصومها في المنطقة، ووسيلة لتحقيق بعض مصالحها ومصالح حلفائها العرب أو اللبنانيين أو الإسرائيليين. وقد شهدنا بالفعل المرحلة التطبيقية الأولى في واشنطن، في الأسبوعين الماضيين، كما أشرنا آنفاً. فلقد تمكّنت واشنطن، بالاستناد إلى التمسّك بالمحكمة، من وقف المسار التراجعي لحلفائها في لبنان، ومن تحويل مواقف خصومها نسبياً من الهجوم إلى الدفاع، فليس خافياً أنّه مع تعثّر المشروع الأميركي في المنطقة (من العراق إلى لبنان إلى أفغانستان وباكستان)، انتقل خصوم هذا المشروع من وضعية المحاصَر إلى وضعية المحاصِر، كما عبّر مساعد وزيرة الخارجية لشؤون الشرق الأدنى، السفير الأميركي السابق في لبنان، جيفري فيلتمان. وقد تلاحقت في نطاق ذلك، نجاحات الخصوم إلى الدرجة التي فرضت على قيادة المملكة العربية السعودية، مثلاً، اعتماد الجنوح نحو المصالحة والاستعداد للتعاون، بعد المبالغة في نهج العداء والقطيعة والمقاطعة.
على المستوى اللبناني أيضاً، برزت تحوّلات أساسية في موازين القوى والعلاقات والمعادلات، وصولاً إلى تمكّن خصوم واشنطن وحلفائها، من تسجيل نقاط أساسية في مجال المشاركة في السلطة، وعلى مستوى التوازنات السياسية والشعبية، سواء على المستوى الداخلي أو في مجال العلاقات الخارجية. وكان من مظاهر ذلك تفكّك فريق الرابع عشر من آذار، وتراجعه المدوّي حيال الموقف من القيادة السورية، سواء في مجال الاتهامات التي كانت تُكال لتلك القيادة، أو في مجال العلاقات الثنائية الرسمية وغير الرسمية السورية ـــــ اللبنانية.
إزاء كلّ ذلك، لم تكن واشنطن تستطيع شيئاً، فمشاكلها تزداد في المنطقة، لكنّها كانت تراقب وتنتظر الفرصة المناسبة لتفعيل حضورها وتأثيرها. وكانت المحكمة الدولية إحدى الأوراق التي يجب تأمين استمرارها، للتمكّن من استخدامها في الوقت المناسب. وفي هذا المجال، مارست واشنطن كلّ أشكال التدخل الصريح والمباشر عبر الاتصالات، وخصوصاً عبر الزيارات: من زيارة فيلتمان، قبل أشهر، للقاء رئيس الجمهورية ورئيس «اللقاء الديموقراطي» وليد جنبلاط، إلى زيارة السفيرة الأميركية في بيروت السيّدة مورا كونيللي للنائب نقولا فتّوش. واليوم، كما في السابق، إذ يعيب فريق على الإدارة الأميركية تدخّلها في الشؤون الداخلية لهذا البلد أو ذاك، فإنّ هذه الإدارة تلقي ذلك في سلّة المهملات، مكرّسة «حقّها» في الهيمنة والتدخل وصولاً إلى اجتياح أراضي بلدان وشعوب أو سيادتها أو حقوقها. وكانت الإدارة السابقة، كما هو معروف، قد اشتقّت لنفسها نظريات متكاملة في هذا الصدد، من نوع «الحروب الوقائية» أو الاستباقية، أو نشر قيم الديموقراطية في العالم، أو محاربة الإرهاب. وكانت الوسائل شاملة من دون قيود أو حدود: من نشر «الفوضى الخلّاقة»، إلى ممارسة الغزو والاغتيالات والحصار.
وتنخرط الإدارة الأميركية في المعركة الحالية بكلّ الإمكانات المتاحة. وها نحن نلاحظ الدور المحموم لوزيرة الخارجية هيلاري كلينتون. وكذلك المواكبة المثابرة للرئيس الأميركي نفسه. وتستطيع هذه الإدارة أن تهنئ نفسها الآن، لأنّها قد استعادت شيئاً من المبادرة: فهي قد أعادت الوهج لدورها، وتمكّنت من وقف المسار التراجعي لحلفائها. وقد جاء تدخّلها أيضاً في مرحلة حرجة بالنسبة إلى حليفتها وشريكتها، إسرائيل، المنهمكة الآن في بعض المشاكل الداخلية، فضلاً عمّا تعانيه من ضغوط تمارسها المجموعة الأوروبية ومعظم دولها و«قناصلها»، التي ضاقت ذرعاً بالتطرّف الصهيوني، فانتقل بعضها إلى إعلان الاستعداد للاعتراف بالدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية، من طرف واحد، أي أنّ واشنطن قد عوّضت الضعف الإسرائيلي، وبسببه تراجع الدور الإسرائيلي المميّز في متابعة المحكمة وكشف جزء حساس من جوانب عملها واستهدافاتها، وصولاً إلى تحديد هوية الجهات المتهمة سواء كانوا أفراداً أو أحزاباً أو دولاً.
وفي مجرى صراع ضار في المنطقة، حدّدت لها واشنطن أهدافاً عريضة وقدّمت في سياقه خسائر فادحة مادية ومعنوية، تسعى الإدارة الأميركية الحالية إلى استثمار المحكمة إلى أقصى الحدود. وهذا يعني أنّ المحكمة ستكون عنصر توتير متواصل إلى أن تحصل واشنطن على التنازلات الضرورية في ملفات، تبدأ بإيران، وتمرّ بالعراق وفلسطين، وصولاً إلى أفغانستان وباكستان وإيران و... لبنان.
والسؤال: أين مهنية المحكمة من كلّ ذلك؟ يجب الفصل هنا بين أمرين: مرحلة توجيه الاتهام، ومرحلة إثبات هذا الاتهام. وتتداخل في هاتين المرحلتين عوامل عديدة: سياسية وقضائية واستخبارية وإعلامية ومالية. ولكلّ مرحلة من هاتين المرحلتين، عدّة شغلها ووظيفتها وثمنها. فتوجيه الاتهام له وظيفة، وللتأجيل وظيفة أخرى. وكذلك لباقي المراحل وظائف وأثمان.
وفي كلّ ذلك، لا بدّ من التذكير بأمرين: أوّلهما، أنّه لا يجوز إطلاقاً تحقيق هدف إشعال الفتنة عبر الانفعالات غير المسيطر عليها، التي يمكن أن تكون أداة متتالية لتدخل مسموم بهدف إغراق لبنان في التوتر والاقتتال وإشغال المقاومة في صراع مذهبي تُعرف بدايته ولا تُعرف نهايته. والثاني، هو التسليم القدري بصوابية قرارات المحكمة وكأن القيّمين عليها لا يخضعون لضغوط أو لمصالح كبيرة أو صغيرة.
وحتى يثبت العكس، يبقى «مباشر» المحكمة، إسرائيلياً، أما قاضيها فذا وظيفة أميركية. لهذا السبب يجب أن تتقارب المواقف اللبنانية على حساب الانقسام الحاد القائم، لتقليل الخسائر، وكى لا يكون لبنان، برمّته، الشهيد القادم ولا يستمرّ الإفلات من العدالة.
ومن أجل ذلك، أيضاً وأيضاً، يجب أن يبادر المبادرون المحليون والعرب وسواهم، لكن ليس إطلاقاً على طريقة الموقف الذي عبّر عنه وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل.
* كاتب وسياسي لبناني