قرأت باهتمام مقالة الباحث الفلسطيني الأستاذ سليم نزال تحت عنوان «الاضطهاد العربي المزمن، الإمبراطور الروماني فيليب نموذجاً» («الأخبار»، عدد 1308، 6/1/2011). ومع الإقرار بأنّ العنوان لم يعبّر عن مضمون المقالة بل ظلَمَه، إلا أنّها تثلج القلب في أمرين: هي تصيب كبد الحقيقة في أنّ تاريخ العرب قبل الإسلام، أهمله الباحثون الغربيون، وبعضهم من موقف متعصب إن لم نقل موقفاً عنصرياً، وأهمله العرب بلادةً وخمولاً واتّباعاً لأساتذة مستشرقين. أما الأمر الثاني الذي يُشكر على ذكره الأستاذ نزال، فهو استفاضته في الحديث عن فيليبوس العربي (هو من شُهبا، في جنوب غرب سورية بمنطقة حوران، إيدومي المولد، سنة 204)، إمبراطور روما المتسامح (244 ـــــ 249 م)، الذي أوقف اضطهاد المسيحية الأولى، فلهذا الأمر مغزى كبير، لا سيما اليوم إزاء ما يشيّع في الغرب من أنّ المسيحية ضحية للعروبة والإسلام، مع أنّ اضطهاد المسيحية في الأصل والتاريخ، منشأه الغرب.لكنّني آخذ بمحبة واحترام على الأستاذ نزال، أنّه عمّم كثيراً في قوله: «أما العرب الذين كتبوا عن هذه الفترة في مراحل لاحقة، فإنّهم كانوا إما قليلي الاطلاع على المراحل الماضية، أو غير مهتمين بها من الأصل». فقد يُشيع هذا القول اعتقاداً أنّ موسوعة الدكتور جواد علي: «المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام»، وهي في 10 مجلدات ضخمة وقيّمة، لا وجود لها.
وقد يتخيل القارئ أنّ سلسلة الدكتور عرفان شهيد (قعوار) التي لم تكتمل بعد (صدر سابعها قبل أشهر، وسيصدر كتابان ختاميان قريباً) لا يحظيان باعتراف الأستاذ نزال. ويقيني أنّه طالع هذين السفرين النفيسين، لكنّه نسي ذكرهما، ولو تذكرهما لبدّل تصريحه هذا.
ولقد كان لي، على تواضع جهدي في هذا المجال، عند مقارنته بأستاذينا المذكورين، إسهام في لفت النظر إلى قيمة التاريخ العربي قبل الإسلام، في عدد من الكتب، منها أطروحة الدكتوراه «إيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف» (1992)، وكتاب «سوق عكاظ» (2010)، وكتب أخرى. ففي الصفحة 67 من «إيلاف قريش»، جاء تحت عنوان «عصر تدمر ـــــ الصعود إلى القمة»، ما يأتي:
«كان القرن الثالث عصر العرب في الإمبراطورية الرومانية، ويصف عرفان شهيد مطوّلاً في كتابه «روما والعرب»، [الصادر عن «دمبرتون أوكس» الأميركية]، مظاهر الحيوية العربية في هذا القرن، ابتداءً باستيلاء أسرة ساويروس السورية نصف العربية على العرش الإمبراطوري في أواخر القرن الثاني، وسيطرة الأمهات العربيات على أبنائهن الأباطرة، ثم صعود فيليبوس العربي إلى سدة الإمبراطورية (244 ـــــ 249 م)، وأخيراً تعاظم قوة تدمر في الربع الثالث من هذا القرن، حتى تحدث رنيه جروسيه عن «وضع العرب يدهم على جزء من الشرق الهليني»، خلال الحرب التدمرية الرومانية».
ثم جاء في الصفحة 70 من كتابي هذا: «ويمكن الاشتباه في أنّ مظاهر الحيوية العربية في القرن الثالث داخل الإمبراطورية الرومانية، لم تكن مظاهر منفصلة بعضها عن بعض. ذلك أنّ علاقة أسرة ساويروس، التي استولت على العرش الإمبراطوري منذ سنة 193 للميلاد، بمدينة حمص، التي كانت تتحكم بالمنفذ الوحيد لطريق تدمر المباشرة إلى البحر الأبيض المتوسط، واهتمام هذه الأسرة الحاكمة بتحسين مكانة الوحدات العربية في داخل الجيش الإمبراطوري، مثل الرماة والهجّانة، وكذلك اهتمام فيليبوس العربي بالمقاتلين البدو، قد لا تترك مجالاً لافتراض الصدفة وحدها في تعاظم الحيوية العربية. ففي سنة 208م، أي في عصر سبتيموس ساويروس بالذات، ظهرت الوحدات الرومانية بقوة في نظام الحاميات الرومانية عند نهر الفرات».
وأما عن تدمر وزنوبيا، فجاء في الصفحة 80 و81:
«وقد أخفق فلاوم [Pflaum, H.G] في فهم جذور النزاع حين قال: «إنّ سنوات السيطرة التدمرية لم تشهد مواصلة أعمال التحصين في المقاطعة العربية، وهي أعمال لم تُستأنَف إلا في عهدي أورليانوس وبروبوس، الإمبراطورين الممتازين اللذين اهتمّا لحماية سكان المدن من هجمات الأعداء». فلم يقل مَن هم سكان المدن، ومَن هم الأعداء، ولو دقق في هذين الأمرين لتبين له أنّ زنوبيا لم تكن تسعى إلى مشروع سياسي يجعل حصوناً عند المقاطعة العربية، لأنّ جانبي هذه الحدود كان يسكنهما العرب. ولم تكن تلك هي الرؤيا السياسية الرومانية بالطبع».
وعلى الرغم من أنّ اتصال زنوبيا بالفرس طلباً للمساعدة قد يوحي أن اعتمادها على العرب يُمكن أن يؤخذ في سياق الاستعانة بمن أمكن، إلا أنّ شبه الإجماع العربي على إسنادها لا يكاد يترك شكاً في أن مشروعها السياسي كان يرمي إلى إنشاء دولة عربية مستقلّة.
بل إنّ كتابي «إيلاف قريش» كلّه عبارة عن شرح واف للعبقرية السياسية والاقتصادية التي اتسم بها قادة قبيلة قريش، في إدارتهم خط التجارة الدولية بين المحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسط، في خضم حروب لم تكد تنقطع بين دولتي ذلك الزمان الكبريين بيزنطة والساسانيين، بين سنتي 502 و636. وقد تمكنت قريش، حين جمعت قبائل العرب على مشروع قوافلها التجارية، أن تطوّر نظام توحيد اقتصادي وديني واجتماعي وسياسي وعسكري، نما في السنوات المئة التي سبقت الإسلام.
وقد بيّن الكتاب كيف أنّ الغساسنة غزوا خيبر سنة 567م، ثم نصروا الأوس والخزرج على يهود يثرب، في محاولة بيزنطية واضحة لمد نفوذ البيزنطيين صوب مكة. ثم حاول أبرهة الحبشي بعد ثلاث سنوات (سنة 570م)، أن يُكمل المشروع البيزنطي من الجنوب، ليسيطر أنصار بيزنطة من الشمال والجنوب، على خط التجارة القرشي الدولي، فانهزم جيشه على أعتاب الكعبة، وانتصرت قريش. لكن الساسانيين جربوا حظهم بعد 15 سنة في حروب الفِجار، التي حدثت في سوق عُكاظ، فهُزموا أيضاً وانتصرت قريش، ثم أتم العرب انتصارهم هذا في ذي قار، سنة 506م.
العرب والمسيحيّة الأولى
أما عن علاقة فيليبوس بالتسامح وحمايته المسيحية الأولى، فقد جاء الكثير عن البيئة العربية وحمايتها المسيحية الأولى في كتابين أصدرتهما، «من يحمي المسيحيين العرب؟» (1981) و«العرب وتاريخ المسألة المسيحية» (1986). في كتابي الأخير هذا، أفصحت بصراحة عن اعتقادي بأنّ البيئة التي حضنت المسيحية الأولى كانت عربية، فالسواد الأعظم من سكان فلسطين في عهد السيد المسيح كانوا إيدوميين ويطوريين، وهؤلاء عرب، وكان موطن الأولين عند ضفتي الأردن، وحتى حوران. أما اليطوريون فسكنوا فلسطين من وسطها شمالاً، ولبنان حتى نواحي بعلبك، وكانت مواطنهم تضم الناصرة، بلدة السيد المسيح. وحتى حاكم اليهودية هيرودوس كان إيدومياً عربياً متهوّداً. وذكر المؤرخ سترابو أنّ العرب سكنوا الأجزاء الغربية من فلسطين قروناً قبل الميلاد. وكانت البادية شرق الأردن، التي لجأ إليها المسيحيون الأوائل في عصر الاضطهاد الأول، نبطية عربية تمتد من الفرات إلى البحر الأحمر. وكذلك كانت مملكة دمشق التي مر بها الرسول بولس عربية صريحة. وكانت مملكة حمص عربية، ومملكة مدينة الرستن أيضاً.
بل إنّ المؤرخ الروماني بلينيوس أدخل الرّها (في تركيا اليوم) في جملة أراضي العرب، منذ القرن الثاني قبل الميلاد. وينسب المؤرخ ابن العبري إلى ملك الرّها العربي الأبجر، أنّه راسل السيد المسيح.
ويقول جون سبنسر ترمنغهام، المؤرخ البريطاني في كتابه «المسيحية بين العرب في العصور السابقة للإسلام»، إنّ الجموع التي كانت تحتشد حول السيد المسيح وهو يبشر كانوا عرباً، وإنّ أول المهتدين خارج نطاق الرسل الأوائل كانوا عرباً أيضاً.
* كاتب لبناني