تخلَّصت تونس من زين العابدين بن علي، لكنها لم تتخلص بعدُ من نظامه. رئيسُها الانتقالي، رجل إحدى مآثره الخالدة، مناشدتُه الطاغية في تشرين الثاني/ نوفمبر 2010 الترشّحَ لولاية رئاسية سادسة. وزيرُها الأوّل، محمد الغنوشي، رجلٌ لا يرى غضاضةً في البقاء في منصبه، بعدما ترأس حكومة تقعُ على عاتقها مسؤوليةُ قتل عشرات المتظاهرين، ولا في الاعتراف بأنّه على اتّصال برئيسه المنفيّ في المملكة السعودية (قناة France 24، 16 كانون الثاني/ يناير 2011). هذان الرجلان هما من سينظِّمان الانتخابات الرئاسية المقبلة، مستفيدين من دعم قدّمته لهما على طبق من ذهب، أحزابٌ عانت مضايقات سلطة ، هما من رؤوسها: الحزب الديموقراطي التقدمي (محمد نجيب الشابي) وحركة التجديد (برئاسة أحمد إبراهيم) والمنتدى الديموقراطي (مصطفى بن جعفر).أطلق النظام القديم ـــ الجديد سراحَ جلّ معتقلي الانتفاضة، لكنّ عمار عمروسية، من حزب العمال الشيوعي التونسي، وفاهم بوكَدُّوس، الصحافي في قناة الحوار التونسي، وحسن بن عبد الله، أحد قادة التحركات الاجتماعية في الحوض المنجمي لقفصة (كانون الثاني/ يناير ـــ حزيران/ يونيو 2008)، لا يزالون في السجن، يدفعون ضريبةَ مساندتهم لمطالب سكان هذه المنطقة المُفقَرة، التي لا تختلف في شيء عن مطالب سكان سيدي بوزيد أو القصرين.
وبالرّغم مما يُردَّد عن «حياده»، يبدو الجيش أداة طيِّعة لاستمرار حكم التجمع الدستوري في ثوب جديد. صحيحٌ أنّه اعتقل بعض المسؤولين السابقين، كوزير الداخلية، رفيق حاج قاسم، ومدير الأمن الرئاسي، علي السرياتي. لكنّه لا يبدو عازماً على اعتقال مسؤولين آخرين عن القمع، الذي أطبقت قبضتُه على الشعب التونسي طوال 23 سنة، وما أكثرهم في البوليس والحرس الوطني وغيرهما من الهيئات السيئة الذكر. ثمّ ألا يذكرُ أحدٌ أنّه سهَّل فرار بن علي؟
ولا تتلخّص استمرارية النظام في كون رموزه يديرون شؤون البلاد ويخطِّطون لمستقبلها. هي واضحةٌ أيضاً على الصعيد الاقتصادي. لا إعادة نظر في «النموذج التنموي التونسي»، الذي أثبتت الأحداثُ فشلَه الذريع. وأدهى من ذلك، بدأ النسيانُ يلفُّ حقيقةَ أنّ فتيل الانتفاضة التونسية اشتعل في محافظات الوسط الغربي والغرب المحرومة، كغيرها من محافظات الداخل غير السياحية، من نِعَم «المعجزة التونسية» الافتراضية.
ويتميّز هذا النموذجُ التنموي بتسهيل الاستثمار الأجنبي في المناطق الساحلية، المستأثرة بالمشاريع الاقتصادية وفُرص التشغيل. وقد تأسّس، حسب الباحث الاقتصادي المغربي الحسن عشّي (الجريدة الإلكترونية الاقتصادية Maghreb Emergent، 8 كانون الثاني/ يناير 2011) على عمادين، سرعان ما اتّضحت هشاشتُهما. الأوّل هو التبعية لاقتصاد الاتحاد الأوروبي، الذي لم يعد يستجيب للعرض التونسي الوفير في مجالي الاستثمار المباشر والصادرات، بسبب التحاق دول جديدة به والأزمة التي يعيشها. الثاني، هو تشجيع النموّ في قطاعات لا تحتاج إلى أيدي عاملة عالية التكوين، لأنّ زبائنَها من الأوروبيين منخفضو الدخل (النسيج، الخدمات، وخصوصاً السياحة، الخ)، ما يفسر ارتفاع نسبة بطالة أصحاب الشهادات الجامعية.
ورغم أزمة الاقتصاد التونسي في السنوات الأخيرة، استمرّت القوى الحليفةُ (فرنسا، أميركا) والهيئاتُ الاقتصادية الدولية (صندوق النقد، البنك العالمي، الخ) في الإشادة بنجاحاته واعتبار تونس إحدى «الدول الصاعدة» في الشرق الأوسط، مَثلها مثَل مصر والأردن وباكستان (تقرير لصندوق النقد الدولي، أيار/ مايو 2007). وجاءت أحدثُ إشادة بها في شكل عمليّ هو دعم دول أوروبية عديدة لترشحها لمرتبة «شريك متقدم» للاتحاد الأوروبي، الذي يرتبط معها باتفاقية شراكة منذ 1995. وتستحقّ مساندة الوزير الأول اللوكسمبورغي، جان كلود يونكر، لهذا الترشح أن تُورَد حرفياً كمثال بليغ عن تعامي حكّام أوروبا عن التكلفة الاجتماعية والسياسية لليبرالية بن علي: «تونس تتقدم بسرعة وحققت الكثير من الإنجازات، ونحن نرغب في أن نكون سفراءها كي تصبح شريكنا المفضل». يُشار إلى أنّ هذا الكلام قيل في 2 كانون الأول/ ديسمبر 2010، قبل أن يشعل محمد البوعزيزي النار بنفسه في مدينة سيدي بوزيد بأسبوعين.
وإذا استثنينا حزبَ العمال الشيوعي وبعض منظمات اليسار غير المعترف بها، فلا حديثَ لأحد اليوم عن ضرورة استخلاص العِبَر من إخفاق الليبرالية التونسية وإحداث منعرج جذري يجعل الاقتصادَ التونسي في خدمة الشعب، لا الشعب في خدمته. كل ما نسمعُه هو إدانة «للفساد» وكَيلٌ للاتهامات للرئيس المخلوع وعائلته بنهب موارد البلاد، وكأن النهب في عهده كان حكراً على زوجته وبناته وأصهاره، أو أنّ أساطينَ السلطة، من أمثال فؤاد المبزع ومحمد الغنوشي، لم يباركوه بسكوتهم عنه.
* صحافي جزائري