يحلو لليمين الفرنسي «الديغولي» (التجمع من أجل الوحدة الشعبية، حزب الرئيس ساركوزي)، أن يحمّل أقصى اليمين مسؤوليةَ انتشار كره الأجانب في فرنسا. ولا يتردّد أقطابه في إدانة جان ماري لوبن، رئيس الجبهة الوطنية، ونائبته مارين لوبن، ووصفهما بأشنع الأوصاف.لكنّ التاريخ يكذّب مزاعمَ مسؤولية أقصى اليمين وحده عن انتشار الأفكار العنصريّة في هذا البلد، فمساهمة الديغوليين فيه لا يستهان بها، بل إنّ شارل ديغول نفسه كان بما لا يدع مجالاً للشكّ عنصريّاً صريحاً، تجاوز كل الخطوط الحمراء التي سُطّرت فيما بعد (لحسن الحظ) لجان ماري لوبن. وما يثير التعجّب أنّ كلامَه المطبوعَ بعقدة «التفوق الأوروبي الطبيعي» منشورٌ في كتب لم يفكر أحد في المطالبة بسحبها (القانون الفرنسي يعاقب على جنحة «الحض على الكراهية العرقية والدينية»).
لنقرأ ما قاله أبو «فرنسا الحرة» عن «المسلمين» (الأهالي الجزائريين في قاموس الاستعمار الفرنسي) يوم 5 آذار / مارس 1959، في خضمّ النقاش (الداخلي والدولي) عن أنجع حلّ «للمسألة الجزائرية» (الاستقلال أو «الإدماج»، أي إعطاء السكان غير الأوروبيين حقوق الفرنسيين ذاتها): «هل رأيتم المسلمين، بجلابيبهم وعمائمهم؟ واضحٌ أنّهم ليسوا فرنسيين. عقولُ الذين يدعون إلى الإدماج عقولُ عصافير حتى لو كانوا بالغي الذكاء. حاولوا أن تخلطوا الزيت والخل (...). أتظنّون الكيانَ الفرنسي قادراً على استيعاب 10 ملايين مسلم سيصبحون غداً 20 مليوناً ثم 40 مليوناً؟» («كتاب «C’était De Gaulle»، ألان بيريفيت). وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ هذا الكلام قيل في معرض الدفاع عن تمكين الشعب الجزائري من تقرير مصيره. تُرى ما وجه الاختلاف بين تبرير قبول استقلال الجزائر بهذا النحو وتبرير «حلّ الدولتين» بضرورة المحافظة على إسرائيل «دولةً لليهود»؟
ولم يكن حظّ الأفارقة السود من احتقار الجنرال أقلّ من حظ الأفارقة البيض. لنقرأ ما قاله عنهم في 8 تشرين الثاني / نوفمبر 1968، في حديث مع أحد كبار معاونيه، جاك فروكار، مهندس العلاقات الفرنسية ـــــ الأفريقية بعد استقلال مستعمرات فرنسا في القارة السوداء: «زنوجٌ في الإليزيه كلّ يوم تُجبرونني على استقبالهم ودعوتهم إلى الغداء. محاصرٌ أنا بالزنوج. (...) لا أريد أن أستقبل أحداً منهم قبل شهرين. لا لضيق الوقت لكن لأنّ ذلك يعطي (عنّا) في الخارج انطباعاً سيئاً: لا نرى سوى الزنوج، يوميّاً، في الإليزيه» (الجزء الثاني من مذكّرات جاك فروكار، « Le Général en mai. Journal de l’Élysée. 1968-1969»).
هل كان أحدُ أبرز الزعماء الديغوليين بعد ديغول، عَنينا جاك شيراك منظّر سياسة «الحزام الصحي حول الجبهة الوطنية»، أقلَّ شوفينيةً من أبيه الروحي؟ لا نعتقد ذلك، فرفضُه إشراكَ فرنسا في غزو العراق لا ينسينا كلاماً قاله في 19 حزيران / يونيو 1991 وخلد ذكره في حوليات السياسة الفرنسية تحت عنوان «تصريح الضجيج والروائح». قال: «مشكلتُنا ليست الأجانب. مشكلتُنا هي أنّ جرعتَهم زادت عن الحدّ.
صحيحٌ أنَّ عددَهم (في فرنسا) ليس أكثر مما كان قبل الحرب (العالمية الثانية) لكنّهم ليسوا الأجانب أنفسهم، هذا هو الفرق. من المؤكّد أنّ كون إسبانيين وبولونيين وبرتغاليين يعملون عندنا يطرح مشاكلَ أقلّ من تلك التي يطرحها المسلمون والسود».
وبعد هذه المقدمة، روى الرئيس الفرنسي السابق غضب عائلة فرنسية (افتراضية) يكسب الأم والأب فيها مجتمعين كلّ شهر 15 ألف فرنك، وهي ترى عائلةً مهاجرة (افتراضية أيضاً)، تتكوّن من رجل «وزوجاته الثلاث أو الأربع و20 طفلاً، تكسب شهرياً 50 ألف فرنك فرنسي بفضل المنح الاجتماعية، ومن دون أن تعمل بطبيعة الحال». وقال معلقاً على قصته المتخيّلة: «إذا أضفنا إلى كلّ هذا الضجيجَ والروائحَ، فسُيجنّ جنونُ العامل الفرنسي حتماً، وعلينا أن نتفهم ذلك». لم يطرف له جفنٌ وهو يحكي عن هاتين الأسرتين الوهميتين وسط قهقهات الحضور، مصوّراً المهاجرين طفيليين يستنزفون أموال دافعي الضرائب الفرنسيين. ولم يمنعه شيء من ترديد كليشيهاته أنّ العربَ والسود هم الذين بنوا فرنسا المدمرة بعد الحرب، في ظروف أقل ما يقال عنها إنّها شبه استعبادية.
أما أغرب ما في الأمر، فهو أنّه أنهى خطبته منبّهاً إلى أنّ «الوضع سيزداد تردياً إذا لم تحل مشكلة الهجرة (...) ولن يستفيد من تردّيه سوى المتطرفين»، أي بكلمة أخرى حركة لوبن.
ولم يكن «خطاب الضجيج والروائح» أوّل خروج يميني متطرف لشيراك، فقبله بسنوات شرع في مبارزة الجبهة الوطنية على ميدانها، بعد إحرازها أول نجاحاتها الانتخابية (11 بالمائة في الانتخابات الأوروبية في 1984، دخول البرلمان في 1986 وحصول مرشحها على 14 بالمائة من الأصوات في الدور الأول للانتخابات الرئاسية في 1988). ومن كلامه المأثور قبل هذه الرائعة الخالدة، قولُه في حوار مع الصحافي الفرنسي فرانتز أوليفيي جيسبار (22 حزيران / يونيو 1985) متحدثاً عن لوبن: «لا أعرفُه، لكنّه ربّما أقلُّ خطراً مما يقال. هو يردّد بعض الأشياء نحن مقتنعون بها، يردّدها بصوت أعلى من صوتنا وبطريقة أحسن من طريقتنا، أي باستعمال لغة أكثر شعبية (...)».
وبطبيعة الحال، لم يسع نيكولا ساركوزي سوى أن يضيف لَبنَته إلى صرح اليمين العنصري، لا بالأفعال فحسب بل بالأقوال أيضاً. لنقرأ ما قاله عن المسلمين في برنامج تلفزيوني فرنسي أذيع في 20 تشرين الثاني / نوفمبر 2003 (كان يشغل منصب وزير الداخلية آنذاك): «عندما تكون مسلماً، يُرى ذلك على وجهك». كيف؟ لم يشرح لنا عبقريّ زمانه نظريته، التي تذكّرنا بقصص الخيال العلمي، بمسلسل «الغزاة» تحديداً، وكائناته الفضائية التي تريد السيطرة على الأرض فيفضحُ عدمَ انتمائها إلى الجنس البشري عيبٌ خلقي في أيديها لا تستطيع إخفاءه.
ويبدو أنّ ارتقاءَ ساركوزي سدّة الرئاسة في 2007 لم يحسّن معارفَه العامة ولا مستوى لباقته، فأعاد الكرّة يوم 26 تموز / يوليو 2007، في العاصمة السنغالية في ما سمي «خطاب داكار». في ذلك اليوم المشهود، اعترف بأنّ الاستعمارَ كان «خطأ» (لا «جريمة»)، لكنّه أردف اعترافَه بهذه الدرة الفريدة: «الإنسانُ الأفريقي لم يدخل التاريخ بما فيه الكفاية (...) مشكلةُ أفريقيا أنّها تعيش (...) حاضرَها غارقةً في الحنين إلى جنّة الطفولة الضائعة. في مخيال كهذا، دائم التجدد، لا مكان للمغامرة البشرية ولا لفكرة الرقيّ». ما الفرقُ بين هذه الأبويّة والتصور الاستعماري للسود أطفالاً طيبين وكسالى أغبياء على الأوروبيين أن يأخذوا بأيديهم ليتعلّموا معنى العمل ويدخلوا جنة الحضارة؟
هذا غيضٌ من فيض عنصرية كبار الزعماء الديغوليين، يثير التعجّب تجانُسه على مدار أكثر من 50 سنة، من شارل ديغول إلى نيكولا ساركوزي، مروراً بجاك شيراك. أيُعقل أن يحمَّل جان ماري لوبن وابنته مارين وحدهما مسؤوليةَ رواج عقيدة النقاء الثقافي في «مهد حقوق الإنسان»؟

* صحافي جزائري