التأمل في النتائج السياسية التي أرستها الحرب الأخيرة في غزة، وقراءة تأثيرها في السلطات والشعوب العربية، يضعاننا أمام مجموعة من التحولات التي حدثت في الوعي الشعبي العربي، في مقابل ثبات وعي سلطات ما بعد الربيع على الوعي السلطوي نفسه الذي ثارت عليه. حكمت سلطات ما قبل الربيع العربي بفعل أمرين اثنين: دعم الخارج وقمع الداخل. وإن كانت السلطات تساوت في ما بينها بما يخص قمع الداخل، فإنها اختلفت قليلاً في شكل اعتمادها على الخارج وتوظيفه لضبط الداخل، وخاصة في ما يتعلق بالموقف من إسرائيل، الأمر الذي يجعلنا نرصد موقفين اثنين: الممانع والمعتدل. اعتمد الموقف الممانع على استخدام شعار «لا صوت يعلو على صوت المعركة» لضبط الداخل، بانياً شبكة علاقات خارجية مع قوى المقاومة تسوّق لموقفه هذا الذي أكسبه شرعية داخلية ما، جعلت الشعوب تغض النظر عن حقوقها الداخلية زمناً طويلاً، مقتنعة تارة، وراضخة بحكم القوة والعنف تارة أخرى. في حين اعتمد الموقف المعتدل على دعم خارجي كلي، عبر الاندراج في المشروع الغربي/ الإسرائيلي والاعتماد كلياً على تغطية خارجية لا سند لها في الداخل، لهذا كان سقوط النظامين التونسي والمصري أكثر سهولة من سقوط أنظمة أخرى «ممانعة» في اليمن وليبيا وسوريا، لأن عملية الإسقاط في هذه الدول كانت تصطدم بكتل اجتماعية داخلية لا تزال تؤمن بأن هذه النظم ممانعة، الأمر الذي جعل عملية الإسقاط معقدة. ولنا أن نلاحظ هنا أنه كلما كان النظام أشد استخداماً لخطاب الممانعة، كانت عملية إسقاطه أعثر وأعقد، لتشابكه مع قوى مقاومة تقف إلى صفه وقوى اجتماعية لا تزال ترى فيه ما تراه، والنظام السوري هو النموذج الأكثر تعبيراً عن هذه الحالة.حاولت سلطات ما بعد الربيع العربي (تونس ومصر خصوصاً)، اللعب على موضوع الممانعة بطريقة لا تخلو في الجوهر من سياسات النظم السابقة، سعياً منها لحصد شعبية زائفة توظفها في معركة جديدة لتدجين الشعب الثائر وإعادته إلى الحظيرة، حيث عملت سلطة محمد مرسي برعاية أميركية/ قطرية/ تركية، وبتسويق حركة «حماس» (التي كانت تجيّر سابقاً انتصاراتها لصالح النظام السوري)، على تجيير انتصار غزة الأخير لصالح مرسي ليستخدمه في حصد تقدم في الداخل، تجلى في «الإعلان الدستوري الذي يمكن اعتباره أول سياسة تهدف إلى احتواء الداخل بدلالة الخارج أو الممانعة. ومن جانب آخر، استمرت نظم الممانعة التقليدية (سوريا وإيران) في استثمار انتصار غزة، رغم انشقاق «حماس» عنهما، بهدف صرف الأنظار عما يحصل في سوريا. إلا أن الرياح لم تجر بمشيئة السلطات العربية الوليدة والقديمة، بسبب حدوث تغير وتطور هائلين في وعي الشعوب العربية، كثمرة لتاريخ طويل من القمع أزهر في إطاحة الاستبداد وأثمر في التصميم على بناء الدولة.
الوعي هذا، تجلى بتحركات الشعوب العربية ضد أنظمتها التي تسعى إلى المتاجرة بالقضية مجدداً، حيث أدركت الجماهير المصرية أن مرسي يريد أن يحصد ثمن «نصره» في غزة ليعيد بناء ديكتاتورية الداخل على أسس جديدة، فعاد إلى الميدان، لنكون أمام معادلة جديدة تفرضها الشعوب، تتجلى بمحاربة الاستبداد وإسرائيل معاً؛ إذ لا يمكن بعد اليوم لمن يبلو بلاءً حسناً في محاربة إسرائيل أن يحصد الثمن في الداخل، إلا بمقدار ما يقدم لهذا الداخل من متطلبات الداخل نفسه: الحرية والديموقراطية وعدالة توزيع الثروة وغيرها، ضمن دولة على مسافة واحدة من كل مكوناتها.
ويمكن ملاحظة الوعي نفسه عند الشعب السوري، الذي رأى في معركة غزة محاولة لثني الأنظار عن معركته لإسقاط الاستبداد، لكنه بارك المعركة ضد العدو الإسرائيلي من جهة، ورفض استخدامها للتعتيم على قضيته من جهة ثانية، لنكون أمام موقف شعبي جديد، يرفض تأجيل معركة لصالح معركة أخرى، وخاصة بعد انكشاف زيف ممانعة النظام السوري. كذلك الأمر، فإن شيئاً من هذا القبيل بدأ يصل إلى قوى المقاومة ذاتها، بمعنى أنه لم يعد بإمكان هذه القوى أن تحصد نتاج محاربتها إسرائيل في الداخل؛ فحكم «حماس» الإسلامي في غزة سيكسر تحت وطأة هذه المعادلة عاجلاً أو آجلاً، وكذلك سياسة حزب الله في الداخل اللبناني، وهي سياسة بدأت تتحول عموماً باتجاه الحوار والتوافق مع الشركاء لبناء مقاومة للجميع، أو رؤية دفاعية لحماية لبنان، وذلك تحت وطأة التحولات الأخيرة ونضج وعي الشعوب، رغم أن موقفها مما يحصل في سوريا لا يزال محكوماً بمعادلات ستنعكس عليها سلباً كلما تأخرت في الخروج منها.
إن تأمل سلطات ما بعد الربيع في العمق سيعطينا فكرة عن صعوبة المعركة القائمة الآن لاستكمال الربيع حقاً، والتي بدأت تتجلى بين قوى وأحزاب ذات بنية شمولية لها رؤية السلطة التي ثارت عليها، رغم بقائها في المعارضة طوال عقود سابقة، وبين قوى جديدة ولدت من رحم الربيع تجعل من الديموقراطية أسها الأساس. وإذا كان إسقاط الاستبداد قد تم، وهو الأسهل رغم الثمن الباهظ الذي دفع، فإن عملية البناء قد بدأت الآن وهي الأصعب، وهذه لا يمكن أن تبنى بأحزاب شمولية لها جذر السلطات الراحلة نفسه ولو حملت لافتة المعارضة.
خلاصة ما أثبتته معركة غزة الأخيرة، وما حدث بعدها في الدواخل العربية الأخيرة يتمثل بثلاثة أمور: أولها، الاستبداد الديني والسياسي واحد، ولا مكان لأي منهما في الدواخل العربية. وثانيها، الاستبداد والاحتلال صنوان، كلاهما يعرقل التطور والتقدم، وليس بإمكان معركة ضد أي منهما أن تؤجل بدلالة الأخرى، مع ميل يبدو واضحاً لبناء الداخل المنهك بما يتيح المواجهة مع المحتل، الآن ولاحقاً. وثالثها، ليس بإمكان الخارج أن يحمي سلطة بعد اليوم، وبالتالي انكسار معادلة الاستقواء بالخارج لضبط الداخل، وما يحدث في الميادين المصرية مؤشر على ذلك، فالرضى الأميركي لم يشفع لمرسي ولا للنهضة التونسية، فكلاهما يواجه الشارع الآن، وكلاهما يستخدم أدوات السلطات السابقة في محاربة الشارع!
* شاعر وكاتب سوري