مر «الربيع العربي»، بمعناه الاول الايجابي، مرور الكرام على لبنان. طفرة سريعة تحت شعار «الشعب يريد اسقاط النظام الطائفي» لم تُعَمِّر اكثر من اسابيع. غياب المشروع الوطني الحاضن، وعدم بلورة مشروع بديل من خلال دينامية التحرك نفسه (الذي بدا واعدا وكبيرا في انطلاقاته)، لعبا الدور الاكثر سلبية. وهكذا وخلافا لما حصل في مصر مثلا لجهة بلورة بديل في مجرى التحرك الشبابي ـــــــــــــــــ الشعبي، استطاع نظام المحاصصة الطائفي ــــــــــــــــ المذهبي بآلياته وتقاليده الراسخة والمخادعة ان يحتوي اندفاعة الشباب وانجذاب الشيوخ، بحيث «عادت حليمة ....» وكأن شيئا لم يحدث!.محصلات السنة الماضية، كسابقاتها، كشفت الخلل المزمن والمتراكم في النظام السياسي اللبناني. لكنها كشفت ايضا الخلل في وضع قوى البديل الديموقراطي لهذا النظام. الخطير في الامر أن هذا الخلل الاول قد تحول الى نقص مناعة مهدِّد لمجمل مصير لبنان وشعبه، وبأسوأ العواقب. فلبنان يتراقص مصيره الان على الايقاع المتوتر والقاتل للمحنة السورية. وهذه المحنة، هي بالمناسبة، مسؤولية «النظام العربي» وبعض قوى التدخل الاجنبي بمقدار ما هي مسؤولية النظام السوري.
لا بأس، كما يفعل كثيرون هذه الايام، من اطلاق المناشدات لاهل النظام من فريقي الانقسام، لكي يرأفوا بالبلد وبأهله. الكلام بهذه الطريقه يتحول، حين لا يكون جزءا من منظومة تغيير (ببرنامجها وخططها واساليبها وصيغها) مجرد نصح. وهو يتحول، مع مرور الوقت وتراكم السلبيات، الى مجرد تمنيات. اليس ذلك ما نقرأه في نهائيات العام المنصرم: انها مجرد امنيات يمكن ان يوكل امر الصلاة على نيتها الى كهان الرعية او فقهاء الشرع. انها تعبير عن نوايا طيبة في مناسبة تقليدية. لكنها، بالمقاييس العملية، صرخة في واد، لا تسمن ولا تنجي من مخاطر محدقة، ليس اقلها الفتنة الاهلية المضرجة بالموت والدم، وليس اكثرها التشرذم والضياع والزوال...
ليس في هذا الكلام مبالغة او تهويل على احد، فلبنان المنقسم في الداخل والمرتهنة، بشكل عام، قواه السياسية ــ المجتمعية للخارج، يقف الآن في عين العاصفة. أدّى اضطراب العلاقات العربية ــ العربية الى انهيار حكومة الشراكة التي انبثقت عن «مؤتمر الدوحة». وأدّى تعاظم الصراع حول سوريا وموقعها وواقعها الى انهيار ما كان قائما من التسويات على لبنان وبين اللبنانيين. حتى المشتركات الشكلية او اللفظية، ومعظمها حمّال اوجه، انهارت، لتحل محلها اشكال فظة من الصراعات والتباعدات والتوترات المفتوحة كلها على اسوأ الاحتمالات والمخاطر. وينبغي القول هنا، من قبيل تسجيل واقع موضوعي، ان عدم اسقاط الحكومة السابقة، لم يكن يعني ابدا ان الوضع الداخلي اللبناني سيكون افضل. على العكس من ذلك، فإن الاكثرية السابقة كانت مرشحة ومهيّأة، كما تشير كل الدلائل، الى استعداد اكبر لتوريط لبنان واللبنانيين في الازمة السورية بأفدح واخطر مما يحصل حاليا. وليس يعني المزيد من التورط وخصوصا عبر استخدام الموقع الرسمي والمؤسسات السياسية والامنية المتاحة (وليست كلها متاحة بسبب خضوعها هي نفسها للانقسام!)، ليس يعني ذلك سوى المزيد من الاندفاع الى الهاوية، اي الى الاحتراب والاقتتال الاهليين.
قلنا ان نقد الوضع الحالي والبرامج والقوى المهيمنة على المشهد السياسي اللبناني، منذ عقود على الاقل، يصبح فعالاً عندما يكون جزءاً من منظومة او مشروع تغيير. وهو قد يتلاشى او ييأس مطلقوه عندما يفقد دوره وتأثيره. هذا يعني ان المسؤولية لا تقع على النقد بل تقع المسؤولية، كل المسؤولية، على غياب المشروع الوطني التغييري. ويضاعف من تلك المسؤولية المشوبة بكل انواع الضرر والخيبة المتفاقمين باستمرار، أن «الشعب اللبناني»، بقسم لا يستهان به منه، «يريد» فعلا اسقاط نظام المحاصصة الطائفية الراهن. وهو اثبت ذلك، بالفعل لا بالقول، من خلال مشاركة عشرات آلاف المواطنين في تظاهرات «اسقاط النظام الطائفي». وكان بالطبع، يمكن لهذه الاستجابة ان تتوسع اكثر بكثير، وأن تتحول الى حالة نهوض وصحوة سياسيين كبيرين، لو توفرت الاسباب الضرورية من اجل ذلك. والمقصود بالطبع، انبثاق قيادة لهذا التحرك، المدهش في زخمه وفي تصاعده، تستطيع ان تمضي به قدما ليأخذ مداه من جهة، وليأخذ مكانه في خارطة الفعل والتأثير في الخارطة السياسية اللبنانية، من جهة ثانية.
والمشروع الوطني التغييري، وهو جملة التوجهات البرنامجية والصيغ التنظيمية التي من شأنها تجسيد شعار الانقاذ بالتغيير، عبر كفاح مُضن ودؤوب وعبر تضحيات وابداعات لا غنى عنها في مواجهة محاصصي النظام الطائفي الذين، لقاء مكاسب فئوية وبإثارة العصبيات والغرائز، يواصلون حرمان اللبنانيين من ان يكون لهم وطن حصين وموحد وسيد وديموقراطي.
وكما لا يمكن بناء وطن مستقل بأحزاب وقوى تابعة تدير سياساته وعلاقاته وتقرر في شؤونه، بالاصالة احيانا، وبالنيابة عن السيد الخارجي غالبا، كذلك لا يمكن بناء مشروع ديموقراطي بقوى عاجزة او غافلة او خائبة او مستغرقة في بعض صيغ الماضي وشعاراته. والماضي، كما يجب تناوله، هو خبرة وعبرة وتجاوز في جدلية لم تبدأ حين كانت «تقف على رأسها»، مع احد اكبر فلاسفة كل العصور، هيغل، ولم تنته، ايضا مع احد اعظم مفكري التغيير في التاريخ، ماركس حين اوقفها على قدميها.
ان التصميم على بلورة مشروع التغيير وتحويله مشروعا كفاحيا كبيرا، هو فقط ما يمكن ان يجسد «الربيع اللبناني»، المنتظر. وهو بالاساس، اذاً، ربيع «وطني» يجند طاقات اكثرية كبيرة من الشعب اللبناني، في سبيل انقاذ لبنان من الانقسامات الفئوية ــ الطائفية والمذهبية، في الداخل، من الارتهان والتبعية، حيال الخارج ولهذا الخارج.
وهذا المشروع لا يعني ابدا، وهو مشروع مرحلي بالضرورة، التخلي عن المشاريع الابعد مدى والاكثر جذرية. انه محطتها التاريخية الراهنة في مسار طويل ومعقّد من اجل اهداف اكثر ثورية على طريق المساواة والحرية والتقدم والديموقراطية الحقَّة.
ان بلورة هذا المشروع هي الهدف المباشر الذي ينبغي ان يوجه وينظم كل الجهود والطاقات عبر صيغ مناسبة في التنظيم والاساليب والادوات... وخصوصا تلك التي تستفيد من الانجازات العصرية المدهشة في حقول الاتصالات والمعرفة والتعبئة والاعلام.
اما مصدر الامل الدائم ففي استعدادات وتضحيات اللبنانيين انفسهم ممن قدموا نماذج مدهشة ورائعة في الابداع والمبادرة والتضحية والمقاومة والتعلق بالحرية.
لسنا بخير في نهاية هذه السنة فهل سنكون في حال افضل، ولو جزئيا، في نهاية السنة المقبلة؟!.
* كاتب وسياسي لبناني