من يتابع الساحة الإعلامية السعودية والواقع السعودي عموماً يلحظ تحولاً واضحاً في الخطاب الإعلامي ونوعية النقاش الجاري في الأوساط الثقافية والاجتماعية خلال العقد الأخير. وبعدما طغت على المشهد أحادية فكرية مطبوعة بالخطاب السلفي الخارج من رحم الصحوة الدينية التي اشتعلت بداية الثمانينيات، انفتح النقاش على شيء من التنوع. وبات من الممكن مع بداية الألفية الجديدة الحديث فيما كان سابقاً من الموبقات والمحرّمات. وبدأت مراجعة نقدية لتجربة الصحوة، غذّتها أحداث 11 أيلول / سبتمبر 2001 والأعمال الإرهابية في الداخل، واشتعل جدل فكري واجتماعي لا يزال مستمراً بين طرفين أساسيين: الليبراليين والسلفيين.انتشرت الأفكار الليبرالية من خلال مجموعة من المثقفين وكتّاب الصحف ومنتديات الإنترنت. لكن الليبرالية لم تصبح تنظيماً مماثلاً للتشكيلات القومية واليسارية في الستينيات والسبعينيات، ولا تياراً يشبه التيار الديني السلفي. بل إنّ الليبرالية بدأت تهمةً مقترنة «بالتغريب» و«الأمركة» وتحوّلت إلى غطاء يضم طيفاً واسعاً (ومتناقضاً أحياناً) ممّن تجمعهم الخصومة الفكرية مع التيار المحافظ. ولم يتمكن الكتّاب الليبراليون من تأصيل الليبرالية فكرياً في الواقع السعودي ولا من تحديد رؤى وأهداف ومفاهيم واضحة لليبرالية السعودية. لذلك يُعدّ إطلاق وصف «التيار» على الليبرالية السعودية نوعاً من المبالغة لغياب قاعدة شعبية حقيقية متشبعة بالأفكار الليبرالية أو مؤمنة بمشروع ثقافي واجتماعي وسياسي محدد.
قدّمت النُُّخَب الليبرالية نقداً حاداً للفكر السلفي وحاولت بث مفاهيم تحررية على الصعيد الاجتماعي مستفيدةً من التغيرات السياسية (الحرب على الإرهاب) والثقافية (ثورة الاتصالات وما حملته) لتوسيع هامش حركتها وتحقيق بعض المكاسب، فيما تفرّغ بعض الليبراليين لنقد أعداء أميركا في المنطقة انطلاقاً من الإيمان بالحاضنة الأميركية للفكر الليبرالي والتقدمي في وجه «المتخلفين»، وهو ما دفع هؤلاء إلى التفكير بأنّ التخلص من التطرف الإسلامي ممكنٌ بالتحالف مع التطرف المسيحي المتمثل في المحافظين الجدد!
كان الرهان على بشائر الديموقراطية التي حملتها إدارة بوش للمنطقة وعلى حرب العراق نقطة تحوّل تاريخية باتجاه الحريات، وعلى الحملة الإعلامية الأميركية على السعودية للجم المتشددين. واعتاد بعض هؤلاء زيارة السفارة وتقديم التحليلات للدبلوماسيين الأميركيين عن التغيير في المجتمع السعودي كما كشفت وثائق «ويكيليكس». ولم تحل كارثية نتائج الرهان على الأميركيين والإحباط منها دون استمرار التعويل عليهم والدعاية لسياساتهم في المنطقة. في المقابل لا يعدّ التيار السلفي مجرد تيار شعبي له قاعدة جماهيرية واسعة داخل المجتمع السعودي، بل هو في الأساس شريكٌ في الحكم وفي مؤسسات الدولة على قاعدة التحالف التاريخي المستمر والنظر إلى الوهابية بوصفها عقيدةً لنظام الحكم. ويجد السلفيون أنفسهم معنيين بالحفاظ على الهوية الإسلامية السلفية للدولة والمظاهر العامة الدالة على تلك الهوية، وهم مستعدّون لخوض المعارك الفكرية وغير الفكرية للحفاظ على هذه الهوية من خطر التغريب والعلمنة والانحلال.
سلفية المؤسسة الدينية الرسمية هي سلفية دعوية، تركز على الجانب الفقهي والعقائدي وتترك ما لقيصر لقيصر. لا شأن لها بصناعة القرار السياسي في الداخل والخارج، لكنّها تعطي بركتها لولي الأمر الواجب طاعته. غير أنّ المؤسسة ذاتها أنتجت، بمشاركة جهات وظروف أخرى، ما بات يعرف بالسلفية الجهادية التي أطلقت بممارساتها في المنطقة والعالم الجدل حول مراجعة نفوذ التيار السلفي في المؤسسات والحياة العامة و«تهذيب الوهابية». وقد حاول السلفيون الدفاع عن مواقعهم أمام الهجوم عليهم بعد 11 ايلول، ثم انتقلوا إلى الهجوم واستعادة بعض المواقع مع نهاية إفرازات تلك المرحلة. وهم يواصلون الجدال مع النخب الليبرالية في الشؤون الدينية والاجتماعية لحفظ الهوية السلفية. في الجدل بين الطرفين تؤدي السلطة دور المُنظّم، وهي تستفيد من النخب الليبرالية في التخفيف من أعباء الوهابية الثقيلة أمام الخارج من دون الإخلال بالتحالف الاستراتيجي معها الذي يفيد النظام بإعطائه الشرعية الدينية المطلوبة. يحاول كلّ طرف كسب السلطة في صفه وتحريضها على الطرف الآخر لتحقيق مكاسب، فيما توازن السلطة بين الطرفين مستفيدةً منهما معاً ومنظمةً للعبة بينهما. يدور الجدل حول محورين أساسيين، أولهما الفكر الديني وما يتفرع عنه من تشدد وتفريخ للإرهاب والممارسات الدينية في مؤسسات التعليم والمساجد والمراكز الدينية وممارسات هيئة الأمر بالمعروف، وهي قضية تراوح بين هجوم ليبرالي ودفاع سلفي عن تلك الممارسات. أما المحور الثاني فهو مفاهيم التحرر الاجتماعي. وقد أصبحت المرأة رمزاً أساسياً للنقاش بين الطرفين في مواضيع، منها الاختلاط وقيادة المرأة للسيارة وغيرها، وتفاعلت الأوساط الاجتماعية مع هذا النقاش بين مؤيد ومعارض. حرّك الجدل الفكري المياه الراكدة في بادئ الأمر، إلا أنّه أعاد إنتاج نفسه بعد ذلك مراراً وتكراراً. وصار النقاش يبرد ثم يشتعل بتأثير حادثة ما، قبل أن يعود فيبرد من دون أن يغادر المحورين المذكورين بمواضيعهما المكررة. وهو ما يدل على الحسم أو التقدم في هذه المواضيع والقضايا. جمودٌ يعكس فشل المطالبين بالتغيير في إحداثه وثبات النفوذ السلفي في المؤسسات، كما يدل التكرار على وجود سقف محدد للنقاش وثباته في خانة معينة لا يتعداها، فلا يطرح الطرفان قضايا الإصلاح السياسي والاقتصادي ومكافحة الفساد إلا لماماً. ويبدو جلياً غياب الرؤية الشاملة للهمّ الوطني والاستسلام للمشاكسة داخل إطار محدد ومرسوم. بات الجدل والنقاش القائم هدفاً في حد ذاته، وملهاةً يتسلى بها أطراف النقاش. وصار النقاش عبثياً ومملّاً لكثرة تكرار مواضيعه التي لا يبارحها. صار الجدل حراكاً بلا حركة، وهو لا يعكس حيوية كما يحلو للبعض الوصف بل يعكس شيخوخة مبكرة وفشلاً في التقدم باتجاه نقاش أكثر توسعاً وعمقاً، وكذلك في إشاعة ثقافة الحوار الحقيقية داخل المجتمع على قاعدة الاحترام المتبادل. إنّ أطرافاً تتمتع بنظرة محدودة وتتعلق بطموحات صغيرة يغلب عليها الطابع الشخصي لا يمكن أن تصنع حراكاً وجدلاً يُنتجان تغييراً، يمكنها فقط أن تُوَظّف لتحقيق أجندة معينة، وأن تُنتج شللاً يتحرك في مكانه.

* كاتب سعودي