ربّما يجب على الرفاق في مصر أن يدقّقوا جيداً في كيفية إدارة الاحتجاج في سليانة التونسية قبل أيام. طبعاً الإضرابات هناك لم تنته بعد، ومن السذاجة بمكان الاعتقاد أنّها ستهدأ قبل أن تعاد بالكامل صياغة العلاقة بين السلطة الطبقية العميلة لقطر وباقي قطاعات المجتمع التونسي. فالمعارضة التونسية المتمثّلة في الجبهة الشعبية والاتحاد العام التونسي للشغل والمسار الاجتماعي الديموقراطي والحزب الجمهوري (هذا الأخير ينتمي إلى يسار الوسط الموسوم بنزعته اليمينية المهادنة للسلطة) حتى وهي تتراجع تكتيكياً للتفاوض مع السلطة تظلّ في موقع متقدم نسبياً. وهي بذلك تقدّم لنا «درساً نموذجياً» في إدارة الصراع على قواعد مغايرة لتلك المعمول بها حالياً. البعض في تونس لم ينظر إلى خطوة التفاوض مع السلطة من هذا المنظار، واعتبرها تراجعاً عن احتضان الاحتجاجات وإذعاناً للنهضة واملاءاتها، وخصوصاً أنّ الوالي الذي قامت الانتفاضة ضدّه لم يعزل كما طالب المحتجون، بل جمّد عمله مؤقّتاً لاحتواء غضب الشارع. لا نعرف بالضبط إذا كان هذا الرأي يمثّل تياراً وازناً داخل الكتلة الجديدة التي عاودت الانتفاض ضدّ حكم «النهضة»، وحتى لو لم يكن كذلك فإنّه يعبّر عن شريحة فعلية داخل اليسار التونسي. شريحة سئمت من فكرة المساومة على الحقوق وتأجيلها بحجّة أنّ انتزاعها بالتفاوض أفضل من انتزاعها باللحم الحي. في الحالتين، هنالك اتفاق على فكرة انتزاع الحقوق، ولو أنّ الخيار الثاني هو الأنسب لشروط المعركة الحالية مع سلطة طبقية لا تفهم إلّا لغة القوة والاحتجاج القاعدي. والأرجح أنّ هذا الخيار هو الذي سيفرض نفسه في النهاية، لأنّ عنجهية «النهضة» وصلفها لم يترك اللخيار الآخر الداعي إلى التفاوض حيّزاً كي يتحرّك فيه. فما إن وصل الطرفان (أي الاتحاد التونسي للشغل كممثل للمعارضة ومواطنو سليانة والحكومة) إلى اتفاق على تجميد الإضراب أو إنهائه بشرط تحقيق المطالب التي رفعها أهالي سليانة (عزل الوالي أحمد الزين المحجوبي المحسوب على حركة «النهضة»، تحقيق تنمية اقتصادية فعلية في المنطقة، إطلاق سراح 14 شاباً اعتقلوا خلال أحداث 26 نيسان المطلبية في العام 2011) حتى انفجرت الأوضاع من جديد، ولكن في قلب تونس هذه المرة لا على أطرافها. ثمّة ما يجب على الإخوان المسلمين أن يفعلوه قبل أن يتحوّلوا إلى العدو الأول للديناميات الاجتماعية التي أطاحت الديكتاتوريات السلالية. لا أقول ذلك دفاعاً عن الإخوان، وإنما من باب إبقاء الصراع ضمن أطر معيّنة تحدّ من انزلاقه إلى القعر الذي نخشاه جميعاً: سياسات الهوية. وهو الأمر الذي تحبّذه تيارات اليمين الديني لا لشيء إلا لأنها لا تمتلك سواه لتقدّمه للناس. حتى الآن لا تزال الكتل الاخرى تمنع الإخوان (حتى لا ننسى السلفيين أيضاً) من فعل ذلك، وتحاول كلّما بادروا إلى شيء من هذا القبيل جرّهم إلى مربع النقاش حول سياسات الدولة وانحيازاتها الاجتماعية. لا يفعل ذلك كلّ من هو في داخل تلك الكتل، وهذا أمر طبيعي نظراً لتنوّع هؤلاء وتحدّرهم من مشارب سياسية وطبقية مختلفة. لكن ما نعلمه حقّاً أنّ النقاش بشأن الانحيازات الاجتماعية من عدمها قد وضع على الطاولة بقوّة، ومن وضعه أصبح في موقع قوّة يمكّنه من إجبار «النهضة» على الخوض في مسائل مماثلة. وهذا بالضبط ما أزعج السّلطة هناك ودفعها إلى الزجّ بميليشياتها في مواجهة الحشد النقابي الكبير الذي اجتمع في مقرّ الاتحاد العام التونسي للشغل احتفاء بذكرى مؤسّسه: المناضل النقابي فرحات حشّاد. بهذا المعنى يمكن اعتبار الاعتداء ذاك من جملة الأمور التي أتت كمحصّلة للإعلاء من شأن القضايا المطلبية والعمّالية في خطاب المعارضة التونسية. يبدو أن «النهضة» وزبانيتها لم يبتلعوا بعد فكرة وجود كتلة شعبية وازنة تعارضهم، وما يزعجهم أكثر من الكتلة نفسها وجود قيادة فعلية لها تعمل على تنظيم احتجاجاتها وتجذيرها أكثر فأكثر. هنالك مشهد حصل في سليانة الأسبوع الماضي ولم يوله الإعلام الاهتمام الكافي. حين يعيد المرء الآن التملّي في وجوه المئات من سكّان سليانة وهم يسيرون على الأقدام باتجاه العاصمة تاركين مدينتهم لواليها المتغطرس، سيسهل عليه فهم المعادلة التي جعلت من هؤلاء دون غيرهم خصوم «النهضة» الأوائل في الأيام القليلة الماضية. لقد نجح الاتحاد العام التونسي للشغل ومعه باقي أطراف المعارضة بإدماج المطالب الاجتماعية لأولئك المهمّشين في صلب الاحتجاج السياسي على حكم «النهضة». لو اقتدوا مثلاً بالنموذج المصري لما كنّا في صدد تناول ثورتهم الاجتماعية القادمة أو التنظير لها. المشهد الذي يظهر فيه أهل سليانة منسابين كالنهر باتجاه العاصمة يقول ذلك، وكذا الإضرابات التي حدثت في القصرين وقفصة وصفاقس وسيدي بوزيد تضامناً مع من تعرّض من مناضلي الاتحاد التونسي للشغل لاعتداءات الموالين لحركة «النهضة». لم يكن التونسيون في حاجة إلى إقناعنا بأن احتجاجهم طبقي بقدر ما هو سياسي. هم يخوضون نقاشات طويلة وتفصيلية حول شكل الدستور الذي سيخرج إلى العلن كما يفعل أشقاؤهم في مصر، لكن حين يعترضون على السلطة وممارساتها، وحين يحتاجون إلى قاعدة اجتماعية تكون سنداً لهم في اعتراضهم، يتركون الدستور وسفسطاته جانباً. فهذا الأخير لا يمثّل شيئاً يذكر بالنسبة إلى تلك القاعدة. أهالي سليانة مثلاً كانوا واضحين في ما يطلبونه من السلطة: التشغيل ثم التشغيل ثم التشغيل. الدستور يضمن لهم طبعاً الحقّ في الحماية من بطش الشرطة وتغوّلها، إلا أنّه لا يقدّم لهم ضمانات واضحة في ما خصّ حقّهم في العمل. وهذا ما لا تريد النخبة المصرية فهمه على ما يبدو. حتى وهي تتعامل بشكل مشرّف اليوم مع الانتفاضة ضدّ حكم الأخوان، لا يظهر من نقاشاتها أنّها تولي لمسألة الحقوق الاقتصادية اهتماماً مماثلاً لذاك الذي توليه لنظيرتها (أي الحقوق) السياسية. سبق أن عقّبت على الانتفاضة الحالية ضد اليمين الاخواني في مصر، وأبديت تأييداً مطلقاً لها، إلا أنّه تأييد مشروط بالوعي الفعلي لماهية حكم الإخوان. في تونس أدركت المعارضة هذه الماهية، ولأنّها فعلت وجد احتجاجها امتدادات واضحة له داخل البيئات الشعبية والمفقرة. ولذلك أيضاً اعترض آخرون من داخل كتلتها عليها عندما أبدت مرونة تجاه السلطة. فالاحتجاج القاعدي إما أن يكون كاملاً أو لا يكون. وفي الحالة التونسية تبدو الحلول الوسطى غير متّسقة مع المزاج العام الذي يطلب المزيد كلّما ووجه بعنف أشدّ. وهذا هو السبب في انتقال الثّقل الاحتجاجي من سليانة إلى سيدي بو زيد والقصرين وصفاقس وقفصة. ذلك أنّ التهميش اللاحق بالأطراف تلك هو نفسه، وكذا التضامن مع من يتعرّض إلى عسف السّلطة. لكن في مصر لا تظهر الصورة بالوضوح ذاته. هنالك بالطبع سلطة تهمّش الجميع، ومعارضة تحاول مواجهتها بالتي هي أحسن. غير أنّ مشكلة هذه المعارضة أنها لم تبذل جهداً يذكر في استدراج قطاعات عريضة كان يمكن أن تكون سنداً حقيقياً لها في مواجهة السّلطة. باستطاعة هؤلاء أن يستفيدوا من تجربة رفاقهم التونسيين في إدماج الأطراف والأرياف في صراعهم ضدّ حركة «النهضة». لاحظوا مثلاً كيف ينحصر نشاط المعارضة المصرية داخل المدن الكبرى فحسب (القاهرة، الإسكندرية، السويس، ...الخ). وهذه مشكلة جديّة يتعيّن عليهم حلّها بدل الإسراف في ذمّ الأرياف و«قابليتها الشديدة لاحتضان الإخوان وإسنادهم». فليركّزوا مثلاً على الصعيد الذي يعدّه الإخوان خزّانهم البشري، وخصوصاً حين يحتاجون إلى أصواته في الانتخابات النيابية والمحلّية، على اعتبار أنّه كتلة تصويتية «مضمونة سلفاً». لماذا لا تصل أصوات المعارضة إلى هناك أو إلى الدلتا مثلاً؟ وهذه الأخيرة أيضاً من المناطق الطرفية المحسوبة على الإخوان. ثمّة ما يجب الاشتغال عليه من الآن لكسب هذه الكتل التي لا تشغلها كثيراً الصراعات السياسية بقدر ما تشغلها أمور أخرى ليست النقاشات حول الإعلان الدستوري الهمايوني من بينها. لو دقّقنا مثلاً في وجوه الجموع التي أتت بها باصات الإخوان المسلمين الأربعاء الماضي لمحاصرة المعتصمين عند قصر الاتحادية والتنكيل بهم لوجدنا بينهم كثيراً من هؤلاء. في مصر يقولون إنّ استقطاب «الجماعة» لهذه الفئات المهمّشة إنّما يتمّ عبر المساعدات الاعاشية (الزيت والسكر والسمنة و...الخ) التي تواظب على تقديمها شبكات الإخوان الاجتماعية. من الغريب أنّ أحداً في المعارضة لم يفكّر حتى الآن في كيفية تفكيك هذه العلاقة وفي الاستفادة إذا أمكن من خبرات الإخوان في صياغتها (لم لا!). نستفيد منهم لهدم الأسس النيوليبرالية التي تقوم عليها العلاقة، لا لتطويرها ونقلها بعد ذلك إلى مؤسّسات معولمة كما يفعل بعض الرأسماليين داخل المعارضة. فحين تريد صياغة برنامج يخاطب المهمّشين والمفقرين ويستقطبهم إلى معركتك ضدّ السّلطة لا ينبغي أن تشعرهم بأنّك تقف بجانب من ينهبهم كلّ يوم ويسرق قوت أبنائهم على مدار الساعة. ربّما لم تحن بعد لحظة الفرز داخل المعارضة، لكنها آتية حتماً بعد الانتهاء من المعركة المشتركة ضدّ الإخوان وهيمنتهم. والى ذلك الحين سيستمرّ مسلسل التلاعب بأولئك البسطاء من جانب الإخوان و«الفلول» وسواهم من التكوينات الطبقية المسيطرة. كان لافتاً مثلاً في مشهد المعركة أمام قصر الاتحادية قبل أيّام سقوط قتلى من الإخوان رغم أنّهم تقريباً كانوا أكثر من مارس العنف ليلتها (عنف وحشي في أقلّ تقدير). سيرجّح البعض طبعاً نظرية «الفلول»، وهذا ممكن، لكن يبقى السؤال عن الآلية التي أتاحت للفلول استخدام أناس سبق للإخوان أيضاً أن استخدموهم قائماً!في سوريا نتكلّم دائماً من موقعنا داخل اليسار عن صراع وقوده الفقر والطائفية السياسية، أمّا في مصر فلا يزال السؤال الطائفي متوارياً قليلاً (بدأ يظهر على نحو مخيف في ردح الإخوان والسلفيين المتواصل دفاعاً عن مرسي والشرعية والشريعة). يبقى الفقر إذاً. فهو هناك صناعة رائجة ومدرّة للربح الوفير (اقرأ: النّهب الكبير). ومن يصنعه ويقتات عليه طرف واحد لا طرفان: الإخوان و«الفلول». لا يوجد تقريباً من يضع السياسات الاقتصادية ويتحكّم فيها إلا هذان الاثنان. والتثوير لن يكون ممكناً في مصر إلّا في مواجهتهما. إذا أمكننا ذلك ولو جزئياً نكون على طريق الثورة الاجتماعية التي بدأت ملامحها في سليانة التونسية. أما إذا لم نفعل فلنكتف حتى إشعار آخر بالحديث عن معاودة الطبقة الوسطى (وهي تضمّ إلى المثقّفين والطلّاب والقضاة والنقابيين «حزب الكنبة» الذي خرج عن صمته أخيراً) انتفاضها ضدّ الفاشية. وهذا أمر يصعب تفسيره على من يحلّل الوضع في مصر من موقع المنحاز إلى الثورة الاجتماعية ودينامياتها القاعدية فحسب. مصر تحتاج إلى تلك الثورة أكثر من غيرها، إلّا أنّها تحتاج أيضاً إلى من يفهم سرّ قيامتها الحالية ضد حكم الإخوان... الفاشي.
*كاتب سوري