كما في كلّ أزمة تعصف بالنظام السياسي اللبناني، تبدأ الدعوات إلى الطرف الممتلك «فائض القوة»، من أجل استخدام فائضه لدفع تناقضات النظام الطائفي إلى نهايتها، بما يؤسس لإصلاح جذري، ينتج منه نظام سياسي جديد. وبشكل متناقض، يعود النظام إلى سابق عهده، عبر تسوية واقعية بين أطراف النزاع المحليين والإقليميين، ليبقى السؤال معلقاً لإعادة طرحه عند الأزمات. في ظل الأزمة الحالية، كيف يمكن إنهاء هذا الوضع السياسي المذهبي المتشنج؟في ربيع 1975، بدأ كمال جنبلاط مهمته المزدوجة، الدفاع بالسلاح عن المقاومة الفلسطينية، واستقدام الإصلاح الجذري للنظام السياسي القائم، بقوة السلاح. لتحقيق هذين الهدفين، كان لا بد من عزل اليمين اللبناني (حزب الكتائب) وتحطيم التركيبة (الطبقة) التقليدية الممسكة بالنظام. ولفترة قصيرة من الزمن، توهّم جنبلاط والتكتل اليساري الذي قاده، أنّهما اقتربا من أهدافهما، فقد تمكّنا من السيطرة على 80% من مجمل الأراضي اللبنانية في غضون ثلاثة أشهر، أي آذار ونيسان وحزيران من عام 1976. وبطريقة مفاجئة، انهارت الحركة الوطنية، عندما تدخلت القوات السورية (بدعم عربي ودولي)، للحفاظ على النظام القائم، عبر إعادة التوازن الى الستاتيكو السابق للمحاولة الإصلاحية، المستندة الى قوة السلاح.
أسهمت ثلاثة أسباب رئيسية في إفشال تحرك جنبلاط الإصلاحي، المستند الى فائض القوة المتوافر لدى تحالفه اليساري: أولاً، الفهم الخاطئ لدور لبنان العاكس للتوازنات الإقليمية من خلال توازناته الداخلية. ثانياً، عدم الأخذ بالحسبان التوازن المذهبي القائم في النظام السياسي، وخطورة إلغائه (كما كان يطمح جنبلاط)، ثالثاً، افتقدت تلك المحاولة الإصلاحية البعد الاجتماعي، ما أعطاها طابعاً طائفياً. أدخل تضافر هذه الأسباب، محاولة جنبلاط الإصلاحية، في نفق حرب طائفية، انتهت باتفاق، «دسْتَرَ» المذهبية في النظام، بدلاً من إلغائها.
كيف يمكن من يملك « فائض القوة»، الاستفادة من تجربة كمال جنبلاط في معالجة الأزمة الحالية؟
يبدو أنّ حزب الله مدرك، تمام الإدراك، خطورة وعبثيّة أيّ تجربة إصلاحية، تعتمد على القوة العسكرية، وأيّ تجربة إصلاحية تطوّر نظام ما بعد الطائف عبر الوسائل السلمية. فهو لا يريد القيام بعمل عسكري من شأنه إحداث تغيير مؤثر ومباشر في دور لبنان، العاكس للتوازنات الإقليمية. كذلك، لا تتوافر لديه النية، لإحداث تغيير في التوازن المذهبي القائم في مرحلة ما بعد الطائف.
انطلاقاً من هذين المرتكزين في سياسة حزب الله لهذه المرحلة، يبدو أنّه يتجه نحو التخلّي عن دعم المطالب الإصلاحية لحلفائه المسيحيين، وذلك لأنّها ستكون مشابهة، من حيث النتائج السلبية على التوتر المذهبي، كما نتائج أيّ عمل عسكري، وخاصةً أنّ قادة السنّة (موالاة ومعارضة) ما فتئوا يردّدون رفضهم لأيّ إصلاح يمسّ اتفاق الطائف.
إذاً، أيّ محاولة إصلاحية لإعادة التوازن الطائفي الى النظام السياسي، عبر إعادة بعض من صلاحيات رئيس الجمهورية المفقودة بفعل الطائف، لن يتردّد صداها إلا في الإطار المذهبي. وهذا ما يسعى حزب الله إلى الابتعاد عنه، وإن أدّى الى خسارته بعض المكاسب السياسية أو الشعبية.
من ناحية ثانية، يسعى الحزب إلى عقد تسوية، تنهي الوضع السياسي ـــــ المذهبي المتشنج. تسوية تطمئن السنّة إلى أنه لا تغيير في التوازن المذهبي القائم بفعل الطائف، ولا تلحق الضرر بالتوازن الإقليمي.
لكن ما هي صيغة التسوية المناسبة لجميع الأطراف المحليين والإقليميين؟ إنّها تسوية تثبّت الوضع الراهن، عبر إعادة توزيع الأدوار داخلياً، بما لا ينتج أية أضرار إقليمية. صيغة تستوعب المفاعيل الفتنوية للقرار الاتهامي من خلال إعادة إحياء معادلة «المقاومة مقابل الاقتصاد». تبدو هذه التسوية مغرية للجميع. بالنسبة إلى حركة 14 آذار، قد يكون إلغاء أو استيعاب المفاعيل اللبنانية للقرار الاتهامي أمراً لا يمكن تقبله بالسهولة المطلوبة أمام مؤيديها، لكنّه سيجنّبها موجة جديدة من العنف، تطيح ما بقي لها من مكتسبات حركتها الانقلابية، وخاصةً أنّ أحداث 7 أيار أثبتت، بما لا يدع مجالاً للشك، أمرين رئيسيّين بالنسبة إلى قوى 14 آذار: أولاً أنّ الدعم الغربي لا يتجاوز حدود بيانات الدعم والتأييد، ثانياً أنّ حزب الله لن يتردد مطلقاً في استخدام سلاحه في الداخل اللبناني، فيما لو تجاوزت سياسة 14 آذار خطوطه الحمراء.
إذاً، تتيح التسوية، لقوى 14 آذار، الفرصة لالتقاط الأنفاس أمام الهجوم السياسي المستمر لحزب الله، منذ أحداث السابع من أيار. كذلك، هي مغرية بالنسبة إلى الرئيس سعد الحريري. فالعودة إلى رئاسة الحكومة والحكم المتفرّد في الاقتصاد، في ظلّ اتفاق الدوحة، وبالرعاية السورية، هو أقصى ما يمكن أن يحقّقه في هذه المرحلة السياسية المعقّدة داخلياً وإقليمياً، فضلاً عن أنّ هذه التسوية، ستجنّبه الخيارات الصعبة في مرحلة ما بعد القرار الاتهامي. وما إسقاط حكومته، إلا إشارة الى أنّ سياسة الهروب إلى الأمام، لم تعد تجدي نفعاً في التعاطي مع مطالب المعارضة، التي باتت تملك القدرة السياسية على تسمية بديل له في رئاسة الحكومة. بالنسبة إلى حزب الله، تبدو هذه التسوية بمثابة الخيار الأفضل لهذه المرحلة، فهي، إذ تبعد المفاعيل الفتنوية للقرار الاتهامي، تتيح للحزب إعادة ترميم صورته على مستوى العالمين، العربي والإسلامي، كحركة تحرر وطني، ومن الناحية الثانية، تضعف هذه التسوية الرئيس سعد الحريري، المتراجع عن ثوابت حركته السياسية. فبعد قبوله مكرهاً حكومة وحدة وطنية، وإنهائه حالة العداء لسوريا وزيارته لإيران، ها هو الآن يساوم على المحكمة الدولية، أي يتخلى عن أهم ورقة ضغط سياسية تؤرّق حزب الله.
على المستوى الإقليمي، أصبح من الواضح أنّ الولايات المتحدة و(محور الاعتدال)، لم يعودا يملكان سوى بعض أوراق اللعبة، بعد ما استنفدت أميركا، ولا تزال، طاقاتها السياسية (التسوية العراقية، الملف الفلسطيني، الحرب الأفغانية، محاولة عزل سوريا، الملف الإيراني)، وأصبحت في واقع سياسي متدهور، ما يحتم عليها البحث عن وسائل تحد من خسائرها، أو على الأقل تثبّت أوضاعها المتدهورة، وهذا ما لا يمكن أن يتحقق إلا عبر تسوية تضمن مستقبل حلفائها اللبنانيين، عبر التخلي عن المحكمة، كأداة لضرب المقاومة. وبالتالي، ينقلب خيارها من استعمال المحكمة في الداخل اللبناني للتأثير في مشاريعها المتعثّرة في المنطقة، الى التخلي عن المحكمة لمصلحة تسوية تثبّت توازن القوى القائم في لبنان، بطربقة لا تؤثر سلباً في مسار أزماتها الإقليمية.
بقدر ما تثبّت هذه التسوية من الستاتيكو الداخلي، تعطي حزب الله القدرة على استكمال انقلابه المضاد لحركة 14 آذار، بما يمهّد له الطريق لإنهاء المشروع الأميركي في لبنان، وذلك بعدما أُجبرت 14 آذار على التخلّي عن ثوابتها الرئيسية. وبقدر ما يكون حزب الله قد استطاع أن يضبط العملية السياسية اللبنانية، بعد اتفاق الدوحة، ويحتوي حركة 14 آذار، يكون قد هيّأ النظام السياسي اللبناني للمرحلة الأهم في تاريخه السياسي المعاصر، فيصبح في «مرحلة ما بعد التسوية»، لاعباً أصيلاً في التوازن الإقليمي، بدلاً من أن يقتصر دوره على قلب توازنات المنطقة.
* باحث لبناني