بعد أعوام من الصخب السياسي والأمني، يمكن القول إنّ ثمّة تسليماً لدى شريحة كبيرة من اللبنانيّين بالتسوية. إلا أنّ هذا التسليم الشعبي غير كافٍ على ما يبدو. المطلوب التسليم بمضمون التسوية مهما يكن، لا بمبدئها وحسب. كيف لا، وعليّة القوم محلياً وإقليمياً منكبّون على مناقشة تفاصيلها منذ فترة غير قصيرة، في مفاوضات يقال إنّها دقيقة وشاقّة و... سريّة، يرسمون فيها مستقبل البلاد أقلّه حتّى الانتخابات النيابيّة المقبلة. مرحلة المراوحة هذه ليست إذاً مجرّد محطّة انتظار. إنّها أيضاً لحظة تدجين. فمن ارتضى البقاء أشهراً مسلِّماً أمره للأسياد الكبار من دون أن يعرف ماذا يجري من حوله، سيلتزم الصمت حتماً لدى إعلان مصيره الذي لم يعُد بِيَده.هكذا تحوّلت الفتنة السنّية الشيعيّة من أداة تخريب إلى أداة تدجين. وتحوّلت المحكمة الدوليّة من أداة لتحقيق العدالة إلى أداة تدجين. وتحوّلت تجمّعات 8 و14 آذار من أداة للمشاركة الشعبيّة في القرار إلى أداة تدجين. كلّنا دخلنا القفص. ودخلناه برضانا هذه المرّة.
لكنّ ما هو أكثر مدعاة للأسى من الغموض المحيط بهذه التسوية، هو التسريبات التي بدأت تصل عن مضمون نقاشاتها. فإذا كانت معادلة «الحكم مقابل المحكمة» هي القائمة، فإنّ المفاوضات جارية بشأن تفسير «الحكم». حسناً، لكنّ آلية «الحكم» لا تعني بالنسبة إلى المفاوضين إلا تقسيم العمل مرّة أخرى بين الزعماء الكبار. والسؤال المحيّر اليوم هو كيف نُدخل بعض التعديلات على المعادلة السابقة بشأن الأمن والاقتصاد، فلا يُسلَّم كلّ الأمن إلى 8 آذار ولا يسلَّم كلّ الاقتصاد إلى 14 آذار؟
أمّا ما حدث للأمن وللاقتصاد في الحقبة السابقة، فلا يدخل في المفاوضات. ماذا فعلت 8 آذار بالأمن، وماذا فعلت 14 آذار بالاقتصاد، لا يدخل في المفاوضات. على من تقع المسؤوليّات بعد انهيار المقولة التبسيطيّة عن «النظام الأمني اللبناني ـــــ السوري المشترك»، سؤال لا يدخل في المفاوضات. كيف ننطلق من هذا الخراب إلى أفق يتجاوز المحاصصة، ليس من اختصاص المفاوضات.
ثمّة من يريد إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. إلى الوراء، وإلى ما وراء الوراء. رحم اللّه أم كلثوم: عايزنا نرجع زيّ زمان... قول للزمان إرجع يا زمان!