لا شيء للإنقاذ في بيروت الآن: حقيقة قد يكون استيعابها مفيداً لتغيير مجرى الأمور. وقد تنوعت في السنين الماضية المبادرات الشخصية أو الآتية من منظمات لإنقاذ شيء ما من المدينة، لإنقاذ مبنى بركات مثلاً، لإنقاذ مقبرة المسلمين في الباشورة، لإنقاذ الإرث الهندسي، لإنقاذ حديقة الصنائع. طبعاً دون أن ننسى حملة إنقاذ وسط المدينة، وهي أكثر هذه المعارك بطولة. كلّ هذه المعارك حصلت ضمن منظار العمل على اللوبيات، وعلى الضغط الإعلامي لتحريف سير البيروقراطية النافذة.
وقد انتهت بعضها بانتصارات، بدت لوهلةٍ «عجائبية» عند البعض، أو بدت غير أكيدة، كما هي حال حديقة «الصنائع»، إذ لا يبشر آخر تصريح إعلامي للمجلس البلدي الحريري لمدينة بيروت بأنّ مصيرها سيكون بخير، رداً منه على الحملة التي تعرض لها مشروع تحويله الحديقة إلى موقف للسيارات. كان ذلك في الأسابيع الأخيرة قبل الانتخابات النيابية عام ٢٠٠٩، وكان المجلس البلدي قد صرح، بنبرة طفولية لا تخفي اشمئزازها، بأنّه (تحت الضغط) قرر إعادة النظر في المشروع مع تسجيله أنّ ذلك لن يحل مشكلة أهالي المنطقة في ركن سياراتهم.
تبقى هذه المبادرات بعيدة عن إرساء قواعد متينة لمواجهة حالة تستدعي حلولاً على قياس «قفزة نوعية إلى الأمام». وكما في غيرها من السيناريوهات التي تضع «مجتمعاً مدنياً» في وجه «النظام»، تبقى استراتيجيات هذه المبادرات مشروعة في حكم رأس المال والإعلام العميل لديه لأنّها بحكم تجزئتها للمطالب المدينية تساهم في إعطاء المشاكل المدينية التي تعم بيروت حجماً محدوداً، وبالتالي تحدّ من هولها على مستوى النقاش السياسي والمديني. تستثنى طبعاً الحملة التي حاربت مشروع سوليدير وجعلت من أولوياتها نقد المنطق التقسيمي لمشروع الشركة العقارية في وسط
المدينة.
أما باقي المبادرات، فهي بليغة في ما تحمله من صفة مجتزئة، وبالتالي من كونها مجزأة، إذ إنّنا أمام أفرادٍ متعددين ومنفصلين، من عدة مناطق اجتماعية، يقومون على قضايا متعددة بأوقات مختلفة. تقول هذه المبادرات شيئاً أساسياً عما يحصل في بيروت: هو أنّ القضايا المدينية، قضايا العيش المديني، قد محيت بالكامل من الأجندات السياسية كلها، ومن الخطاب السياسي عموماً. هذا الخطاب الذي يصل «الشاردة بالواردة» ليصبّها في خدمة «وقت» طائفي أبدي، في بناء هويات طائفية أبدية المطالب، تثقل «همومها» على جميع إدارات الدولة. لماذا الأمور كذلك؟ إذا كان مفهوماً أنّ أعضاء الطبقة السياسية والإعلاميين قد جرت الإحاطة بآرائهم عن طريق الترهيب أو المال أو عن طريق خلق اختصاصات مهنية ذيلية وفرضها كآفاق ضامنة للسلطة، يبقى غير مفهوم كيف أنّ بعض القواعد الحزبية التي توصف بالديناميكية أو بالاستقلالية النسبية، لا تعطي المسائل المدينية ما تعطيه غيرها من قضايا «التوعية».
يبقى الموضوع المديني المفضل عند الطبقة الحاكمة هو موضوع ازدحام السير على الطرقات. بين خطابات النواب الكسروانيين المنفعلة ومشاهد شاشات إذاعات التلفزة الكسروانية والمتنية ببرامجها الصباحية، أصبحت مناظر قوافل السيارات العالقة على مداخل العاصمة من الأيقونات الأسطورية الوطنية. لكن موضوع السير يبقى موضوعاً بدائياً، يمليه اختباره الآني الشديد العواطف، ويعزله، متناسياً ما يحيط به من ارتباطات موضوعية أكثر جدية. فهو قبل كلّ شيء الموضوع المنظم الأول لروزنامة الناس اليومية، في الشكل المحبذ من رأس المال وما يمليه نظامه القائم من تأطير لليد العاملة. تنظيم الناس لروزنامتهم اليومية، هو هذا الهم المختلق لترتيب الحياة الذي يحد من أفق الأفراد الحسابي ويستر عليهم حقيقة مستقبلهم العشوائية: أنّ مستقبلهم ليس بيدهم أو ليس هنا مكان مشروع تخطيطه. تخيّلوا أن يذكر موضوع إغفال بعض أرباب العمل تسجيل موظفيهم في الضمان بنبرة التذمر المسرحية ذاتها التي نصادفها يومياً عند السياسيين في موضوع السير و«عجقاته» وحوادثه. لموضوع السير طابعه التخديري، وهو ما يميزه عن باقي المواضيع المدينية في نظر الطبقة السياسية. تخيلوا أن يذكر موضوع ضجيج ورش العمار المنتشرة في كل أنحاء المدينة بنبرة الانفعال نفسها التي يرسمها موضوع السير على وجوه السياسيين «النقديين». باختصار لا تتذمر الطبقة الحاكمة إلا عند غياب المواطنين ـــ الموظفين عن معاملهم وعن إنتاجهم قيمة اقتصادية. طبعاً، هذا السلوك عند أعضاء الطبقة الحاكمة ليس دائماً بالواعي، فأعضاؤها بالسليقة أغبياء وفاقدون للكفاءة. لكن سلوكهم ليس محض صدفة ولا يفلت من بعض التحديدات الخاصة ببنية النظام السياسي.
هكذا ترتسم ملامح منظومة حسية وعاطفية، في العلاقة ما بين سكان بيروت وضواحيها (وهم نصف سكان لبنان) والمجموعات الممسكة بمفاصل الإنتاج الرمزي، تم من خلالها (أي المنظومة) تأطير أشكال العيش المديني وإحاطته عن طريق قمع أحاسيس الناس، أو تنفيسها، أو تحويرها إلى وجهات اجتماعية ذات فائدة في التعبئة السياسية. نرى هذا التحوير وهذا التنفيس في السياسة حيث يطغى خطاب التبجيل الطائفي و«الهوياتي». كذلك نراه في الساحات الفنية والأدبية، إذ ما زلنا نلحظ فورة في الأعمال الممجدة للمدينة، لعائلاتها و«بيوتاتها الكبيرة»، كما جاء في عنوان أحد الكتب الفرنكوفونية، أو لماضٍ مفترض الوردية عند أكثر الفنانين «تطرفاً» و«راديكالية» والذين لم يستهوهم الحاضر الرديء، فاختاروا أن ينتقدوه، أن يشهّروا به. وذلك التزاماً منهم بالأجندة الفنية الفارغة، الحريصة أكثر على إثبات «حضارة» الفنان والمتذوق وحبهما للجمال منها على نقد الواقع القبيح الذي قد ينجلي قبحاً وعنفاً على اللوحة أو العمل الفني. طبعاً، عند المجموعات الفنية التي تدّعي النقد، وتستثمر في البراعة النقدية «المفهومية»، مثل فنّاني «أشكال ألوان» الذين يمكن أن يُطلق على معظمهم صفة «عملاء عند رأس المال»، تضطرهم لعبتهم الفنية الى أخذ الواقع كما هو. يصوّب هؤلاء مجمل «جهازهم النقدي» على الضاحية الجنوبية تارةً، أو على شهداء الحزب الشيوعي، أو على غيرهما من مظاهر «فاشية» الشعب، كما جاء في كلام «الفنان ـــ المحاضر» طوني شكر الممعن في العنصرية الطبقية والجرأة في التهجم على الفقراء.
وتنقص الروائيات الفنية التي تتحدث عن قبح بيروت وبشاعة العيش في بيروت، حيث الأبراج الشاهقة تلف المدينة من جهة متنفسها على البحر وتلقي بظلالها على جموع المتنزّهين على كورنيش البحر، وهو من ساحاتها الترفيهية القليلة المفتوحة للجميع ـــ تنقص الروائيات عن قبح عائلات بيروت «العريقة». هذه الطفيليات الاجتماعية التي تخطف اسم المدينة لتشيد عليه وجاهتها، ومكانتها الانتخابية، وهي ليست في أغلبيتها سوى حلقات من المصفقين في البلاط الجديد في قريطم، ومن طالبي الرزق في النظام الاقتصادي الجديد الذي بات يتحكم فيه الرأس المال العربي. لكن هذه هي «البورجوازية الكولونيالية» دائمة الاستعداد للقيام بدور التابع.
هكذا يجري إسكات كلّ شيء أساسي يخص العيش المديني في بيروت، ويصبح فاقداً للشرعية الرمزية في الفنون والسياسة، حتى إخفاء معالمه. حالة من التنكر لم نقرب إلى أن نرصد نتائجها بعد على تكوّن شخصيات الأفراد البيروتيين، وهم نصف المواطنين اللبنانيين القاطنين بين نهر الكلب وخلدة وعاليه، ضمن دائرة ما انفكت الفورة العقارية في توسيع قطرها. بيروت، التي يرن اسمها على إيقاع أكثر من أغنية، هي قبل كل شيء ساحة ممارسة لأشكال متعددة من العنف، لا يمثّل العنف الميليشيوي إلا جزءاً بسيطاً منها، إن لم يكن ثانوياً وملحقاً. تضرب بيروت مثل اللعنة على من يقطنها ومن يمر بها. تصيبه ولا يدري بها. وهي ساحة صناعة للقهر. وللقهر فيها مركز، بعكس ما يذهب إليه نمطٌ خطابي شائع يقول بتساوي المسؤوليات بين الأحزاب السياسية كلها، ليصبح إدانة «للسياسة»، بالمعنى المبهم، ويقع في تعطيل كلّ عمل سياسي معترض، إذ إنّ الاعتراض على الأمر الواقع هو الذي يحتاج إلى تعبئة وبالتالي إلى تأييد.
وتعطيل السياسة يقع في خدمة القوى المهيمنة في بيروت، المستندة إلى الأمر الواقع. هنالك، خلف ضبابية شعارات التعبئة السياسية الحالية، وخلف مصلحتها التنفيسية لأحاسيس الناس، مقياس للمسؤوليات السياسية عما يحصل في بيروت الآن ومنذ عقود. قد يكون الكثيرون في منطق هذا المقياس مسؤولين عما يحصل، لكنّه يسمح في تحديد نوع من القراءة السببية الواضحة، فيها من هو مسؤول لا شك أكثر من غيره، أو قبل غيره.

التظاهرة المصادرة

بدا وسط مدينة بيروت في السنوات الأخيرة، وهو المتميز باحتوائه أوسع ساحات المدينة، وكأنّه موضوع وسبب تجاذبات عديدة محورها «هويته»، أو حتى «ملكيته» بالمعنى المعنوي. بين «ساحة الحرية» و«ساحة الاعتصام»، برزت في السنين الخمس الماضية أدبيات جديدة حول شاعرية المكان، معانيه، أو حول أهميته من وجهة نظر عسكرية. وكان اعتصام المعارضة قد اعتبر محطة هجوم نحو إحياء بيروت لمجموعات «غريبة» عن المدينة وقورن بالمستوطنات الإسرائيلية. مع أنّ اعتصام المعارضة لم يزح عن كونه نكتة في الاعتراض، وهو الذي لم يتخطَّ الحدود الجنوبية لساحة الشهداء القديمة، فلم يغطّ كامل المساحة التي غطّتها تظاهرة «14 آذار» من قبله، «أمّ التظاهرات»، احتراماً منه لضريح «الرئيس الشهيد».
أما مخيم «14 آذار»، فكان عملية توظيف واستغلال ممتازة للشباب المعتصم. نتذكر يوم رفع الخيم، الذي حصل أمام أعين الشباب الباكية، وكان بعضهم لا يزال مثابراً على «إكمال» ما بدأه في المخيم، والمواظبة في «تجربته». فرأوا في تلبية زملائهم أوامر أحزابهم (المستقبل والاشتراكي) نوعاً من الخيانة لما جرى «بناؤه» في هذه التجربة التعبوية خلال الأشهر الماضية. أحزاب المعارضة اللاحقة من جهتها، فهمت الدرس، فاختصرت تغطيتها الإعلامية لمخيم الاعتصام ولتمجيده. فتحوّل مخيمها سريعاً، بعد مرحلة أسابيع قصيرة (من أصل أكثر من سنة اعتصاماً) من العرس والاحتفال، إلى محط واجب «روتيني» لقلة من الملتزمين الحزبيين. كان من الضروري، من جهتي النزاع، أن لا تبرز تجربة فريدة من رحم تأطيرهم للجمهور، تخطف الأضواء عن أجندتهم البدائية. هكذا مثلاً، سيسجل التاريخ على تلفزيون «المنار» أنّ جموع اللبنانيين نزلوا إلى الشارع في كانون الأول ٢٠٠٦ فقط لاستيائهم من السنيورة في الحكومة، فكان استبداله بسعد الحريري من «انتصارات» أحداث «7 أيار» والدوحة وما حققته حكومة «الوحدة الوطنية» بعد الانتخابات. كما سجل «التاريخ»، في إعلام «المستقبل» وملحقاته، أنّ مئات الآلاف من اللبنانيين ملأوا الساحة في 14 آذار 2005 حباً بالشهيد الحريري.
على كلٍ، كانت تجربة مخيمات الاعتصام نموذجية، وهي ترقى إلى حالة مدرسية، لاستغلال الطبقة السياسية بشبه أغلبية أعضائها، لجمهور لم يشاركها ترتيبها لأمور السياسة، على أقل تقدير، إن سلمنا أنّه يشاركها غايات شعاراتها. تجربة نموذجية إذاً لهذا اللعب على الأحاسيس، على ميزان العواطف عند الناس، لاستخدامها في عمليات التعبئة، مثل الانتخابات، مسممةً في الوقت نفسه العيش المديني «بتفاهة شعاراتية» يجيد أعضاء الطبقة الحاكمة لعبتها، غايتها تقسيم الناس وقلبهم بعضهم على بعض ضمن شروط استمرار النظام. لم يتساءل أعضاء الطبقة السياسية ماذا أصبح وضع الناس، بعد الوعود الكاذبة، وأوهام عملية التظاهر، في حياتهم اليومية، في محاججتهم جمهور الطرف الآخر، من جيرانهم في المبنى، إلى زملائهم في المكتب، الخ.
هكذا كانت تجربة الاعتصامات والتظاهرات من حولها، في لحظات اختبارها، قد أنست الناس وبعض سذّج الطبقة السياسية، أنّ المنحى العام للتظاهرات، منذ الحرب الأهلية، والمتفق مع شروط تكونه واستمراره، قد ذهب في وجهة أخرى.
المنحى العام كان ولا يزال، كما سيكتشفه الناس مع انتهاء كل عملية تعبئة موسمية، يصبّ نحو منع التظاهر، أو إفراغه من معانيه الاعتراضية على المستوى الفردي والنقدي. وقد نمت وازدهرت منذ الحرب الأهلية أدبيات بأشكال متعددة «تجوهر» أحياء المدينة وضواحيها وتصورها كمناطق مقدسة تأبى أن يدخلها غريب. من أدبيات «المثقفين» عن شارع الحمرا، إلى أدبيات الكراريس الطائفية مثل خطب محمد سلام عن حرمة مناطق «أهل السنة»، إلى وقفة عز الفتى سامي الجميّل دفاعاً عن العيش «المسيحي» في مونو، إلى «الضاحية الأبية»، تطغى في مواقع تصوير بيروت العديدة، الأنماط الفكرية «المتمسكة» بصورة للشيء، أكان حيّاً أم مكاناً، أو المجمدة له. وبينما قد تتعدد أصول اختبارات المدينة وأشكالها وراء هذه الآراء، قد تجوز الملاحظة أنّها تشترك في ما بينها بالتعبير عن شعور عام بأنّ المدينة تفلت من أيدي «أصحابها»، أصحاب هذه المواقف، أو أنّها مهددة بالإفلات، مقارنة بمواقع أخرى من المدينة (أو من الزمن) سبق أن أفلتت. فاقتدى الوقوف عندها، كما نرى في العديد من الأعمال الفنية المعاصرة في لبنان، أي الوقوف بمعنى «التوقف» (لا يستثنى هذا النص من هذا المنطق)، وهي فكرة نجدها مثلاً عند الرسام أيمن البعلبكي في تصويره ما تحتمله الأبنية من دمار، في تجربة شخصية للفنان اختبرت الهجرة والتنقل القسري، فنادت للتوقف. ذلك بـأسلوب فني تعبيري، و«التعبيرية» من قلة الأنواع الفنية التي اجتازت الزمن، لا تحتمل تأويلاتها الكثير من التزييف أو التحريف، إلا إذا كان المعنى المحرّف مقصوداً ومعلناً عند الفنان. ما يميز هذا النوع عن «الثورية الزائفة» لبعض مناحي تغليب الشكل على المضمون، على حساب نوعية الشكل أيضاً، في ابتذال استعمال الشكل «كمفهوم»، كما نرى عند فنانين لبنانيين آخرين، حيث التوقف موجود، وإن كان تعبيراً عن اختبار صادق للمدينة، كان أيضاً تعبيراً إما عن تلقف بدائي لما هي الموضة الفنية أو، وهنا الخطورة، تعبيراً عن التزام من الفنان والمثقف لأصول الحياء (والتعبئة) التي يمليها «الرأس المال الفني» (مؤسسات التمويل والتسويق)، تجيز له التوقف عند صورة دون الدخول في تفاصيل موقع الصورة الاجتماعي. التزام بحياء فني قد يكون في أغلب الأحيان عفوياً وغير واع. وهو ما ينجلي مثلاً في «محاضرة غير أكاديمية» لربيع مروة بعنوان «سكان الصور». يحلل الفنان ويعرض ملصقات سياسية لتيار المستقبل ولحزب الله وأمل والحزب السوري القومي، فيما يمكن أن نعرفه بـ«سيميوتيك الحمص»، فتذهب تحليلاته (صدفة؟) بمجاراة التقسيمات الرمزية العادية للنزاع السياسي الدائر في البلاد. يوازي (نكتفي بأبسط التحليل) صورة للحريري الأب في حديقته ـــ «الشهيد» ـــ بصور لشهداء الأحزاب المتنوعة في مراحل مختلفة من تاريخ لبنان. بالرغم من (اقرأها «بفضل») الأسلوب الحر أو المتحرر من قيود التبرير، ومن اللكنة العامية في محاولة ادّعاء التجرد. هذا مثلاً نموذج من نسق من المحاضرات غليظ ومحكوم بالتذاكي، إذ إنّه غير أكاديمي وليس مبنياً على معرفة مفصلة، وقد كثرت «ممارساته» في المهرجانات الفنية المعاصرة في بيروت. كما كثرت استعارة هذه المهرجانات لعناوين طنانة من لغات العلوم الإنسانية والمتحدثة بـ«الممارسات الثقافية». هذا ينطوي على منحى جدي عند مؤسسات تمويل المشاريع الفنية للإحاطة بالخطاب الاجتماعي للفن، ومعنى الخطاب تحديداً، وطبعه بأفكار معينة.
لكن الحديث عن «الساحة» الفنية يطول، بما يخرج عن موضوعنا. فهذه «الساحة» فيها «فن» وفيها أشياءٌ أخرى. ولا نبالغ بالاعتبار أنّ الفنانين والمثقفين يصبحون عملاء رخيصين عند رأس المال، عندما نراهم يدينون، بشراسة الهررة، ومن على منابر «غنجهم» وتمويلهم، التظاهرات الشعبية، كائنة ما كانت. وكأنّهم يقولون إنّ توقفهم وحده عند معاني المدينة «شرعي». مع أنّ التظاهرة هي لحظة التوقف الممتازة، الأكثر «ديموقراطية» والأشمل شرعية. لحظة توقف وقت اللعبة السياسية، ولحظة توقف السير اليومي للحياة المدينية، حيث الإنسان المتظاهر أو المتفرج يعيد النظر في محيطه وقد يجدد «استملاكه» لهذا المحيط، كما تذهب إليه بشيء من الواقعية بعض الرومانسية، وهي (أي التظاهرة) ممنوعة ومحاربة لدى النظام.
هكذا، واحتراماً منها للمنطق الطائفي ولأدبيات تجميد هويات الأحياء البيروتية، ذهبت الأحزاب السياسية الشرعية والمتعاونة مع النظام الحريري في تحديد مسالك تظاهراتها ضمن الجادات الواسعة التي يندر على أطرافها وجود المباني السكنية والمحال التجارية. دون أن نذكر دور النظام وعملائه في تعطيل مراكز صناعة التظاهرات، أي الاتحادات العمالية. وحدهم الحزب الشيوعي والنقابات ثابروا في تنظيم تظاهراتهم على البربير، مروراً بأحياء البسطة والباشورة، فيما كان حزب الله وحركة أمل يكتفيان بجادة بشارة الخوري وساحة حبيب أبي شهلا ـــ الأونيسكو، عند «دخولهم» بيروت كما صوّرهم الإعلام الحريري وكما تصوّروا أنفسهم في عقلهم المؤدب، أي كدخلاء على المدينة. رغم ذلك، رغم انزواء حزب الله في الضاحية واحترامه لتفريغ بيروت من محتوياتها السياسية، ظلّ موضوع إزعاج بسبب «حمله أعلامه وشاراته الحزبية في تظاهراته ومهرجاناته في شوارع بيروت، التي تنقل مشاهدها شاشات التلفزة العالمية، ما ينقل صورة عن لبنان لا تخدم توجهات البناء والإنماء وإعادة الإعمار وجذب الاستثمارات والسيّاح، ما دامت بيروت لا الجنوب وحده، ميدان هذه التظاهرات والمهرجانات»، على ما يقول نهاد المشنوق في مقابلة («النهار» في ١٣ شباط ٢٠٠٧).
لم يطب لـ«الرئيس الشهيد» أن يتظاهر أحد في «مدينته»، أي منطقة بيروت الإدارية التي أعطته إياها الشام. فهو لم ينظّم حركة شعبية قط، وأعلن حال الطوارئ وأنزل الجيش إلى الشارع رداً على تظاهرات الاتحاد العمالي العام. وأطلق النار على المتظاهرين في الضاحية عام 1993، ثم عام 2004 ضمن توجه إداري طائفي وعنصري اقتضى تسليم الجيش أمن تظاهرات الضاحية، والشرطة أمن تظاهرات «العمالي» في باقي المناطق. كما أنّ مجمل سياسته التنظيمية للإعمار المديني اقتضت تذويب ساحات التجمع الجماهيري، عبر تحويله ساحة الشهداء، التي كانت ساحة التقاء قوافل النقل إلى مناطق الأطراف، إلى ساحة بساتين تلفّها الأبنية السكنية البورجوازية ذات الواجهات المغلقة. وكذلك عبر تذويبه ساحة رياض الصلح عن طريق بناء برجٍ ومركزٍ تجاري على بعد أمتار قليلة من وسط الساحة، أي من تمثال رياض الصلح (هكذا يشير ما نشر من تخطيط للساحتين).
يجب عدم فهم سياسة الحريري فقط من منطلق «الممنوعات» التي كان يمارسها الرئيس الشهيد، رغم أهمية تلك ودلالتها، من حيث إنّها تفضح بعض خصائص «المقاول الآتي من السعودية» عند الحاكم في دمشق. فرغم ذلك، لم يستوِ حكم الحريري إلا على سكك ديناميكيات المجتمع من تحته، وامتيازاته عند القيادة السورية لم تكن سوى بطاقة سفر، تسهل له المناورة وتسرعها، بين الاستحقاق والآخر. على هذا، قد يكون التحليل الاجتماعي من وجهة نظر الاجتماع المديني مفيداً، في ما يخص الحكم الحريري، لما يبرزه من خصائص لسلطة لم تحتج إلى تطوير تيار جماهيري على عكس منافساتها وزميلاتها على الساحة السياسية. إنّه لشيء لافت أنّ الحريري لم يدعُ إلى تظاهرات شعبية باسمه قط. ولو فسر هذا بموقعه المدلل في نظام الجمهورية الثانية، الذي لم يضطره إلى تعبئة الناس في الشارع لإبراز حجمه أو للاعتراض على وقت نظامٍ سياسي كان يدور بشكل كبير في فلكه. يبقى الواقع الذي يقول بتميز حكم الحريري في ما أنتجه من عنف ومن تحولات، بالأقل على شكل المدينة نفسها حيث يجد جمهوره، لم يتسنّ لسابقيه أن ينجزوها، وبهذه الحدّة والقساوة. ما لا شك فيه أنّ قمعه لتظاهرات الغير، واكبه بحملة تشويه لفعل التظاهر، عند من أرادهم جمهوره. نرى هذا القرف من التظاهر، المصحوب بثقة مستفيضة بالحركة الاجتماعية الموجودة، في دعوة السنيورة «جمهور رفيق الحريري» إلى تسجيل موقف على شرفات المباني عبر تعليق الأعلام اللبنانية، وصولاً إلى دعوته في 8 أيار 2008 إلى التظاهر... على الشرفات نفسها. هذه الثقة الوهمية بالحركة الاجتماعية المحافظة والمؤدبة عند الناس، قد يكون الجواب عليها في تفاصيل توسع بعض صفات النموذج البلاطي الحريري في مجتمع بيروت البورجوازي وفي بعض البورجوازية الصغيرة وغيره من نماذج «أساليب العيش» المدينية المجارية (يبقى «مجتمع البلاط الممتاز» بكامل صفاته ضمن حلقة اجتماعية ضيقة تتحرك بين قريطم و«بيت الوسط»).
على كلٍ، وبالتوازي مع نظام قمع التظاهرات الوقح والمفضوح، إن لم نقل المسرحي، وحملة تشويه التظاهر العقائدية المكملة له، واللذين ارتبطا بسياسة رفيق الحريري مباشرةً، تبقى هناك نوعية أخيرة من قمع التظاهر مارسها باقي أركان النظام، برضى حريري طبعاً، وهي فئة القمع البوليسي. هذه كانت تخصص للمجموعات الممنوعة من التغطية الإعلامية، مثل الطلاب العونيين وغيرهم من المجموعات الطلابية. وكان القصد منها زرع الخوف عند الأشخاص، وزرع نزعة قمعية للذات، عبر تلقينهم بممارسات بوليسية متعددة فكرة عزلتهم، عزلتهم في الشارع، وعزلت قضيتهم.
ذلك كان يتم طبعاً عبر إسكات الصحافة، وعبر استنفار أمني يفوق بعدده عدد المتظاهرين، وعبر زرع عناصر استخبارية بين المتظاهرين، كانوا إما يثيرون الشغب ويحرفون التظاهرات والاعتصامات عن مسيرتها، أو ينقلبون على المتظاهرين اعتقالاً وضرباً، كما حصل في 7 آب 2001 أمام القصر العدلي وفي ظل تعليق لا سابق له لصور إميل لحود على أسوار القصر والجدران المجاورة في المنطقة. هذا عندما لم يأخذ الاستنفار الاستخباري شكل تظاهرة مضادة للتظاهرة المعلنة، كانت رسالتها العدائية أكثر بلاغة، في بلد عملت الطبقة السياسية نفسها فيه على تقزيم فعل التظاهر، فكيف بصدفة تظاهرة عفوية مضادة، وبالتوقيت نفسه! هي ممارسات غبية من باقي أركان السلطة، وأخصّهم «مسيحيي النظام»، أي آل المر ولحود، في محاولة منهم لاحتواء الطلاب دون خسارة الناخبين المتنيين، ما سيجعل هذه الممارسات دعاية «14 آذار»، وانطلاقاً من مثقفين كانوا قريبين من الطلاب، مصوّرة إيّاها فعلاً قمعاً «عسكريتارياً» (على وزن «توتاليتاري») و«شمولياً»، مع أنّ أحداث شباط وآذار 2005 وتجاوب الناس مع الدعوة إلى التظاهر ستثبت محدودية نظرية القمع هذه.
لم تنفع أساليب القمع المعتمدة من إدارة الجمهورية الثانية في إرساء سلوك مؤدب مزمن عند معظم الناس تجاه فعل التظاهر، وهو أصلاً فعل يحوي بعداً تحررياً، مثله مثل جو الأزمة الذي يدعو إليه، هو فعل «يفكك» بعض سلوكيات الناس ويخرجها عن الأنماط السلوكية العادية.
اختفت أساليب ما سمّي «النظام الأمني» عن بيروت، كفصل هامشي لهامش من السياسة في لبنان في ظل الإدارة العنجرية، التقسيمية والتقزيمية لقضايا الناس، وبالتالي التقزيمية لأدوات القمع. أما تظاهرات «الجوع» العفوية في أحياء «الضاحية»، فلا تزال مستمرة، وما برح الجيش يطلق عليها نيرانه تحت صيحات عملاء النظام الداعية للعودة إلى النظام.
هذا في موضوع التظاهر والمدينة، ما تلقي الضوء عليه أحداث الأعوام الخمسة الماضية، والتي شهدت تعبئة شعبية لا مثيل لها في تاريخ البلاد. إلا أنّ المرحلة الأخيرة، وبفعل منطق الأزمة الذي يفرض تبسيطاً ورسماً حاداً للخنادق السياسية ويوزع المواقف المتنوعة الأصول على ضفتين فقط، شكلت منصة لتجدد النظريات التسطيحية للمجتمع اللبناني والبيروتي، ولأحياء المدينة. وذلك على وزن ما أعدّته أدبيات الميليشيات في الحرب الأهلية، أي على وزن عدائي، يضفي صفة العدائية على كل شيء ينظر له كمقابل.
هذا في رمزية التظاهر. أما اختبار حادثة التظاهرة ومعالمها، أي ما اختبره مئات الآلاف من البشر بالاحتكاك الشخصي والجسدي ولا تسع كاميرات التلفزيونات الطائفية كلّها أن تنقله وتحرفه، فيبقى ملك الذاكرة الشخصية، بانتظار أن تعيد إيقاظه مناسبة اجتماعية جديدة تفلت من إحاطة أجهزة النظام الأيديولوجية. فساحة اعتصام المعارضة شهدت مع رفع الخيم بداية تشييد أبنية فخمة، انتظرت عشرة أعوام موعد الانطلاق ببنائها، لتكون حجر دفن لموقع أكبر اعتصام إدانة للحريرية. أما «ساحة الحرية» التي شهدت تظاهرة «14 آذار»، فقد جرى تخليد ذكراها في لوحات صورية تزين جدران مواقع المتحمسين من «الوصوليين الجدد» والباحثين عن شرعية رمزية تفتح لهم باب المعشر البورجوازي. كما جرى تخليد ذكراها في كتاب فخم أصدرته «دار النهار»، يحتوي، بين ما يحتويه، على دليل صوري «للثوريين الجدد»، من إعلاميين وإعلانيين وسياسيين، حرّاس العقيدة اليمينية المتجددة، المتربعة على السلب، والمفتتحة لعهدها بسلب «التظاهرة»، على خطى أبيها الروحي والمادي، سالب وسط المدينة.
* باحث لبناني