نشرت جريدة «القدس» في الثالث من كانون الأول الماضي، تقريراً يقول إنّ رام الله تتحوّل تدريجاً، وأكثر من اي وقت مضى، الى عاصمة أبدية لفلسطين. وأشار التقرير الى ما جاء على لسان دبلوماسي عمل في دولة الاحتلال وفي مناطق السلطة الفلسطينية أثناء زيارة لشرقي القدس. قال الدبلوماسي، بعدما لاحظ حجم التغيير الذي حدث في بضع سنوات، «عادة كانت القدس الشرقية هي المكان الذي تسكنه النخبة الفلسطينية، قطاع الأعمال والإصدارات الفكرية الرفيعة كانت جميعها هنا، لكن الآن انتقلوا الى رام الله. هنا حالة من الموت، وهو أمر محزن للغاية». يشير كلام هذا الدبلوماسي الى واقع الثقافة في القدس، وربما ينبئ بالمستقبل المجهول الذي ينتظرها. فقد كانت مدينة القدس، ولفترة طويلة، تمثّل موقعاً متقدماً تتمركز فيه المؤسسات والمراكز الثقافية والإعلامية المعبّرة عن البرنامج الوطني لمنظمة التحرير الفلسطينية، وأفضى ذلك الى دينامية عالية ومميزة، جعلت القدس رأس الحربة السياسية والأيديولوجية في معركة البقاء الوطني الفلسطيني.
وكانت مساحة الاشتباك مع الطرف الآخر واسعة ومتاحة، وديناميات العمل الثقافي المندرج في المشروع الوطني التحرري والمتمتع بحرية العمل والتواصل مع الأهالي غير مكبلة بالتزامات أو معوقات من أي نوع، إلا انّه بعد نشوء السلطة الفلسطينية، أصبحت مؤسسات العمل الثقافي في القدس ومراكزه أمام تحديات كبيرة، وبات عليها إعادة تحديد مساحة فاعليتها ودورها في المجتمع، بعدما ضاقت مساحة فعلها وتأثيرها.
وكان أول ضحايا الانعطاف السياسي الكبير، المتمثل باتفاق أوسلو ونشوء السلطة الفلسطينية، «بيت الشرق»، الذي مثّل حتى ذلك الحين عملياً مقراً لمنظمة التحرير في القدس، ومرجعية وطنية وسياسية واجتماعية للمدينة. وتوّجت عمليات التضييق التي مورست عليه بالإغلاق النهائي، وبعد ذلك أُغلق الكثير من المؤسسات الوطنية التي لها علاقة بمنظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية الفلسطينية. كانت مدينة القدس من الناحية الفعلية العاصمة السياسية والاقتصادية والتجارية للضفة الغربية، وكانت مفتوحة ومفعمة بالحيوية بفعل تدفق الناس إليها من كلّ أنحاء الضفة للعبادة والتجارة والسياحة والحصول على خدمات. لكن غاب عنها، بفعل الإهمال والتهميش، الدعم الحقيقي السياسي والمعنوي والمادي. وفقدت المدينة دورها المركزي والتاريخي في الحياة الثقافية الفلسطينية، وتقلصت تدريجاً فرص الاحتفاء بمكانتها الدينية والتاريخية والجغرافية والثقافية. وأصبحت القدس مدينة بلا مرجعية وطنية، وبلا مركز سياسي وطني، رغم التعددية المفرطة في المرجعيات المتوالدة، التي لم تؤدّ حتى الآن الدور المتوقع منها بالحد الأدنى.
الضربة القاسية الأخرى التي تلقّتها القدس بعد ضرب المرجعية السياسية الوطنية فيها، كانت بناء الجدار الفاصل بين المدينة ومحيطها الطبيعي بهدف القضاء على مكانتها ودورها عاصمةً فعلية للشعب الفلسطيني، وذلك تحت حجج أمنية. وبفعل التطورات الميدانية المتسارعة، أخذت تتكشف معالم الاستراتيجية التفريغية للمدينة، ببعديها، الجغرافي المتمثل بسياسة الاستيلاء والمصادرة والتسريب وهدم بيوت الفلسطينيين في مقابل البناء المكثف لوحدات سكنية في مواقع مختلفة في عمق المدينة ومحيطها. والبعد الديموغرافي الذي يهدف الى تفريغ المدينة من أهلها عبر سياسة سحب الهويات واتخاذ إجراءات وقوانين قهرية لإجبارهم على مغادرة المدينة تحت إطار ما يسمى «الترانسفير الطوعي».
وتتعرض القدس إلى حملة طمس وتبديد ممنهجة للهوية الوطنية العربية، عبر التأثير المباشر على الموروث الثقافي والمعماري والديني والحضاري للمدينة، وعبر إعادة صياغة التاريخ وكتابته وفق رؤية أخرى تقلب الحقائق وينعدم فيها أي حضور لأي تراث أو حضارة أخرى غير يهودية.
وتعاني القدس نقصاً شديداً في مقومات البنية التحتية ومنها المراكز والمؤسسات الثقافية والفنية المتخصصة والمتنوعة، وفي التجهيزات التقنية والكوادر الإدارية. بُنى يمكن أن تضمن استمراري العمل الثقافي والفني الفلسطيني في المدينة وانتظامه، وتحقيق الحد الأدنى من المتطلبات والحاجات الضرورية لتوفير فاعلية ثقافية إبداعية فيها، مما سيكون له التأثير المستقبلي المتفاقم على وعي الإنسان الفلسطيني وذائقته ووجدانه، وخصوصاً قطاع الشباب. يجد هؤلاء أنفسهم، بسبب غياب مراكز ومؤسسات ثقافية تلبّي حاجاتهم، أمام خيارات أخرى وإغراءات تجعلهم حائرين بين تلبية الحاجات الخاصة وتنمية الطاقات الذاتية من جهة، والموقف الوطني من الخيارات المتاحة في ظل انعدام البدائل الوطنية والراقية من جهة أخرى. وتركت شبيبة القدس لإغراءات الفردوس الديني أو النعيم الخدماتي الاسرائيلي، بسبب غياب البرنامج والفاعلية الوطنية المنسجمة مع المشروع الوطني الفلسطيني.
ومع تفاقم الضغط والحصار على المدينة، تراجعت المبادرات الثقافية الوطنية في داخلها، وجُرّدت بالتالي القدس من تميّزها المتعارف عليه بما هي مركز ثقافي فلسطيني. مركز كان يستقطب المواهب والطاقات والإمكانات الثقافية والفنية والإبداعية، ويمثّل معقلاً للعاملين والمنشّطين لمختلف صنوف الإبداع والثقافة وللمنتديات والفعاليات والمهرجانات. وكانت المدن الأخرى هامش هذا المركز الثقافي، إلا أنّ الأمر انقلب تماماً، وأصبح المركز هامشاً مهملاً.
ترسخت حالة القطيعة بين المثقفين والمبدعين الفلسطينيين والقدس بسبب توجههم نحو خيارات فنية تفاعلية في داخل مدنهم أو المدن القريبة التي يمكنهم الوصول إليها بسهولة. ونقلت المراكز الثقافية مقارها إلى خارج مدينة القدس، وخصوصاً رام الله، التي أريد لها أن تكون «العاصمة الثقافية» لفلسطين. فتحوّلت القدس إلى مدينة مهجورة وخاوية من أي فعالية ثقافية أو إبداعية إلا قليلاً.
ويوماً بعد يوم، تزداد العقبات والعراقيل أمام إمكانيات إنشاء مراكز ثقافية جديدة في القدس لتلبية الحاجات المجتمعية عموماً والثقافية خصوصاً. ولا يسمح بالحصول على تراخيص بناء، وتوضع تعقيدات هائلة أمام عمليات التسجيل، وتفرض قيود وضرائب باهظة، ولا يسمح للموظفين والعمال من خارج القدس بالوصول الى أماكن عملهم في المدينة. وإذا توافرت فرص لإنشاء مؤسسات ثقافية أو تفعيل القائمة منها، فإنّها تأتي ضمن شروط تتعارض مع الأهداف والمنطلقات الوطنية للجمهور الفلسطيني والمثقفين والمبدعين المقدسيين. وللأسف الشديد، ثمة في القدس مؤسسات لديها استعداد للتجاوب مع الضغوط الإسرائيلية، والاندراج في السياق الذي تحدده بلدية القدس والتنسيق مع مكاتبها وفقاً لأجندتها ومخططاتها الاستراتيجية المتعلقة بمستقبل مدينة القدس. وبدأ بعضها يتململ ويتهيأ للانخراط في هذا المشروع. ويقف الحصار المفروض على القدس حائلاً أمام التواصل مع المثقفين والفنانين العرب والعالميين، ويحرمهم فرص المتابعة الجماهيرية للمنتجات الثقافية والإبداعية العربية والعالمية، مما يسد آفاق الحوار الحضاري والتفاعل الثقافي مع الآخر.
ومثلما هو معروف، فإنّ الفاعلية الثقافية لأي مدينة في العالم تفضي حتماً إلى دعم القطاع السياحي وتنميته، وتنشيط التجارة فيها، إذ هناك بالضرورة علاقة طردية بين إقامة الفعاليات والمهرجانات في المدينة وانتعاش هذين القطاعين. إلا أنّ القدس تشهد حالة مستمرة من الركود السياحي والكساد التجاري بفعل محاصرة العمل الثقافي وتقليص الفاعلية الثقافية لها بانتظام. ولعل ما يؤكد ذلك هو أنّ بعض الفعاليات الثقافية والفنية التي تقام في رام الله مثلاً، تقوم على هامشها بعض الانشطة لنفس الفرق الفنية أو الافلام السينمائية في القدس، إلا أنّ بعضاً من الجمهور يفضل الذهاب إلى رام الله بسبب الاهتمام الكبير الذي تحظى به المدينة من ناحية المرافق والخدمات، فيما تعاني القدس الإهمال المحزن والمثير للكآبة.
وتسود حالة واضحة من تبعثر جهود المعنيين بالشأن الثقافي والفني في القدس. ولم تصل محاولات تنظيم الجهود وتوحيدها إلى نتائج فعالة ومثمرة تضع المصلحة العليا للمدينة فوق أي اعتبارات. ولا تزال المؤسسات الثقافية القائمة، على قلتها، تضع مصالحها واعتباراتها الخاصة فوق أي اعتبار، ولا تبدي اهتماماً جدياً بالعمل الجماعي مع المؤسسات الأخرى. وإن كان هنالك تنسيق ما، فإنّ علاقات التنسيق والتفاعل تكون مع المراكز الثقافية الأجنبية أو المراكز الثقافية في خارج المدينة أعمق وأقوى من العلاقة مع المراكز العاملة في المدينة.
وتعيش هذه المراكز والمؤسسات في حالة من الضعف والنقص في الكوادر الفنية والتقنية والإدارية، ولا تنجح في تدريب كوادرها وتطويرها أو استقطاب الكفاءات المنوط بها تطوير العمل ورفع مستواه. وإذا ما وجدت بعض الكفاءات التقنية والإدارية القادرة على تلبية الغرض، فإنها تفضل العمل في المراكز والمؤسسات الثقافية في رام الله، بسبب كثرتها وانتظام عملها وسهولته، وعدم تعرضها للمخاطر المشابهة لما تتعرض له المراكز الثقافية في القدس.
ومع غياب الاستراتيجية التنموية الشاملة للقدس، بما فيها الاستراتيجية الثقافية، هناك تهميش واضح للمدينة من ناحية توفير الدعم المالي بحده الأدنى. يؤدي ذلك في كثير من الأحيان إلى تقلص النشاطات وبرامج العمل في المؤسسات القائمة أو إلى عدم إمكانية إنشاء مؤسسات جديدة تحتاج لها المدينة.
استناداً الى هذه الإطلالة السريعة على واقع القدس الثقافي وما تتعرض له مؤسسات وأفراداً ومشاريع من تهجير تدريجي منظّم، فإنّ الأمر يستدعي إعادة النظر ووضع مقترحات عدّة في الحسبان. يجب العمل على تذليل العقبات أمام تطوير المؤسسات الثقافية القائمة في القدس أو إنشاء مراكز ومؤسسات جديدة فيها، وحشد عناصر القوة القانونية التي يمكن الاعتماد عليها لضمان مواجهة القيود والعقبات القانونية والضرائب الباهظة وغيرها. كما يجب النظر إلى العمل الثقافي في القدس على أنه محور مركزي في عمل الجهات المعنية بالحفاظ على الهوية الوطنية للمدينة وتعزيز الانتماء الوطني لدى الشبيبة فيها.
كذلك ينبغي دعم المشاريع والبرامج الثقافية التي تقام في المدينة وتمويلها من القطاع الخاص الفلسطيني في ظل الفراغ الناجم عن عدم قدرة المؤسسة الرسمية على دعم العمل الثقافي وعدم توفير ميزانية كافية لدعمه في القدس.
إنّ واقع التهجير الثقافي الذي تتعرض له مدينة القدس على مستوى الأفراد والمؤسسات والمشاريع والبرامج، هو في جوهره شأن سياسي بامتياز. واذا لم تبذل الجهود الكافية لإنقاذ القدس من براثن الإهمال والقهر المتلازمين فإنّنا سنبقى نكرر الصرخة الموجعة، «القدس في خطر».

* منشّط ثقافي في القدس