لا يبدو أنّ شيئاً تغيّر في علاقات «المراكز» الرأسمالية بـ«الأطراف» المهيمَن عليها، عدا استبدال الدعوات للحاق بـ«ركب الأمم المتحضرة» بدعوات لإدراك «ركب الأمم الديموقراطية». هذا يجعلنا نحنّ إلى زمن ولّى، لم تكن فيها الإمبريالية الأورو ـــ أميركية تخفي يدها الحديدية في قفّاز من حرير ديموقراطي.
أحد آخر تجلّيات النفاق الديموقراطي كان مناشدة فرنسا وأميركا (والأمم المتحدة، في ما يشبه «تذنباً» صريحاً لهما) الرئيسَ الإيفواري المنتهية ولايته، لوران غباغبو، احترامَ «حكم صناديق الاقتراع»، أي الاعترافَ بهزيمته أمام الحسن واتارا، منافسه في انتخابات 28 تشرين الثاني/ نوفمبر 2010. لم يشرح لنا ساركوزي وأوباما، والناطقُ باسم مصالحهما بان كي مون، لماذا حكمُ «اللجنة الانتخابية المستقلة» بانتصار واتارا أكثرُ صدقيةً في نظرهم من حكم المجلس الدستوري بانتصار غريمه. ولم يشرحوا لنا كيف علموا علمَ اليقين اسمَ الفائز في بلد لم يعرف الملاحظون الدوليون فيه سبيلاً لمراقبة الاقتراع في كثير من المناطق.
لم يقل لنا بان كي مون لماذا لم يتجنَّد لإرجاع الرئيس الهندوري المنتخب ديموقراطياً، مانويل زيلايا، إلى منصبه بعدما أطاحه الجيشُ في حزيران/ يونيو 2009، فيما اعترف «المجتمع الدولي» كلّه بأنّه انقلابٌ (بما في ذلك أميركا على لسان سفيرها في الهندوراس، حسب آخر أنباء ويكيليكس). ولم يفسّر لنا لماذا، من بين كل الانتخابات المزورة في كوكبنا الجميل، لا يهتم بغير تلك التي يهتم بها أوباما وساركوزي وغيرُهما من أقطاب الاستعمار الجديد (الانتخابات الإيرانية مثالاً). ماذا عن تحوُّل مجلس الشعب المصري بين عشيّة وضحاها إلى مجلس للحزب الحاكم وكأنّ المصريين مبتَلُون بتعذيب أنفسهم، يصوّتون للمسؤولين عن مآسيهم، ويطردون من ساحة العمل النيابي القلة القليلة التي كانت تذكّر النظام بوجودهم؟
أمر ساركوزي غباغبو بالرحيل، لكنّنا لم نسمعه ينتقد أصدقاءَ فرنسا في تونس المحروسة وجزائر العائلة البوتفليقية وليبيا المهووسة بحكم الشعب المزعوم، فضلاً عن دعوتهم إلى الاستقالة. كلُّ ما سمعناه منه كان إشادة بـ«التجربة التونسية الرائدة» (وها هو شباب تونس يفضل إضرامَ النار في نفسه على الموت كمداً) وتهنئةُ عبد العزيز بوتفليقة «بانتخابه» مجدداً في 2009 (وها هي الجزائر تحيّي نجاحات رئيسها بالتظاهرات العارمة) وتطبيعٌ للعلاقات الفرنسية ـــ الليبية (وها هي ليبيا تبرهن على إصلاحاتها باعتقالات جديدة في أوساط المعارضين الأمازيغ). ثم ألم يتعلّم الرئيسُ الفرنسي أنّ للأمم المستضعفة حساسيةً بالغة من أوامر المستعمرين الجدد؟ ألا يعلم أنّه كلّما أمر ديكتاتورييها بالتنحي عن السلطة، زاد التفافها حولهم وأطال عمرهم جاثمين على صدورها؟
وفي تلميح إلى أنّ غباغبو سيكون مصيرُه المتابعةَ القضائية وبئس المصير إن لم يعترف بواتارا رئيساً، اقترح عليه أوباما اللجوء السياسي في أميركا ووعده بمنصب يتناسب ومؤهلاته العلمية كأستاذ تاريخ. لكن أحداً لم يسمع الرئيس الأميركي يعدُ بمنصب مدرّس للإنكليزية صديقَه حميد قرضاي، الذي زوّر انتخابات 2009 بصورة فاضحة. ولا تفسير لذلك سوى أنّ واتارا سيكون خادم القوى العظمى المطيع، ما ليس بالضرورة حال منافسي الرئيس الأفغاني «المعيّن ديموقراطياً» من طرف البيت الأبيض. ألم يكن واتارا نائبَ رئيس صندوق النقد الدولي وأحدَ المسؤولين عن إفقار القارة الأفريقية بحكم تولّيه، قبل هذا المنصب، مهام رئيس «فرع أفريقيا» في هذه المؤسسة المعروفة بحسها الإنساني المرهف؟
هدّدت المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (CEDEAO) بالتدخل عسكرياً في ساحل العاج، وباركت تهديدَها فرنسا. تم تبرير ذلك بضرورة إضفاء شرعية إقليمية على خطط «المجتمع الدولي» لإطاحة غباغبو وإن كنا نعرف أنّ دافعَ هذه المباركة الحقيقي هو حقنُ دماء الجنود الفرنسيين ممن لا يستأهلون الموتَ لإنقاذ شعوب «لم تدخل التاريخ بعدُ» على رأي ساركوزي في رائعته المسماة «خطاب داكار» (26 يوليو 2007). ويتبدّى النفاق الديموقراطي الأورو ـــ أميركي في أوضح صوره حين نعرف أنّ كثيراً من دول هذه المنظمة يحكمها انقلابيون ومزورون.
هل سالو جيبو، زعيمُ الطغمة الحاكمة في النيجر منذ شباط/ فبراير 2010، منتخبٌ ديموقراطياً؟ ما شرعيةُ رئيس بوركينا فاسو، بليز كامباوري، لتقديم دروس في الديموقراطية لغباغبو، هو الذي استولى على الحكم في 1987 بعد اغتيال سلفه توماس سانكارا؟ وهل للرئيس التوغولي، فور غناسينغبي، أدنى صدقية للدفاع عن مهضوم الحقوق واتارا، هو الذي هضم حقوقَ منافسه إيمانويل بوب أكيتاني في 2005 ليرثَ عرشَ أبيه (أياديما غناسينغبي) على جثث 500 قتيل (ما لم يمنع فرنسا حينها من القول إنّ هذا الاقتراعَ جرى في «ظروف مقبولة»)؟
لن يقضي بقاءُ غباغبو وعصابته القومجية في السلطة على الأمل الديموقراطي في القارة الأفريقية أكثر مما قضت عليه الانتخابات البوركينابية والتوغولية الملفّقة. ولن يعود استبدالُ غباغبو بواتارا وثلته الكومبرادورية بفائدة على هذا البلد الذي مزقته الحرب الأهلية. لن يعود عليه بفائدة لأنّ «ديموقراطيةَ الحراب» بدايتُها تدخّل عسكري ونهايتها تمزق طائفي أو عرقي أو إثني، يغذيه الأقوياء بما يخدم مصالحهم ثم يُحمّلُون مسؤوليتَه لشعوب مغلوبة «لم تدخل التاريخ بعدُ».
* صحافي جزائري