سواءٌ أكنت حداثياً أم بعد حداثيٍّ، ترى المدينة كماكينة ومشروعٍ ثوري جماعي، أو كلوحة فوضوية متغيّرة و"كولاج" من البشر والرموز والتجارب، فإنّ هناك معادلةً أساسية لا يمكن أي مذهب فنّي أن يتجاوزه، بصرف النظر عن مضمونه ومحتواه وجمالياته. هذا الأساس، يقول دايفيد هارفي، هو السياق التاريخي السياسي الذي يعيش ضمنه الفنّان أو الكاتب أو المعماري. في وسعك أن تعارض هذا النظام وتقاومه، وقد تتماشى معه وتفاوضه وتعمل في إطاره، ومن الممكن أن تخضع له بالكامل، ولكن ما ليس في وسعك فعله، بأي حالٍ من الأحوال، هو تجاهل هذا السياق السياسي واعتباره غير موجود (ومن هنا خطورة الأفراد والحركات التي تدّعي "الحيادية السياسية" أو أنها تمارس "الفن للفن").
بالمعنى السياسي، لا يمكن عقد مفاضلة مطلقة بين مدرسةٍ وأخرى، والقول ــ مثلاً ــ بأن الجيل الحالي من المعماريين النجوم هو أكثر استتباعاً للسلطة، أو خضوعاً للرأسمالية والسوق، من سابقيه. لقد تمّ استخدام رموز الحداثة من قبل السلطة السياسية (يذكّر هارفي بأن لوكوربوزييه، مثلاً، تقرّب من نظام موسوليني، وعمل مع نظام فيشي)، وأكثر مشاريعهم كانت لتلبية حاجات الرأسمالية والأنظمة في أوروبا الغربية وأميركا، والمخططات "الثورية" التي نفذوها بعد الحرب العالمية الثانية ما كانت إلّا جزءاً من مسعى الرأسمالية الحاكمة في الغرب لإعادة تأسيس نفسها من ركام الحرب. المعماري، كأي مثقف، هو في النهاية "موظف" يحتاج إلى سلطةٍ أو مصالح مالية، أو أقلّه جامعة، تؤمّن له عملاً ومشاريع بناء وراتباً.
من هنا، لا يمكن الحكم على مدرسةٍ ــ أو تصميم أو فنّان ــ من دون النّظر إلى متطلّبات النظام في عصره، وماذا يريد من الهندسة والعمارة، وكيف تعامل المصمّم مع هذا السياق وتفاعل معه. في عصر "الحداثة"، وتحديداً في القرن العشرين، كان النظام يحتاج إلى إعادة إعمار، وإسكان الملايين من الناس، وبناء مدنٍ جديدة. وكان نمط التراكم الرأسمالي يقوم على التوسّع الأفقي، واستيعاب فئات شعبية جديدة بصفة مستهلكين ومنتجين؛ فكان المصمّمون الحداثيون الكبار يستجيبون لهذه الحاجات وينتجون مفاهيمهم وتصاميمهم الكبرى والطموحة على أساسها. إيديولوجياً، كانوا يعتبرون أنّهم جزءٌ من حركة تاريخية تنتشل الإنسان من واقعه البائس وتبني له، بمساعدة العقل والتكنولوجيا والتخطيط، عالماً جديداً عادلاً. وكانت السلطات والأنظمة، ضمن هذا المنظور، هي الأداة "الحكيمة" التي تحرّك هذه العملية وتدفع بها إلى عالم الواقع.
أمّا منذ السبعينيات، فقد تغيّرت طبيعة الرأسمالية والسلطة السياسية: صار نمط التراكم الرأسمالي في المرحلة النيوليبرالية يقوم على تركيز الثروة والفوائض، وتقسيم الشعب إلى فئات متفاوتة مادياً ("ناجحون وفاشلون"، "رابحون وخاسرون")، ومعزولة غالباً بعضها عن بعض، وتقلّصت سلطة الدولة ودورها التوزيعي، ولم تعد ــ في الغرب ــ تبني المدن وتخطط للإسكان الجماعي. المدينة "ما بعد الحداثية"، مدينة "الكولاج" و"التنوّع" والهويّات الفردية المتغيّرة، هي نتاج هذا السياق، بل هي غير ممكنة من دونه. وفي قلب هذا النّظام، احتلّت الشركات الكبرى قلب المسرح، وورثت الكثير من مهمات الدولة: هي ما يعطي المدينة أضواءها، وينفث فيها الحياة، وينثر الإعلانات ويشكّل المكان بصرياً؛ وهي ما يصمّم ويبني الأحياء الجديدة، ويعطيها "علامة تجارية" وهوية، وهي الماركات والثياب التي نستخدمها حتى نبني هويّتنا "الفرديّة" الخاصة، الخ… ولهذا الزبون يصمّم جيل نورمان فوستر وغيري وكوولهاس، والراحلة زها حديد.
مثال المعماري "النّجم" النّرجسي، الذي يرى عمله ولا شيء آخر، والذي يكفي اسمه لإضفاء قيمة على العمل تتخطّى وظيفة البناء، وتجعله "معلماً" بشكلٍ أوتوماتيكيّ، هو انعكاسٌ وفيّ لمجتمع نيوليبرالي يتحوّل من الصناعة والإنتاج إلى الخدمات والاستهلاك، ويعلي من شأن التنوّع والتفاوت على حساب التخطيط والعدالة، والشكل على حساب الفعالية (من الأمثلة الشهيرة أنّ سقف المسبح الأولمبي الذي صمّمته حديد في لندن استلزم ثلاثة أمثال كمية الصّلب التي يحتاجها مبنىً مماثل)، والرأسمال الرمزي على حساب الرأسمال المادي. وقد جاءت مواد البناء الحديثة، والتصميم عبر الحواسيب، لإعطاء إمكانات جديدة لإنتاج مبانٍ يطلبها هذا السوق: متمايزة، مدهشة، ومتحرّرة من القواعد التقليدية للشكل والبنية (للمقارنة، قارب الجيل الحداثي من المعماريين الإمكانات التكنولوجية التي أُتيحت له لخلق تصاميم قابلة للتعميم، وأكثر فاعلية وأقلّ كلفة، وموجّهة إلى حاجات عموم الناس).
هنا أيضاً، لا يمكننا أن نفهم سبب انتشار أعمال "النجوم" وتسويقها وشعبيتها من دون فكرة "الرأسمال الرمزي" وبيير بورديو. حتّى أواخر التسعينيات، حين كانت حديد قد أصبحت مصمّمة مخضرمة، كسبت جوائز مهمّة وعملت لسنوات مع كوولهاس في "سوما"، ودرّست في هارفرد وأسهمت في بناء نظريات، لم يكن في سجلّها إلّا حفنة من المشاريع المبنية. لم يحمل مبنىً اسم زها حديد حتّى سنة 1994، بعد أكثر من عقدٍ على إنشاء مكتبها الخاص في لندن؛ وكانت أكثر تصاميمها تُعتبر نظريّة و"أكاديمية"، تفوز بالجوائز ولكنها غير صالحة للبناء. ثمّ تغيّر كلّ شيء في العقدين الأخيرين، وتكاثرت أعمالها في أرجاء العالم، وبخاصةٍ في الشرق الأوسط ودول آسيا.
الرأسمال الرمزي، يقول بورديو، هو "مجموعة السلع الثمينة التي تشهد على ذائقة وتمايز مالكها"، ودايفيد هارفي يحاجج بأن القاعدة ذاتها تنطبق على المدن والمعمار. الرأسمال الرمزي، وما هو إلّا انعكاس لإنفاق مادّي، لا يعمل، بحسب بورديو، إلّا عبر إخفاء أصله المادي والمالي، ويكون أكثر فعالية حين يسري عبر الصمت والتواطؤ. بمعنى آخر، الشاب الذي يشتري سيارة فخمة لا يعلّق سعرها عليها، ولا يشرح أنها موجودة لأن والده اشتراها له، أو أنّها مصمّمة في ألمانيا، وهو لم يُسهم فيها بغير اختيار اللون. الفكرة هي أنّ امتلاك السيارة ــ في حدّ ذاته ــ يوحي بعلاقةٍ ما بين السلعة ومالكها، ومكانته و"ذوقه". هكذا يجري إنتاج "الرأسمال الرمزي". وحين صعدت مدنٌ كدبيّ والدوحة وشانغهاي وأرادت مكاناً لها على المسرح العالمي، أو شاءت مدن طرفية كسياتل وبلباو أن تتميّز وتنافس، كانت هندسة النجوم وتحفهم "ما بعد الحداثية" إحدى أهمّ الوسائل لحيازة هذا الرأسمال (بنفس مثال السيارة، لا يهمّ أن ابن الدوحة أو دبي لم يصمّم المبنى، ولم يبنه وينفّذه، وأنّ من يعمل بداخله ويستخدمه أجانب، أو أنّه، حتى، لا يحتاج إليه؛ مجرّد ملكية هذا "المعلم" ــ عبر دفع ثمنه ــ تعطي شعوراً بالإنجاز والفخر والمدنية).