يحمل لنا كل يوم، تقريباً، جديداً ما يكشف المزيد من هشاشة الوضع اللبناني. والوضع هذا هش ومفكك لأسباب متعددة. أولها الأسباب الاقتصادية حيث تتسيد الطفيلية والريعية والإقطاعية والحرفية والموسميات الزراعية المفتتة والسياحة غير المنظمة في خطط شاملة... وذلك على حساب ضرورة بناء القطاعات الصناعية والزراعية والسياحية ذات الدور المحوري والوسائل الحديثة، ضمن مفاهيم تنموية عصرية. وقد أدى ذلك الى تعايش أنماط وعلاقات اقتصادية قديمة ومتخلفة في صلب المشهد الاقتصادي، رغم القشرة الحداثوية التي تطفو على السطح، ورغم وجود قطاع مصرفي فعّال يكرس الواقع المذكور من جهة، ويجسد من جهة ثانية دور الوساطة المتنوعة الذي حفّزته «السرية المصرفية» وقلّص من اندفاعته وجموحه الافتقار الى الاستقرار السياسي والأمني.فوق هذه البنية الاقتصادية الهزيلة والهجينة، قامت بنية سياسية واجتماعية «مبندقة» تمتد من القبلي والعشائري والمذهبي والمناطقي... الى صرعات السوبر حداثة، وتظاهرات المثليين وابتذال السلفيين وأصولية بعض العلمانيين، الى قيم الاستهلاك بما في ذلك في حقول «الفن» والسياسة والارتزاق ومخالفة القانون والدستور وسرقة المال العام وسوء استخدام السلطة. وبنية الاقتصاد من حيث هي كذلك، فهي بنية تابعة، وتعزّز التبعية في الوقت عينه. وقد ضاعف من حجم التبعية مبدأ وثقافة يولدهما النظام السياسي، ذو المرتكزات الطائفية والمذهبية، تفاعلاً مع الصراعات الإقليمية وحتى الدولية. وتتداخل وتتأزم هذه، أحياناً، الى مستويات أو درجات قصوى، كما حدث عام 2006 حين استدعت «مصالح» واشنطن وإخفاقاتها في غزو العراق دفع الصهاينة الإسرائيليين الى القيام بعدوان تموز للنيل من خصومها في لبنان وعبره.
ويتضخم واقع التبعية والالتحاق من خلال تعدد وتضخم دور المرجعيات الروحية ـــ السياسية الخارجية. وهي وضعية يفيض فيها عامل الانتماء الديني أو المذهبي أو «القومي» أو «الثوري» عن معدلاته الطبيعية، في الحالات المستقرة والمتوازنة، الى درجة التطرف والمبالغة والابتذال وقلة «الهيبة»!
هنا وهناك يضعف العامل العام لحساب العامل الخاص. ويتقدم الما دون وطني على حساب الانتماء الوطني... وتزدهر الفئويات والنفعية والارتزاق والفساد والاستزلام على حساب منظومة قيم سليمة، مغايرة، يمكن أن تبرز في بنية مختلفة... ونقع كما أسلفنا على نماذج جديدة كل يوم. وهي مشفوعة بكثير من الارتجال والابتذال والنفاق والخفة والاستخفاف بعقول الناس وبالحس السليم.
هنا وهناك لا تعوزنا الأمثلة وإن اختلفت الدرجة وارتفع مستوى الادعاء والوقاحة والمجاهرة بالفئوية والمذهبية والشطارة والاستقواء بالخارج... آخر هذه الأمثلة «قضية» النائب في تيار «المستقبل» السيد عقاب صقر . فمنذ حوالى سنة تتحدث صحف «صديقة» غربية عن دوره في القيام بمهمة ضابط اتصال لتأمين الأموال والأسلحة للمعارضة السورية المقاتلة ضد النظام السوري. وفي حلقة تلفزيونية على شاشة قناة «المستقبل» نفسها وُوجه الرجل من قبل المذيعة بمقتطفات (ومن قبيل نقل الرأي الآخر) مما يُكتب ويُقال عنه في غير إعلام النظام السوري. امتعض عقاب وارتبك وقال: «كلام صحف»!
ومنذ الأسبوع الماضي يسمع اللبنانيون اتصالاته الحيّة والمسجلة (والتي اعترف بأنّها عائدة له وبصوته)، من على الشاشات ويقرأونها في جريدة «الأخبار». ومع ذلك، ورغم غياب صقر منذ أكثر من أربعة عشر شهراً عن لبنان، ورغم علاقته الوثيقة بزعيم تيار المستقبل، ورغم أنّه لا يملك أيّة قدرات خاصة تمكنه من أن يموّل ويسلّح « الثوار»، ورغم أن مهمته تمثل تقاطعاً لوجستياً بين مرجعه السعودي والدور التركي والسيد الأميركي... رغم كل ذلك وسواه، انبرى الأمين العام لـ 14 آذار (رغم أنف سامي الجميل!) الدكتور فارس سعيد بتأكيد أنّ صقر لا يمثل فريق 14 آذار ولا أحد مكوناته في مهمته التي باتت مفضوحة بالصوت وبالمكالمات وبالاعترافات وبالافتخار! قال الدكتور سعيد ذلك، بكل ما يتطلبه القول من ثقة بالنفس وبالمضمون وبالصفة التمثيلية. لقد ذكّرنا بشعارات ثورية قومية من مثل: كل الحقيقة للجماهير! واستعار من بعض «الأمناء العامين» القدرة على الحسم والجزم دون «مراجعة» أو نقاش أو تذمر...
وليس الدكتور فارس سعيد وحيد زمانه في هذا المجال. ثمة سياسيون، وليس بالضرورة من الفئة الأولى أو حتى الخامسة، لا يترددون في التحدث باسم دول وفي التهديد بسيفها وفي الدفاع عن كل سياساتها ومواقفها حتى تلك التي لا تدافع هي نفسها عنها! وقد أتاحت هشاشة الوضع اللبناني والتواء معاييره لهؤلاء تحقيق نجاحات كبيرة وثروات ومشاريع وازنة، كما وفرت لهم عدداً لا بأس به من الأنصار والحرس والمصفقين... والمزعج أن تتفاقم هذه الظاهرة لتصل الى بعض رجال الدين أنفسهم أو الى من يستسهلون استخدام الدين في خدمة أغراضهم ومصالحهم الخاصة. والموضة الآن، التطرف المذهبي! فما نسمعه ونشاهده الآن، بالصورة والصوت، لم نعرفه أو نسمع به حتى في أقسى مراحل الحرب الأهلية. لا يعبأ هؤلاء بما يقع أو سيقع من سوء أو ضرر أو انقسام أو قتل أو مجازر حتى... المهم الصورة وما بعد الصورة من نفوذ وجاه ومال ومناصب!
لقد دفع هذا الأمر، منذ سنوات، بالرئيس سليم الحص الى اعتزال «العمل السياسي» لمصلحة «العمل الوطني». احتج لأنّ رجل السياسة يعمل كل شيء ليصل الى الكرسي وليبقى جالساً هناك الى الأبد! وبطريقة مشابهة، استقال الرئيس حسين الحسيني من المناصب وأدار الظهر لوحولها أو أثمانها... وكان الإمام محمد عبده قد حذر مبكراً، بعد تجربة معقدة، من السياسة واستعاذ بالله منها. الإطلاق، طبعاً، لا يجوز إذا سمت الأهداف ونبلت الوسائل... ودون ذلك، حتماً صعوبات جسام وخصوصاً بعدما ضرب الفساد حتى بعض قوى التغيير تلك التي يصح فيها قول الشاعر العراقي الذي حاول إصلاح مجتمعه: «فلم أصلحه بل أفسدت نفسي!». لا يقلل كل ذلك من أهمية الإنجازات اللبنانية، على العكس إنّه يستحث ورشة تجديد وإصلاح وابتكار وإنقاذ بالاستناد إليها في مضامينها المتعددة: فمتى تبدأ؟!
* كاتب وسياسي لبناني