ثمة سؤالٌ لم يجد إجابةً له إلى الآن، في خضم الحديث المكثف هذه الأيام عن المصالحة الوطنية الفلسطينية، الذي أثارته الهجمة الإسرائيلية الأخيرة على غزة. ماذا سيحصل للتنسيق الأمني القائم بين الفلسطينيين وقوات الاحتلال الإسرائيلية الذي يحمي الاستيطان الإسرائيلي ويقوِّض الأمن الفلسطيني ويهدّد استمرار وجود الشعب الفلسطيني؟ هل من الممكن تحقيق الوحدة الوطنية بموازاة الحفاظ على التنسيق الأمني تحت إشراف أميركي؟
إن التنسيق بين الإسرائيليين والفلسطينيين يُعدّ نموذجاً تاريخياً نادر الحدوث، لم يسبقهم إليه إلا البانتوستانات الجنوب أفريقية. ويكمن هذا التنسيق في صميم اتفاقات أوسلو، ومن المشكوك فيه أن يُسمَح للسلطة الفلسطينية بالاستمرار في عملها الوظيفي في الضفة الغربية إذا أقدمت على وقف التعاون الأمني مع الاحتلال. ومن المشكوك فيه أكثر أن يُعاد ترتيب هذا التنسيق، بحيث يركز على أمن الفلسطينيين.
لقد برز واقعٌ جديد عقب الهجوم الإسرائيلي على غزة يتيح الفرصة للقضاء على المكوِّن الأمني في اتفاقات أوسلو بشكل نهائي. يؤمن معظم الفلسطينيين بأنّ إسرائيل لم تحقق أهدافها في تشرين الثاني/ نوفمبر 2012 رغم الخلل الهائل في توازن القوى بين فصائل المقاومة الفلسطينية وأحد أكبر جيوش العالم المزود بطائرات ف16 وأباتشي وطائرات من دون طيار (زنانات) أميركية لا تغيب عن سماء غزة، والمصحوب بماكينة إعلامية ضخمة. وفي المحصلة، حققت فصائل المقاومة الفلسطينية نصراً مؤزراً على إسرائيل.
لم تَجْنِ إسرائيل من هجمتها على غزة سوى أنها دقت المسمار الأخير في نعش «عقيدة الضاحية» التي طورتها مؤسساتها الأكاديمية، وتحديداً جامعة تل أبيب. لقد طبقت إسرائيل عقيدة الضاحية في بادئ الأمر في لبنان سنة 2006 حيث تعمدت استهداف أماكنَ سكنية مكتظة للضغط على المقاومة اللبنانية للاستسلام والرضوخ لشروطها أو لتأليب السكان المدنيين عليها. غير أن المقاومة اللبنانية صمدت رغم الخسائر الفادحة في الأرواح وأعداد الجرحى والبنية التحتية.
وبعدها بثلاث سنوات، طبقت إسرائيل عقيدة الضاحية على قطاع غزة وأودت بحياة 1443 فلسطينياً، بمن فيهم 434 طفلاً في حملة مسعورة استمرت 22 يوماً في كانون الأول/ ديسمبر 2008 وكانون الثاني/ يناير 2009. وكانت إسرائيل قد أعلنت ثلاثة أهداف للحملة، هي: إطلاق سراح الجندي الأسير لدى المقاومة الفلسطينية جلعاد شاليط، والقضاء على إطلاق الصواريخ من القطاع، وإنهاء حكم حركة حماس في غزة. ومن المعروف أن أياً من هذه الأهداف لم يتحقق، ولم يُطلق سراح شاليط إلا من خلال المفاوضات وتبادل الأسرى.
وكان الفشل الأكبر لعقيدة الضاحية في الحرب الأخيرة على قطاع غزة التي استمرت ثمانية أيام متتالية من القصف الجوي المكثف على القطاع. فتضافرت أولًا القوى الوطنية والإسلامية كافة في عرض قوي للوحدة الوطنية، رغم أن البعض اضطلع بدورٍ أكبر في الذود عن المدنيين في غزة. وثانيًا، لم تكن غزة معزولة بفضل بروز عالمٍ عربي مختلف. فنظام الديكتاتور المتعاون مع إسرائيل، حسني مبارك، قد اختفى عن الخريطة السياسية، وبالتالي أُضعف الطرف الفلسطيني الذي كان يستقوي بهذا النظام. بمعنى آخر، إن قوة الردع التي أرادت إسرائيل ردّ الاعتبار لها كانت تتطلب بالضرورة بيئةً فلسطينيةً متفهمة، إن لم تكن متعاونة.
إن اختلاف البيئة هو بالضبط الفارق بين حربي 2009 و2012. لكن هل ستحسن فصائل المقاومة الفلسطينية توظيفها؟ فقد ارتكبت تلك الفصائل خطأً استراتيجياً بعد مجزرة 2009؛ إذ لم تستثمر نصرها المتحقق. فبمجرد إعلان إسرائيل وقفَ إطلاق النار من طرف واحد، قام النظام المصري السابق، الذي كان قد فقد صدقيته بنحو كامل لمشاركته في حصار القطاع وتسهيل الهجمة الإسرائيلية بإغلاق معبر رفح، بل إن الحرب نفسها كانت قد أُعلنت من عاصمته وبوجود وزير خارجيته، بدعوة أطراف المقاومة لبدء جولة من الحوار الوطني بإشرافه. وقد قبلت المقاومة الفلسطينية بكل أجنحتها تلك الدعوة.
لقد خسرت فصائل المقاومة، بقبولها الدعوةَ إلى التفاوض حول الوحدة الوطنية في تلك الظروف، فرصةَ إنهاء التنسيق الأمني بل وفرصة إنهاء الحصار. فكان يتعين عليها رفضُ مغادرة القطاع إلا في حالة فتح معبر رفح ودعوة قيادات عربية لزيارة القطاع. غير أن الحصار قد استمر حتى هذه اللحظة رغم تخفيفه بعد الاعتداء على أسطول الحرية سنة 2010 وشعور النظام المصري بالحرج. وما زال المعبر ينتظر قراراً بفتحه كاملاً لعبور الأفراد والبضائع بلا قيود.
إن من عايش العملية الإسرائيلية سنة 2009 كان واثقاً من أن التعاون الأمني بين الإسرائيليين والفلسطينيين لن يستمر بعدها، وهي العملية التي وصفتها لجنة تقصي الحقائق الأممية برئاسة القاضي ريتشارد غولدستون بأنها «جريمة حرب وجريمة محتملة ضد الإنسانية»، ولكن التعاون الأمني استمر.
أمّا اليوم، فهناك فلسطيني جديد غير «الفلسطيني الجديد» الذي يعبر عن رؤية أوسلوية نيوليبرالية ويُبشِّر به الغرب ويروج له. الفلسطيني الجديد هو كل واحد من مئات الألوف الذين خرجوا في شوارع غزة الساعة التاسعة من مساء 21 تشرين الثاني/ نوفمبر 2012 ليعبّروا عن فرحتهم الغامرة بانتصارٍ غير مسبوق على إسرائيل. لم تهن عزيمتهم في مواجهة الحصار الخانق المفروض عليهم منذ 2006، هو الفلسطيني الجديد الذي نزل إلى شوارع الضفة الغربية وشوارع الناصرة وجامعات إسرائيل وحول العالم منذ اليوم الأول لحرب 2012 ليقول لا لقتل الفلسطيني الغزي.
الفلسطيني الجديد هذا يرسخ مفهوم المصير المشترك للشعب الفلسطيني رغم روشتات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وجولات التنسيق الأمني البغيض، وسنوات المفاوضات العقيمة، وجلسات التطبيع المريعة.
هو الفلسطيني الجديد، إذًا، الذي رحّب برسائل الصمود التي أرسلتها المقاومة بأشكالها المتعددة، وحارب التطبيع، ورفض تبييض وجه المحتل. ومن دونه لما تحقق النصر المحتفى به الآن.
ولأن دماء أطفال آل الدلو والسموني لم تجف بعد، ثمة شعورٌ عارم بأنه قد آن الأوان لوضع حد للانقسام الحاد في الحركة الوطنية الفلسطينية، وإعادة اللحمة لها.
غير أن ذلك لن يتحقق من دون الطلاق النهائي مع ما يسمى التنسيق الأمني مع إسرئيل. إن المحافظة على الأمن في الضفة الغربية لا يمكن أن يكون على حساب الدم الفلسطيني في غزة. وإحراز الحقوق الفلسطينية المتمثلة في تقرير المصير والحرية والعدالة والمساواة لا يمكن أن يتحقق بالحفاظ على أمن المستوطنات غير الشرعية، وإعانة إسرائيل على ترسيخ سياساتها العنصرية، والتطبيع مع الاضطهاد الإسرائيلي المتعدد المستويات. ولا بد أن يكون إنهاء التعاون الأمني على رأس جدول أعمال الفلسطيني الجديد.
*محلل سياسي مستقل مقيم في غزّة، أستاذ مشارك في الأدب الإنكليزي والدراسات الثقافيّة، مستشار لدى مركز «Al-Shabaka ـــ شبكة الدراسات الفلسطينيّة»