ذراع الدولة لا تُلوى. هذا ما تقوله مستويات متعددة من مؤسسات لا دور لها في الحقيقة الا أنّها «مستشار لا يستشار أحياناً» لدى الرئيس. والرئيس هو صاحب العبارة الأولى التي تحوّلت مع الأيام الى «قاعدة أساسية» للحكم.تشغل الدولة المجتمع في تفاصيل الحادث، ومطاردتها للجناة. وتخرج كلّ يوم بطرف مثير من الحكاية: ١٥ متسللاً. رأس له ملامح أفغانية أو باكستانية بين الأشلاء.. والمجتمع تجاوز الأمر ويبحث عن كلام آخر، عن حقوق مسلوبة ودولة تبدو كأنّها تحت الإنشاء منذ أكثر من ستين عاماً.
أخرجت الدولة في مصر بعد تفجير كنيسة القديسين كل جيشها الاحتياطي من «الرومانتيكيين»، محترفي البكاء على الأيام الحلوة والزمن الجميل عندما كان المسيحيون والمسلمون يعيشون مثل السمن على العسل.
الأغاني تصنع أسطورة «وطن واحد كبير» بينما الواقع اليومي يعيد الدولة الى ما قبل ١٩١٩، حين سقطت السلطنة العثمانية قبلها بسنوات، وتحرك من يريدون إعادة بناء خلافة إسلامية في مصر، ورد عليهم دعاة دولة مسيحية بمؤتمر يطالب بانفصال وحكم ذاتي.
الشعب في مصر اختار، عبر النزول إلى الشارع، دولة واحدة متعدّدة الديانات (مسيحية ومسلمة ويهودية) وأعراقاً مختلفة (عرب وأفارقة وأمازيغ وأكراد وأرمن... وغيرها) وألواناً مختلفة (الأبيض والأسمر والأسود والأصفر أيضاً).
في ١٩١٩ أعلنت مشروع دولة مدنية لم يكتمل حتى الآن. في ظل حكم الأب وصراعات القصر وحزب الوفد، ومن بعدها مجموعة الضباط الأحرار والمجتمع، لم يكن هناك سوى ارادة الحكم، وهذا لا يصنع دولة ولا مؤسسات.
المؤسسات تصبح أشكالاً وهمية، نماذج ورقية يقف عليها كبير يختاره الرئيس. وحسب سطوة الكبير عند الرئيس أو في مواجهته، يكون تأثير المؤسسة ونفوذها. إقطاع سياسي أكثر منه مؤسسات دولة، والفارق هنا كبير بين عبد الناصر ومبارك. ناصر ساحر يخرج من بين ضباط تموز، يوازن بين حكام إقطاعياته بمشروعية الجاذبية الجماهيرية والأبوة الحنونة القادرة على صنع معجزات في مجالات محددة، لكنّها لم تستطع بناء الدولة.
مبارك يتعامل بمنطق كبير الموظفين، ومؤسساته منزوعة الفاعلية لأنّها إقطاعيات يدير كلّاً منها موظف، نصف مستشار، لرئيس تحميه بيروقراطيته وخلفيته في الإدارة العسكرية.
وهذا يعني أنه بعدما كانت الدولة هي صناعة إلهام الجماهير في عهد عبد الناصر، باتت لا تقبل أن تلوي الجماهير ذراعها، ولا تريد أن تتحول الاستجابات للمطالب إلى قاعدة في العلاقة بين الدولة وجماهيرها، خصوصاً أنّ النظام لن يقدر على مواجهة ملفات المطالب المؤجلة. هو يكتفي ببراعته في تأجيلها. وما يحدث الآن ليس سوى انفجار «المؤجلات»، خصوصاً أنّ الدولة التي لم يكتمل إنشاؤها تتآكل، وتمتصّ دمها وحوش مهووسة بالمال والسلطة... وحوش لا تشبع، ولا تكتفي بالثروات المنهوبة بغير حساب.
من هنا يبدو الكلام عن «الزمن الجميل» أكثر قسوة الآن وبالتحديد، لأنّه لا يعني سوى استمرار الانهيار الحالي، وإعادة أسلوب رد الفعل البطيء، ومحاولة استخدام أوراق في اللعب باتت غير فاعلة.
البابا كان مسيطراً على الكنيسة. لكن تنفلت الأوراق من بين يديه بفعل شيخوخته أولاً، ولأنّه مضطر إلى إعلان ولاء لنظام أصبح رمزاً للجراح المتوالية على الأقباط في مصر.
ليس أمام النظام إلا أوراقه القديمة، لأنّه لا يريد «ليّ الذراع» ولا إعلان الفشل أو الهزيمة. سيشكو النظام كما يشكو المجتمع، ويبكي على الزمن الجميل هو الآخر. وسيرى فيها محنة لا بدّ إزاءها من التكاتف والاصطفاف خلف نظام، اكتفى بدور المطافئ والإسعاف وكان قادراً على السيطرة، أو المداراة عن عجزه في الإطفاء والإنقاذ. لكنّ الجراح أصبحت الآن أكبر وأعمق من كونها كوارث عابرة. لم تعد الفتنة بين المسلمين والأقباط، بل بين الأقباط والدولة. ولم تعد المواجهة على مستوى شحن طائفي أو حرب على المواقع، بل في موقع شريحة من المجتمع اكتشفت أنّ كلّ المسكّنات لم تحمهم وهم يختبئون في الكنيسة من حالة اضطهاد يومي وإذلال في كلّ مكان. وصلتهم الجراح في المخابئ، ولم تحمهم الدولة. بكاء الأقباط لا يفتح ملف المسكوت عنه فقط، بل يفتح ملفاً أعقد بكثير: هل يمكن بناء الدولة من الأول؟