الاتفاق النووي بين إيران والدول الست (الغرب)، لم يَرُق لإسرائيل والسعودية ودول الخليج، إذ أن هذه الدول تعتبر أنّ الخطر الإيراني الذي يهددها ما زال قائماً، فحلفاء اميركا في المنطقة أرادوا منها أن تدمّر إيران كما دمرت العراق وذلك لضمان إبعاد «شر إيران عنها» عقوداً من زمن المستقبل، لكن حسابات الولايات المتحدة اختلفت عن حسابات حلفائها في المنطقة.
فهي من ناحية تأخذ بعين الاعتبار والحسبان أن لإيران حلفاء أقوياء يشكلون قطباً عالمياً منافساً لها ورافضاً رفضاً مطلقاً لتفردها باتخاذ القرار على صعيد العالم ومنه منطقة الشرق الاوسط.
ومن ناحية ثانية تسعى الولايات المتحدة، بعد الاتفاق وعبره، الى ضمان مصالحها مع إيران ذات الثروات الهائلة والتي تشكل (أو قد تشكل) سوقاً أكبر بكثير من أسواق الجزيرة العربية والخليج.
وضمان مصالحها في إيران ومع إيران يعني بالضرورة عدم ترك المجال مفتوحاً على مصراعيه للدول الاوروبية لتجني ثمار الاتفاق النووي وحدها.
ولقد حاولت الولايات المتحدة ان ترضي حلفاءها خصوصاً إسرائيل، في محاولات حثيثة ومستمرة لإدراج شؤون استراتيجية أخرى تمس قضايا حساسة في الشرق الأوسط.
لكن إيران رفضت بحزم إدراج اي موضوع على جدول الاعمال الى جانب الملف النووي.
وكانت القضية الاستراتيجية الأهم تتصل بتنازل إيران عن موقفها الرافض للدولة الصهيونية التي اقامها الغرب على أرض فلسطين.
ومن الملفات الشرق الأوسطية التي حاولت الولايات المتحدة وأوروبا بحثها مع إيران ملف سوريا ودعم إيران للنظام في سوريا ولجيش سوريا العربي. وفشلت هنا بسبب الرفض الايراني الحازم.
ولم يتردد الاميركيون والاوروبيون في طرح ملف حزب الله ودعم إيران له وفشلوا هنا ايضاً بسبب الرفض الحازم الايراني.
وعندما أدركت الولايات المتحدة عبثية الضغط لفتح هذه الملفات، ركزت على التشدد في شروط ومطالب الغرب في الملف النووي، وتم الاتفاق بعد ان تعاملت إيران مع مطالب الغرب بمرونة ودبلوماسية عالية المستوى.
واضطر الرئيس اوباما إلى ان يشير علناً الى فشل ادراج الملفات الاخرى على جدول الاعمال حين قال: «ان اتفاقنا حول الملف النووي لا يلغي خلافنا الحاد حول مجموعة مهمة من القضايا في الشرق الاوسط، وتدخل إيران في الشؤون الاقليمية للشرق الاوسط»!
وانتقل الثقل للملف السوري بعد أن أُنجز وأُقرّ الاتفاق النووي مع إيران.
الجدير هنا أن نُبقي في الذهن أن نجاح المفاوضات الإيرانية الغربية حول الملف النووي ما كان لينجز لو لم تشارك موسكو عند أكثر من منحنى، في طريق المفاوضات في تذليل بعض الصعوبات التي كانت تبرز وحلّ بعض التناقضات التي كادت أن تُفشل المفاوضات.
وسارعت روسيا إلى االإمساك بزمام الأمور في الملف السوري. وشكلت حلفاً لمواجهة التحالف الذي يعمل على تفتيت سوريا وتدمير الجيش العربي السوري والنظام في سوريا.

جدول أعمال «فيينا» يجب أن يشمل على نحو أساسي تطبيق القرار 242

واتخذت القرار التاريخي بدعم سوريا عسكرياً في وجه التحالف الذي يستهدف وحدة سوريا ارضاً وشعباً. فقد عززت موسكو قاعدتها الارتكازية الرئيسية في ميناء طرطوس، تعزيزاً نوعياً قبل أن تعلن إرسال طائرات السوخوي لقصف أهداف محددة للإرهابيين ومراكزهم الحصينة في المحافظات السورية.
ولا أعتقد أنني أكشف سراً اذ قلت إن سلاح الجو السوري تسلم سرباً من الطائرات الروسية لتعزيز قدراته، وإن طرطوس شهدت موضعه لصواريخ دفاعية روسية لمواجهة الصواريخ الباليستية.
ولا شك ان اسقاط صاروخي كروز فوق البحر المتوسط كانا قد أطلقا من قاعدة اميركية في جنوب ايطاليا وقاعدة اميركية في اسبانيا شكّل رسالة مهمة للولايات المتحدة حتى لا تتفادى لأن «المصالح السورية والأمن السوري هي بموازاة المصالح الروسية والأمن السوري».
وبهذا وصلت الرسالة واضحة من الكرملين للبيت الأبيض. واخطرت واشنطن مرة اخرى لإعادة الحسابات.
فما يريده حلفاؤها في المنطقة من الحرب الارهابية الدموية على الارض السورية لم يعد ممكناً (ونقصد هنا ما يريده حلفها الاسرائيلي التركي السعودي).
فإسرائيل التي اعدت الدراسات للحرب الارهابية على سوريا لتفتيتها ارضاً وشعباً تريد استمرار التصعيد لأن هذا يتيح المجال لها بابتلاع الضفة الغربية وشطب قضية فلسطين.
اما السعودية وقطر وتركيا فقد ارادت استمرار التصعيد الدموي والتدمير المنهجي لسوريا لإقامة خلافه اسلامية تتنافس على قيادتها تركيا والسعودية. بينما قطر تصفق لانغماس السعودية أكثر فأكثر في المستنقع الدموي لينهار حكم الوهابيين في الجزيرة.
وينهار النظام في سوريا وتتمكن هي بإدارة الامور عبر تركيا التي يخضع نظامها لأموال قطر.
استوعبت واشنطن ان وضعاً جديداً قد تم تحقيقه على ارض المعركة.
فبعد المعارك الطاحنة التي طرد الارهابيون على إثرها من القلمون بدأت معركة سوريا عامة ضد الارهابيين والمحركين لهم في كل المواقع بإسناد من سوريا.
فتراجعت سياسياً لالتقاط الأنفاس تهيئة لإعادة ترتيب أوراقها واعادة تنظيم صفوف المقاتلين الارهابيين ضد الجيش العربي السوري. وسعت لعقد اجتماع سريع ضم حلفاءها (تركيا والسعودية) وروسيا التي رمت بثقلها في المعركة. وتم اعلان التوجه لعقد اجتماع يضم اطرافاً معنية بالصراع الدائر على الارض السورية، وبدأ صراع دموي مفتوح على الارض السورية بين الجيش العربي السوري والمنظمات الارهابية، لحسم المعارك بدعم واسناد من الطيران الحربي الروسي.
واعادت الولايات المتحدة ترتيب اوراقها بعد الفشل الذريع الذي منيت به عندما حاولت انشاء قوة خاصة دربت وسلحت في الاراضي التركية وادخلت الى الاراضي السورية.
وراحت تلوّح الولايات المتحدة باستخدام القوة بشكل تصعيدي وعبّر عن ذلك وزير الدفاع الاميركي كارتر بقوله: «نحث قوى المعارضة على محاربة النظام السوري والجيش السوري ونؤكد لها دعم الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة وعلى رأسهم اسرائيل». قد يكون ذكر كارتر لإسرائيل زلة لسان! ولكن نعتقد انه عنى ان بذكر اسرائيل من بين الحلفاء الذين يدعمون داعش والنصرة كقوى معارضة تعتمدها الولايات المتحدة.
وذلك ليبرّر لاحقاً زجّ اسم اسرائيل في مفاوضات الحل السياسي التي سيتابع العمل لتحقيقه مؤتمر فيينا. لقد قدمت الولايات المتحدة استناداً لتقديرها لميزان القوى وللوقوف الذي يلزمها للعمل على منع انهيار «داعش» بسرعة، قدمت ما يمكن ان نطلق عليه تعبير «تنازلات واقعية»، وأقنعت حلفاءها بضرورة ذلك، واهم هذه التنازلات:
1 ــ الاقرار بوحدة الارض السورية (اي نشطب مشروع تقسيم سوريا السابق).
2 ــ الاقرار بضرورة وجود بشار الاسد في مرحلة الحل الاولي (اي التراجع عن شرط رفض وجوده في اي حل سياسي، كما كانت تشترط هي وحلفاؤها سابقاً).
لكن خطط البنتاغون في جوهرها ليست هي الخطط التي تعلنها، فقبولها في الحل السياسي وهو موقفها المعلن لا يعني انها تقر وتقبل بأن يفرض هذا الحل ميزان القوى القائم والايل للميلان أكثر فأكثر لصالح الجيش العربي السوري.
فقد خططت للعمل بكل ما اوتيت هي وحلفاؤها من قوة لتعديل الميزان بحيث يُعقد المؤتمر الثاني لفيينا بشكل يرجح كفتها وليس كفة سوريا وحليفها القوي بوتين.
وخططت الولايات المتحدة ليكون مؤتمر فيينا مؤتمراً اقليمياً، حاولت من خلاله الغاء نتائج مؤتمر مدريد حول الشرق الاوسط وتعديل نتائجه بحيث يتلاءم المؤتمر الجديد ونتائجه مع اطماع اسرائيل التوسعية وانتزاع اعتراف عربي بذلك.
وستحاول ان تُكره سوريا على الموافقة على النتائج التي تريدها اسرائيل كجزء من صفقة فيينا الشرق اوسطية. ترمي الولايات المتحدة بثقل عسكري متصاعد تدريجياً، واتفقت مع تركيا واسرائيل والبرزاني على خطوات تصعيدية لاحقة ستبدو في شكلها مضادة لداعش لكنها في الواقع ستكون ضد الجيش العربي السوري والشعب السوري، ولا تخدم سوى الولايات المتحدة واغراضها واغراض حلفائها وعلى رأسهم اسرائيل.
وستستخدم كل الضربات الممكنة دون الحزام «او تحت الحزام» للضغط على روسيا التي لن تخشى من تلك الضربات ولن تتراجع عن دعم سوريا عسكرياً.
(من الامثلة على ذلك تفجير الطائرة فوق سيناء سواء كان ذلك فعلياً أم اعلامياً وسياسياً، وكذلك ارسال قوات خاصة إلى سوريا).
نستطيع ان نرى بوضوح ان ما قصده وعناه وزير الدفاع الاميركي كارتر بقوله ان الولايات المتحدة سترد على اي عدوان موجه من روسيا واستباقاً، لاكتشاف مشاركة الولايات المتحدة في الاعتداء على السوريين وجيشهم العربي.
فهو تهديد واضح وليس مبطناً لروسيا ولذلك نتوقع بجدية ان يعلن عن وجود صواريخ S300 وفي الخدمة بيد الجيش العربي السوري، ونتوقع تسليم سلاح الجو طائرات جديدة افضل من التي مازال يستخدمها حتى الآن.
الخطوات التي تتخذها الولايات المتحدة وتلك التي تضغط حتى يتخذها الحلفاء الاوروبيون (كما فعل هولاند وستفعل بريطانيا سراً)، تستهدف تعديل ميزان القوى بحيث تحمي داعش في العراق وتجبر الاطراف على تحويل مؤتمر فيينا الى مؤتمر اقليمي وليس مؤتمراً لحل ازمة الصراع الدائر على الارض السورية.
مرة اخرى تسعى الادارة الاميركية بإملاء من الحركة الصهيونية لتحقيق ما يحلم به نتنياهو، وهو وعد بلفور جديد اي اسرائيل الكبرى من البحر للنهر وشطب قضية فلسطين.
أي تحقيق الهدف الذي من أجله دمرت العراق وسوريا وقتل مئات الآلاف وما زال النزف مستمراً.
إذا لخصنا بكلمات قليلة تعريف الوضع الراهن، نقول ان هنالك على الارض السورية معارك تحتدم بين معسكر الاستعمار الجديد وحلفائه الاقليميين والمحليين ومعسكر مقاومة الاستعمار ومخططاته الذي يستند اساساً للقوى الوطنية والقومية الحية والملتزمة بالنضال، لدحر الاستعمار الجديد وحلفه ومخططات هذا الحلف وهذه القوى اصبحت بشكل علني وواضح مدعومة من روسيا وحلفاء روسيا على الجبهة العالمية.
والوجه الآخر لهذه المعارك هو وجه المعركة لإنهاء انفراد الولايات المتحدة بتقرير مصير العالم مدعومة من حلفائها في حلف الاطلسي الذين يجنون أرباحاً طائلة من سرقة الشعوب ونهب ثرواتها.
وقررت الولايات المتحدة ان ترمي بكل ثقلها لمنع روسيا من تحقيق التوازن في الشرق الاوسط. وأعلن اوباما التزام بلاده المطلق بأمن إسرائيل، وهي التي تهدد أمن كل دول المنطقة وترتكب الجرائم البشعة ضد الشعب الفلسطيني، وفي الوقت ذاته تحاول خداع الرأي العام الاميركي والعالمي والإقليمي بإعلان دعمها لإيجاد حل سياسي للازمة. نعم هي تريد حلاً سياسياً لكن على القياس الاميركي.
والمهم هنا أن تحدد قوى المقاومة الحل السياسي الذي تسعى له، وان تضع جدول اعمال لمؤتمرات فيينا يتناسب مع هدف ضرب الارهاب: تنظيمات أو حكومات.
خوض المعركة والانتصار فيها سيكون اساس الحل لذلك: تماماً كما شرح وزير دفاع الولايات المتحدة وحدّد اسرائيل كطرف من الاطراف معسكر العدوان على سوريا، فإننا نشرح ونحدد المقاومة الفلسطينية كطرف مقاوم للإرهاب وتحديداً ارهاب اسرائيل - دولة الاحتلال التوسعية والعنصرية.
جدول اعمال «فيينا» يجب ان يشمل بشكل اساسي تطبيق قرار 242.
يبقى أن نقول أن أي حل سياسي لا يمكن ان يكون حلاً مستديماً ما لم يكن قائماً على العدل ومستنداً بحق الشعوب في تقرير المصير والحرية والاستقلال والديمقراطية، لذلك لا يمكن لأي حل في الشرق الأوسط ان ينجز وان يستديم ما لم يتم القضاء كلياً كشرط مسبق على الإرهاب، بمصدريه العصابي والحكومي، والمثل على ذلك في منطقتنا واضح ما لم يتم القضاء على داعش وحلفائه والاحتلال الدموي الإسرائيلي.
* كاتب وسياسي فلسطيني