الأب يوسف مونّس*«النعمة معكم والسلام» يقول بولس الرسول في بداية بعض رسائله. وكأنّه يردّد نداء الإنجيل في متى 5/9: «طوبى للساعين إلى السلام فإنّهم أبناء الله يدعون».
هذا هو خبزنا الذي نزل من السماء: السلام. بنوتنا لله مرتكزة على هذا السلام الذي نسعى إليه ونعيش فيه براً وقداسة أمام الله والناس. لأنّه تجسد لأجل خلاصنا بعد أن ذهبنا بعيداً عن حبه، ولم نستطع الرجوع اليه بالرغم من إرساله لنا الأنبياء والأصفياء والرسل فكانوا صوتاً صارخاً في برية حياتنا وبربرية مجتمعاتنا حتى أرسل ابنه الينا في آخر الأزمنة لخلاصنا وفدائنا ولعودتنا إلى حبه ورحمته وسلامه.

الميلاد حب فائض سلاماً

ليلة الميلاد هي ليلة هذا الحب الإلهي الفائض خلاصاً وسلاماً وبراً وفرحاً على البشرية. هي مجيء الله إلينا بحبه بعد أن رأى فشلنا في العودة إليه لنخلق فردوساً جديداً وخلاصاً من الموت والخطيئة والحرب المتوحشة بيننا، فيصير كما قال أشعيا: تصب السيوف مناجل ويكون الذئب مع الحمل ويجلس الولد على حجر الأفعى. تزهر الجبال سلاماً وأماناً ويحكم في الأرض بالعدل ولليائسين في الإنصاف. إنّه فرح الغلال في الحصاد والمواسم. لأنّ السلام أساسه في الله لأنّه محبة ونحن قد استودعنا المسيح سلامه «السلام استودعكم وسلامي أعطيكم» (يوحنا 14/27). هذا السلام هو حضوره فينا وبيننا في فقرنا هو صار عمانوئيل، الله معنا. من هنا علينا كما قال قداسة البابا يوحنا بولس الثاني: «إذا شئت السلام فاذهب إلى لقاء الفقراء». الفقراء أخوة يسوع الذي ولد فقيراً في مزود ومات فقيراً عارياً على الصليب. فهل نعطي نحن في حياتنا المثال على ذلك أم نقترف خطيئة البذخ والجخ والتبذير ولا نشعر انّها خطيئة. فتم قول قداسة البابا: «خطيئة هذا العالم انه ما عاد يعرف الخطيئة...».

بالميلاد افرغ الله ذاته

لنأتي إلى الميلاد علينا أن نأتي إِلى هذا الفقر الداخلي. هذا الفقر هو في الفعل «الكينوزي» أي افراغ الذات من الذات كما فعل المسيح هو الذي على صورة الله «أخلى ذاته» كاسراً شرائع العالم من شهوة للمجد والسلطة والمال والجسد فجعل الأرض تنبت عدلاً وسلاماً، والرحمة تتلاقى مع العدل والبر يتعانق مع السلام (مزمور 85/11) فيقضي للشعب بالعدل وللبائسين بالإنصاف. وتزهر معه الأرض براً وسلاماً وفرحاً. «سلام وفرح بالروح القدس» (رومية 14/17) فتولد عندها الرحمة والرقة والمحبة والصبر والإيمان والوداعة والعفاف (غلاطية 5/22) ونسينا انّ العيد ليس ثياباً وسهراً وفحشاً وبذخاً ولا أكلاً وشرباً، نسينا فقراء الله ومساكينه، تعساء الأرض ورعاة التعتير في براري الشوارع وصحارى المدن. القحط والجرب الروحي يعوّض عنه بالموائد الفاحشة والكحول الملعوق لعقاً والسيجار المدخن برائحة كرائحة الزفت الجديد على الطرقات. حتى الشهود والمختارون والمدعوون إلى القداسة والذهد وبذل الذات بالفقر الداخلي ملأتهم مظاهر العالم. هم الذين ليسوا من العالم ومكونهم ليس من هذه الدنيا وهم راحوا ليلتقوا بالوحيد المطلق الأزلي فالتقوا ببابل الشهوات الى المجد الباطل والمظاهر الباطلة واشباع الشهوات والنزوات ونسوا انّ كل شيء باطل. وأضاعوا السلام وصاروا أناساً غلطاً ولم يعودوا شهوداً للمصالحة لأنّ الله صالح بابنه كل الكائنات سواء على الأرض أو في السموات. فهو الذي حقق السلام بدم المسيح على الصليب (كولوسي 1/20). وكان قبلاً حقق المصالحة بين السماء والأرض بمولد الابن الوحيد الذي أعطى مجداً لله في العلا. وعلى الأرض السلام، وفي الناس الفرح. وهو «سرور قلبه الوحيد».

ارتباط الميلاد بالصليب

من هنا هذا الارتباط العميق بين لاهوت الميلاد والصليب والمصالحة والسلام ولاهوت القيامة والفداء والخلاص. لاهوت العري والفقر والغربة و«المتروك» لا مأوى له، لا كساء، لا قبر له، لا رداء، لا حجر له يسند إليه رأسه. لاهوت الغطاس ولاهوت العماد ولاهوت القيامة والانتصار على الخطيئة والموت بالمجد والفرح مشدودة كلها بلحظة واحدة: موت وقيامة.
المسيح قهر الموت بالموت ووهب الحياة للذين في القبور. بذل ذاته مجاناً وحباً فداء عن الآخرين وانتصر على الظلم بالعطاء وعلى البغض بالمحبة، وغلب الشر بالخير (رومية 12/20) هكذا قدم وهو خاضع يقول: لأنّك لم ترضَ بالذبائح والمحرقات فألبسني جسداً وقلت ها أنذا آت لأعمل مشيئتك! قدم إلينا وأقام بيننا ومعنا وصار اسمه عمانوئيل. أخذ ما لنا وأعطانا ما له. أخذ موتنا وأعطانا حياته.

الميلاد قادم إليك

الميلاد قادم إليك فهل أنت ذاهب إِليه؟ أم انك ذاهب إلى مراقص شهواتك ومراتع لذاتك وحسدك وكرهك للآخر. آت اليك بالفرح والسلام والمحبة فهل أنت سائر اليه مع اخوتك الناس بالفرح والسلام والمحبة والتواضع والرقة والرحمة؟ آت بنبع غم وقهر للناس قابل للآخر المفترق وقهر وبغض وحسد لأخوتك أنت تنين ووحش مدّمر لأخوتك بالكراهية وسوء نواياك وسلب صيتهم بالنميمة والازدراء بهم وطردهم من قبلك وحبك وحسدهم واحتقار مواهبهم. فأنت سارق نعمهم.
إذا كانت هذه حالتك فلن تكون في الميلاد! إذاً قم من قبرك وتب واعترف، اغسل قلبك بالندامة والتوبة لتبصر المذود النقي الذي يولد فيه يسوع. وليس عش أفاعي وحيّات سامة تصعق بسمها من يقترب منها. فأنت تنين مخيف ووحش قاتل كوحش الرؤيا كلّ مرة تترصد ابن الانسان لتبتلعه، عندما تلده المرأة، بالبغض والحقد والكراهية والكبرياء والادعاء واغتصاب حق وكرامة وشعور الآخرين والسخرية من مواهبه وهدر صيته.
بالميلاد تحول كل شيء. الليل صار ضياء إلى الأرض نزلت السماء، من أقاصي الكون وراء النجم سار الملوك المجوس حاملين ذهباً ومراً ولباناً آتين ليسجدوا للملك المخلّص إله الفداء. الملائكة في العلاء تصيح المجد لله في العلى وفي الناس الفرح وعلى الأرض رعاة فقراء أتوا مسرعين ليروا الطفل وأمه ملفوفاً بأقمطة موضوعاً في مذود. لم يعرفوا انه هو الله. الله صار معنا عمانوئيل. الله معنا لأن إلى الأبد محبته وهو أمين لوعده.

لله كلّمنا بابنه وصمت

في المسيح كلّمنا الله بابنه عندما أعطانا إياه. بعد أن كلّمنا بصور ورموز كثيرة، «لم يعد لديه ما يقول». قديماً كلّمنا الله بالرموز، بالطبيعة وما فيها بالكون، بالأنبياء كلاماً متفرق الأجزاء، مختلف الأنواع: مرة بالبرق والرعد، مرة بالانهار، ومرة بالجبال والزلازل وعوامل الطبيعة النار، والريح، والتراب، والماء! بالملوك والآلهة والحكام ولسلاطين وأنصاف الآلهة، متواضعاً فقيراً هو الذي له السموات والأرض. هذه الأيام الأخيرة كلّمنا بابنه أفرغ ذاته، «إلهاً متجسداً» وكان الله صار بعد هذا الكلام يقول القديس يوحنا الصليبي «صار أبكم» لم يبقَ لديه شيء ليقوله، نوعاً ما لنا. لأنّ كل ما قاله سابقاً بتصريحات مجتزأة في الأنبياء يقوله الآن بنوع كامل. معطياً إيانا كل شيء في الإبن. فهل نجسّد نحن في حياتنا الميلاد عملاً وسلوكاً وفكراً وحياتاً كي يتجسد الله حقاً فينا. فنكون في الميلاد بفعل وجودي تغييري لإنساننا العنيف أم اننا نغرق بمظاهر المأكل والمشرب والمرقص واللبس وتملّك أشياء العالم وليس امتلاك الله، محبة وسلاماً وفرحاً ونوراً ونقاء؟ فنكون في الامتلاك avoir وليس في الوجود être... لنقلع بعد مرة عنا هذه الأشياء، كما تقلع الحيّة جلدها ولا نغيّر كياننا في لحمنا وعظمنا ودمنا وروحنا لنعيش حقاً الميلاد.
* أمين سر اللجنة الأسقفية لوسائل الإعلام
في مجلس كنائس الشرق الأوسط