بسرعة اندلعت حرب غزة، وبسرعة توقفت، وكل طرف تحدث عن النصر والربح، لكنّ الحرب حملت متغيّرات عديدة تتوازى مع التغيّرات الجارية في العالم العربي، وربما تمثل انعكاساً لها بنسبة معيّنة. فباصطفاف حماس إلى جانب ما يُعرف بـ«الربيع العربي» في مصر وتونس وسوريا، دخل قطاع غزة لعبة الصراع بين محور الربيع العربي ومحور المقاومة والممانعة المواجه له. وأعيد رسم الانقسام الفلسطيني في القطاع بصورة جديدة. لم يعد الانقسام بين حركة «فتح» المستسلمة و«حماس» المقاومة. حماس السابقة انتهت في انتمائها البديهي إلى تيارات الإسلام الإخواني في مصر وقطر وتركيا، وها هي تعيش ارتدادات «لا توازنها» بمخاض الاصطفاف الجديد. مخاض الخروج من السابق والدخول في القادم المعبَّر عنه بمواقف خالد مشعل على منابر الدوحة القطرية. ولا تلغي تصريحات مشعل التصعيدية ضد إسرائيل حقيقة الموقف الموضوعية باصطفافه الجديد. بذلك، صار الصراع على أرض غزة بين قوى تنتمي إلى الدول الداعمة لـ«الربيع» المذكور، والقوى المتحالفة مع محور الممانعة. بين محور الغرب بزعامة الولايات المتحدة ومحور الشرق المتمثّل بتحالف روسيا والصين وإيران وحزب الله.
ما قبل الحرب

قبل اندلاع الحرب في غزة، حبس العالم أنفاسه شهوراً لا ينبس ببنت شفة، خشية أن يخطئ فيعيق عودة سيده إلى البيت الأبيض. قيل الكثير من التهويل على استبدال السيد باراك أوباما بسيد أقسى وأشدّ ظلامة إلى البيت الأبيض. كل الدول العظمى والصغرى سخّرت طاقاتها لإعادة أوباما ومنع وصول ميت رومني. ليس المهم مَن وكيف ولماذا وصل مَن وصل. المهم أنّه لم يمضِ على وصوله إلا أيام قليلة حتى دخل العالم في جدل الصراع للتسوية. وليست التسوية أمراً محدداً لملف معيّن، ولساحة محددة، إنما لمختلف الملفات المتشابكة التي تجد أصداءها على أرض الشرق الأوسط، وفي أكثر النقاط التاريخية حماوة، فلسطين، التي تختزل مختلف الملفات. إنّها حالة يفترض أن تظهرها آفاق الصراع، ومآله، ونتائجه.
أكثر المستعجلين على الحرب كان رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو فهو خاسر في تحالفه في الانتخابات الأميركية، وموقعه السياسي مهدد في الانتخابات المقبلة بعد نحو شهرين، بعد عودة خصمه أوباما إلى الرئاسة. وهو بحاجة لإنجاز ورقة تؤهله لخوض المعركة، وتعيد خلط الأوراق وتفتح باب التفاوض معه. فما كادت تمضي أيام معدودة على نتائج الانتخابات الأميركية حتى شنّ نتنياهو هجومه بعقل انفعالي، ديني، تلمودي متصلّب. عاد في حربه إلى سفر التكوين التوراتي الذي ورد فيه أنّ الله أرسل عمود الغيم ليغطي هروب بني إسرائيل من مصر، فاستظلّ اليهود به لخروج آمن.
مفارقة. بعد ألفين وخمسمئة عام، أطلق الكيان الصهيوني التسمية عينها على حرب غزة الجديدة. هذه المرة الغيم يحجب أشياء أخرى، يحجب ما دار في اللقاءات وما يجري في الكواليس وما جرى في غزة عشية زيارة أمير قطر. في ظل الغيمة جرى حديث عن أمر ما. شنّت إسرائيل سحاباً أسود وشنّت طائراتها هجوماً مسبق التخطيط لتغتال القائد العسكري الكبير أحمد الجعبري، لتفتتح الحرب باستشهاده، فهي تعرف أن فعلتها ستلقى الرد من مقاومي غزة، وهذا ما تريده لتبرير هجومها للعالم.
لم يأخذ نتنياهو، على ما يبدو، المستجدات السياسية عقب التغيّرات العربية بعين الاعتبار. انطلق من حيث هجم في الأعوام السابقة من الصراع على خلفية العداء لحماس يوم كانت طليعة المقاومة كبديل من سياسة التفريط الـ«فتحاوية»، فهاجم مواقعها، وقواعد صواريخها «فجر 5»، وقضى على معظمها في اليوم الأول.
غير أنّه كان لنتنياهو ما أراد. ورقة رابحة في الانتخابات المقبلة باغتياله قائداً كبيراً كأحمد الجعبري، وبفرض شروطه على أطراف المقاومة، بحسب ما صدر عن وزير دفاعه إيهودا باراك، وهي شروط، مهما كانت صحتها أو عدمها، يستطيع نتنياهو وفريقه توظيفها في معركته الانتخابية، إضافة إلى عودة التناغم مع الإدارة الأميركية، إذ عاد وصل ما انقطع من خيوط في الانتخابات الأميركية، بعدما جدد الرئيس الأميركي دعمه للكيان الصهيوني، وردّ نتنياهو التحية شاكراً بأحسن منها. لذلك، رأى نتنياهو أن الحرب كانت في مصلحته من حيث تحقيق مبتغاه منها.
على المقلب الفلسطيني، رأت الفصائل الفلسطينية أنّها انتصرت بإحباط الهجوم الإسرائيلي على غزة، وباستمرار القدرة على إطلاق الصواريخ. ومَن تابع لمس أنّه لم تكن حماس، إنما قوى شكّلت الأجنحة العسكرية للمقاومة الفلسطينية كفصائل الجهاد وألوية الناصر وأبو علي مصطفى والأقصى والقدس هي التي عوّضت هذه الخسارة «الحماسية»، واستمرت في دكّ المدن والمستوطنات. ومن هنا أيضاً دخول عامل جديد نتيجة الحرب الحالية وهو أنّ حماس لم تعد وحدها صاحبة الموقف والقرار في غزة، بل ستشاركها فيه بقية الفصائل، وهذا ما ظهر في المؤتمر الصحافي لدى الإعلان عن وقف إطلاق النار، إذ شارك رمضان عبد الله شلّح من الجهاد الإسلامي إلى جانب رئيس المكتب السياسي لحماس خالد مشعل، تعبيراً عن تقاسم السلطة مستقبلاً، إضافةً إلى الحديث عن أهمية تأليف حكومة وحدة وطنية يتكرّس فيها كسر أحادية القرار «الحماسي» في غزة.
كما أنه بقيادة حماس للتفاوض على وقف إطلاق النار يمكن أن يسجل تراجع في موقفها، فهي قبلت اليوم أقل بكثير ممّا رفضته سلطة محمود عباس السابقة في حرب 2008. قبلت أن لا تكون المعابر تحت سيطرتها، وأداء دور الضابط لحركة بقية الفصائل. لكن أبرز ما يمكن أن يتوقف الإنسان عنده، والأكثر مباشرة وتعبيرية عن تطورات الأيام القليلة للحرب، هو ما تواجهه حركة حماس. أدى ذهاب حماس بعيداً في تحالفها مع خصوم محور المقاومة إلى أن تواجه موقفاً مأزوماً وحرجاً في الحرب الحالية. لم تستطع مقاومة العدوان وحدها، ولم تستطع رفض ومقاومة رغبات حلفائها الجدد مصر وقطر وتركيا، وهي خسرت إلى حدّ كبير مصدر دعمها في المحور المقاوم _ سوريا وإيران وحزب الله _ في الوقت الذي تحوّل فيه كل الدعم إلى الفصائل الأخرى من تدريب وتمويل وتسليح.
بدأت حماس تواجه مصيراً مغايراً لموقعها في السنوات الماضية منذ توليها السلطة الفلسطينية، وهي اليوم في موقع شبيه بلعبة الغراب، عندما خرجت من تحالفها السابق واتجهت إلى تحالفها الجديد. كانت مقاومة في الحلف السابق لكنها سلطة في السلطات المستجدة _ الإخوانية الطابع _ كما مصر وتركيا وقطر.
حسابات أخرى تتقدم على الطريق إذا قررت حماس «مشعل» المضيّ في تسوية الثالوث المقدس حمد _ مرسي _ أردوغان، والمؤكد أنّ موقع حماس لن يعود كما كان.
قراءات عديدة توفرها الحرب تتعلق بالقضية الفلسطينية وتعقيداتها الكثيرة، وسوريا، وسلاح إيران النووي، ونشر صواريخ الولايات المتحدة على مقربة من روسيا، ومصالح دول الخليج المتقاطعة مع وقائع الشرق الأوسط وقضاياه المتشابكة. أمور كثيرة كانت مؤجلة حتى الانتهاء من معركة الانتخابات الأميركية، وتعقيدات لم تتح لأول اجتماع في القاهرة أن يحقق أهدافه، فالأمور أعقد من ذلك بكثير.
إنها أمور ملحّة على العالم تفترض أن حرب غزة عجّلت في فتح ملفاتها، فكانت فرصة يفترض أن تكون فتحت فيها في كواليس مفاوضات الحرب بقية الملفات.
* كاتب لبناني