هناك سؤالان لا بد منهما قبل بدء الحديث حول تحديات وفرص الحوار الإسلامي المسيحي... السؤال الأول: ما معنى الحوار الإسلامي ــ المسيحي اليوم؟ السؤال الثاني: هل هذا الحوار هو ضرورة لا بد منها لكلتا الديانتين؟ففيما يخص الأمر الأول فإنّ الحوار هو شأن إنساني معاصر يقوم على إيجاد المناخات المؤاتية للحياة المشتركة بين الجماعات عبر فهم بعضهم البعض، واكتشاف عناصر القواسم المشتركة التي تخوّل كل جهة من أن تتقارب مع الجهة الدينية الأخرى، إذ لا يخفى أن أتباع الأديان ينفرون عن مقاربة أي أمر ما لم يجدوا في دينهم ما يأذن أو يدفع باتجاهه. وهذا يعني أن الحوار الإسلامي ــ المسيحي يوجب القيام بحركة معرفية مزدوجة يقوم ركنها الأول على فهم ومعرفة الآخر كما هو، بل وكما يقدم نفسه، ثم العودة من جديد إلى الديانة التي نلتزمها لنكشف عندها مدى إمكانية التواصل والتكيّف مع مسائل وموضوعات وقيم الديانة التي نعمل على معرفتها. وهذا يعني أن ركيزة الحوار هنا هي ركيزة معرفية تمارس النقد الإيجابي الذي يستجلي الحقائق ويقاربها... وهذا يعني أيضاً أن مفهوم التفاوض المستوجب لاستدرار المنافع الخاصة كما ومفهوم الجدال الذي يقوم على إلحاق الهزيمة بالطرف الآخر هما مفهومان ممنوعان في منطق الحوار. ذلك أن أهدافهما تختلف عن أهدافه من جهة، ونتائجهما هي تختلف عن نتائجه بالضرورة من جهة ثانية... ومن المفيد القول إنّ الأدبيات الإسلامية استخدمت في هذا الشأن التواصلي مع الآخر مصطلح الجدل بالتي هي أحسن وهو مختلف عن الجدل الاعتيادي... إذ الجدل بالتي هي أحسن يعمل على تفهُّم الآخر ويسعى لإحداث تغيير في العلاقة معه مفادها حسب النص القرآني: {ادعُ إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} (1). {فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليٌّ حميم} (2). والوليّ هو الصاحب القريب من النفس والروح. فتقريب العدو إلى دائرة الولاية الحميمية تضعنا أمام مشهد الحكم عليه بالإخاء الإنساني الموازي للإخاء الديني. هذا في ما يخص السؤال الأول، أما بالنسبة للأمر المتعلق بضرورة الحوار في السؤال الثاني لدى كل دين من الديانتين فإنها تنبع من الاعتبارات التالية:
أولاً: إن الواقع الحضاري والتمدد البشري لأصحاب الأديان أوجد تداخلات كسرت الحدود الجغرافية، بل والمصالح الخاصة لدى كل جماعة، مما يعني أن الوصول إلى التكيُّف بالعيش المشترك صار ضرورة حياتية لازمة لا يمكن تجاهلها، والأمور اليوم تثبت أن الحوار هو السبيل الأنجع إنْ لم يكن الوحيد لمقاربة مشكلة الإسلاموفوبيا في الغرب، ومشكلة الأقليات الدينية في بلدان العالم الإسلامي والعربي. ثانياً: إن واقع الآيات القرآنية فيتح على ضرورة فهم ومعرفة متطلبات أتباع الديانة المسيحية، وهذا ما يساعد عليه الكثير من الروايات النبوية، بل أكاد أقطع أن معرفة المسيحية اليوم باتت أمراً مطلوباً لمعرفة وفهم الكثير من نصوص الآيات القرآنية... وهذا يعني أن سياقات النص القرآني تفتح على الآخر مداخل تجعل منه شرطاً موضوعياً لاكتشاف حيثيات عند الذات الإسلامية نفسها...
ثالثاً: إن العمق الحضاري للكنائس الشرقية ومرجعيات الأرثوذكسية كما وثورة المناهج المعرفية في التعرف على النص التي فتحتها البروتستانتية، كما وما شهدته مقررات المجمع الفاتيكاني الثاني والعواصف التي تمر عليه اليوم، بتنا نرى فيها واقعاً جديداً أو مستجداً في تحديد معنى ومستوى القرابة (من القريب) مع الإسلام والمسلمين وقضاياهم...
وبهذا المعنى فإن الحوار الإسلامي ــ المسيحي وإنْ كان أمراً هاماً للغاية، إلا أنه وبحقيقة الأمر لم يصل ليكون ضرورة حضارية لا غنى عنها... علماً أن حصوله يعني إعطاء هذه الحضارة سمة الغنى والرقيّ... لكن والحق يقال: إن مثل هذا الحوار قد يصبح ضرورة ملحة فيما لو فهمنا قضايانا المشتركة على نحو إيجابي سليم. مثلاً أنا لا أرى أن هذا الحوار بغاياته الحيوية هو اليوم حاجة ضرورية على مستوى المسلمين والمسيحية الغربية ولأسباب تتعلق بواقع الجماعات المسيحية الغربية نفسها... وإنْ كنت أعتقد أن الحوار المشرقي بين الديانتين هو أمر واجب لما له من تأثير في تجنّب الكثير من المشاكل الطائفية التي أرهقت مغزى المواطنَة وقيم الدين من جهة، كما ولما له من انعكاس إيجابي عميق في تجسيد علاقة واضحة مع المسيحية الغربية وعلى أسس حضارية وحراك حواري حضاري فاعل.
فمما لا شك فيه أن العالم الإسلامي بشعوبه الإسلامية والمسيحية لن يستطيع الدخول في حوار حضاري مع الغرب ما لم ينطلق إلى هذا الحوار من خلفية حضارية إسلامية ــ مسيحية جامعة وقادرة... إذ قدرة الحضارة في هذا العالم الإسلامي والعربي على صهر العناصر الإيجابية لدى الديانتين وجماعاتهما في مشروع حضاري متفاعل مع قضاياه الحياتية والمصيرية دون الانكفاء إلى أزمات من مثل الأقليات والحريات والمواطنة وغيرها على أساس الفرز الطائفي. إن مثل هذا التطور في صياغة المشروع قادر على معالجة الكثير من مشكلات المعرفة الحضارية بين الشرق والغرب ومشكلات الحياة المجتمعية من مثل مشكلة المهاجرين المسلمين، وثقافة الأقلوية والأكثرية والاندماج الوطني في الغرب، بل ولعلها تكون باباً لردم أزمة الخوف والثقة المتبادلة بين المجتمع المسيحي والجماعات الإسلامية في الغرب... وما الإساءة المتكررة في الغرب للقيم والمقدسات الإسلامية إلا نتيجة لهذه الأزمة من الثقة والخوف المتبادل بين الطرفين. وهذا لا يعني بطبيعة الحال أن لا تحصل لقاءات وأعمال ومشاريع مشتركة بين جماعات إسلامية ــ مسيحية في الغرب، ونظيرتها في الشرق، خاصة تلك المرتبطة بمؤسسات المجتمع الأهلي وبعض مؤسسات المجتمع المدني، بل هو أمر ضروري شرط أن يخلو من أي خلفية استخباراتية أو توظيفية لمصالح دول وحكومات خاصة. ثم إن من المفيد بل من الضروري عند الحديث حول نظرتنا كمسلمين إلى المسيحية وإلى الحوار مع أهل المسيحية أن نشير إلى جملة حقائق:
الحقيقة الأولى: إن الإسلام رسالة إلهية إلى الناس جميعاً وهو بهذا المعنى يعترف بإنسانية الإنسان وحقه في سلوك درب الهداية الإلهية الروحية منها والزمنية، بحيث يؤمّن الإسلام البناء الروحي الإيماني للناس ويضمن لهم توفير المناخات المجتمعية الصالحة لهذا التكامل الإيماني، وتظهر أبعاد هذه المناخات المجتمعية في الشريعة الإسلامية ومرونة القيم التي تنطلق منها لتحقيق الأمن الاجتماعي والنفسي، والألفة بين الناس رغم تعدد انتماءاتهم. وبدون هذه الخلفية والغاية الإيمانية لا معنى لأحكام الشريعة، إذ حتى العبادة إنما تكمن قداستها في كونها الطريق الذي يوصل إلى روح الإيمان... والنظرة الإيمانية في الإسلام تقوم على أسس ثلاثة:
الأساس الأول: وحدة إله الخلق والعالم ومدبّر أمرهم {إنّما إلهكم إلهٌ واحد} (3).
الأساس الثاني: وحدة الحقيقة الإنسانية رغم تنوعها وتعدد انتماءات الناس وصنوفهم.
{يا أيها الناس اتّقوا ربّكم الذي خَلَقَكُم من نفسٍ واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالاً كثيراً ونساء} (4).
الأساس الثالث: تحويل المشكلة التاريخية للبشر، ألا وهي الاختلاف إلى فرصة تكامل على قاعدة إعمار البلاد ورعاية شؤون العباد. {يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم} (5).
والتعارف هنا لا بد أن يكون على ضوء معيار التقوى الذي يعني رعاية الحضور الإلهي في الخلائق، فلا نفسد الأرض ولا نفسد الحياة... ومن نفس هذه الزاوية نشأ مفهوم الجهاد كحقيقة إيمانية في تربية النفس، وكحقيقة اجتماعية في مقاومة المفسدين في الأرض بغية تحقيق السلام والمسرّة في الأنفس وبين أهل الأرض... إذ بدون غاية السلام لا معنى للجهاد، ذلك أن الحديث عن رسول الله محمد (ص) يقول: «الخلق كلّهم عيالُ الله وأحبّهم إليه أنفعهم لعياله»...
الحقيقة الثانية: إن الاعتقاد والإيمان أمران قد يقصرهما البعض على الجانب اللاهوتي ويتناسون بعد الناسوت في الإيمان والمعتقد... فإذا كان الدين أيّ دين معنياً بفهم اللاهوت وعيشه الفردي بالإيمان به، فإن كل دين أيضاً معنيّ برعاية الأبعاد الزمنية والناسوتية في رعاية الناس بفقرهم وحاجاتهم وآلامهم، بل وبأفراحهم وحبهم وأعيادهم... وهذا ما يحضر في الإسلام، بحيث إن فهم الإسلام لمعنى السياسة إنما يقوم على فكرة سيادة التكافل والعدالة الاجتماعية ورفض بل ومقاومة الظلم والظالمين، وهذا الجانب الزمني هو عين الحقيقة الدينية التي يعيشها أهل اللاهوت بأرواحهم... من هنا فإن الجماعة المسلمة ترى فرص اللقاء مفتوحة مع كل فئة من الناس تحب خلق الله، وتناضل لنشر قيم التكامل والعدالة ورفع الظلم في الحياة.
كما ومن هنا فإن لاهوت الحوار عند المسلمين يعرض على لاهوت الحوار المسيحي الانطلاق من ناسوت المسيح صاحب المواقف الكبيرة في هيكل السماسرة والظَلَمة وعَبَدة الذات... مسيح الشفاء للمرضى والمواسي للمعوزين والمقهورين، ومثل هذا المسيح الناسوتي موجود بنفس قدر المسيح اللاهوتي المعبَّر عنه بالخلاص، فلمَ لا نوقف الجدل في مَن يخلصون لنتباحث في مَن مِن حقّه أن يعيش بكرامة ورغد عيش... وما هي القيم الإنسانية التي بثّتها الأديان في روح الحياة بين الناس... بمعنى آخر لمَ لا يحتفظ كل طرفٍ بإيمانياته اللاهوتية الغيبية لنفسه، ونرى ما هي تأثيرات هذا الإيمان على عالم الإنسان وقيم العلاقات بين الناس، وفي ذلك مخزون كبير لدى كل الديانتين كقيم الرحمة والمحبة والأثرة وبذل الذات والجهد في سبيل خدمة الناس كسبيل للخدمة الإلهية مما يوصلنا إلى شراكة إيمانية، ومن المعلوم أن مثل هذه الشراكة كامنة في عمق مفهومَي الأخوّة الإيمانية عند المسلمين، والقرابة الإنسانية عند المسيحية. وهنا نلفت أن الخطوة الحوارية نحو هذا السبيل هي الطريق الأفضل لتكوين قناعات قيم إيمانية مشتركة قد تصلح لتكون قاعدة اعتماد لقيم أخلاق كونية جامعة بين الناس على أساس غايات المقررات الإيمانية وثمارها الإيجابية الفاعلة في الحراك التكاملي البنّاء للناس جماعات وشعوباً وأمماً تتلاقى رغم اختلافاتها على مفادات التقوى، وهذا الأمر تساعد عليه كثيراً الصورة المرتكزة في الوجدان الإسلامي حول المسيح المقرونة بمعاني المحبة والتقشف والزهد والتخلي عن شؤون الدنيا والانصراف نحو الآخرة. كما وتساعد عليه الصورة الخاصة بأهل المسيحية من أن بعضهم أقرب الناس للذين آمنوا وأنهم تفيض أعينهم بالدمع لما عرفوا من الحق، وأنهم لا يستكبرون في الغالب عن عبادة الله.
الحقيقة الثالثة: إن الإسلام ليس ديانة مفصولة أوقعت قطيعة مع باقي الأديان، بل هو دين النبوّات التي استكملت حركتها منذ بدء تاريخ البشرية ببعثة نبي الرحمة والهدى والعلم والتزكية رسول الله محمد (ص)، وإنه دين يؤمن بالأنبياء ولا يفرّق بين أحدٍ منهم، وإن كان يحدد أفضل الأنباء من أولي العزم وهم نوح الذي عدّ التأسيس الثاني بعد آدم لتاريخ المخلوقات الحية، وإبراهيم مفصل حركة النبوّات أو بدقة أكثر الرسالات العالمية الكبرى الجامعة والتي اختمت برسالة النبي محمد (ص)... وموسى قائد رسالة المستضعفين وحامي قواعدهم في وجه عُتاة الأرض من الفراعنة المتألّهين، وعيسى كلمة الله وقول الحق الناشر لألوية المحبة والتوق للقاء الله سبحانه. وآخرهم بل خاتمهم النبي محمد (ص) الذي جمع غايات الأنبياء فكان المطمح فيها ليكون المسّ بأيّ نبيّ هو مسّ بمحمد، كما أن المسّ به (ص) هو مسّ بكل نبي ورسول. وهذا الفهم الإيماني يسمح ببناء جبهة إيمان كبرى تهدف لإقامة الصلاح في مكامن وأطر الحياة في انتظامات البشر وقيمهم الأخلاقية والروحية والمجتمعية العامة... وهي المساحة المفتوحة لكل حوار ديني مدعوّ إليه أهل الإسلام والمسيحية. وحول هذا ما ورد في قوله سبحانه: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين مَن آمن بالله واليوم الآخر وعملَ صالحاً فلهم أجرهم عند ربّهم ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون} (6).
فالأصول الجامعة لأهل الأديان هي:
أ ـ الإيمان بالله وأنه مصدر كل حقيقة وقيمة.
ب ـ الإيمان باليوم الآخر وأن المآل هو العود إلى الله ورفع كل تباين بمثل هذه العودة إلى الله المعبَّر عنه باليوم الآخر.
ج ـ العمل الصالح الذي يعد التجلي الفعلي للإيمان، وإيمان ومعرفة بلا عمل صالح، يعني لاهوتاً بل تجليّاً بالناسوت، بحيث يصير الزمن والحياة والعلاقة بين الناس مظهر المحبة والرحمة الإلهية. بدون مثل هذا التجلي العملي لا قيمة للإيمان، بل وبدون هذا المجموع الإيماني والعملي لا سبيل لتحصيل نتائج حركة الرسالات في حياة أهل الإيمان التي هي:
د ـ أن يكون أجرهم عند ربهم فلا يحتاجون لأحد.
هـ ـ أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون فلا مآسي نفسية أو قلق أو بلاء اجتماعي وحياتي يطيح بهم.
الحقيقة الرابعة: إن الأقرب للذين آمنوا ــ أي للمسلمين ــ من بين كل أهل الكتاب هم أتباع المسيح عيسى ابن مريم. ففي حق المسيح جاءت التعابير المفتاحية للقداسة الإيمانية في الأدبيات الإسلامية من مثل:
{إني عبدُ الله آتاني الكتاب وجعلني نبيّا * وجعلني مباركاً أين ما كنت...} (7).
{إذ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله يبشّركِ بكلمةٍ منه اسمه المسيح عيسى بن مريم وجيهاً في الدينا والآخرة ومن المقرّبين} (8).
{ويعلّمه الكتاب والحكمةَ والتوراةَ والإنجيلَ * ورسولاً إلى بني إسرائيل أنّي قد جئتكم بآيةٍ من ربكم أنّي أخلُقُ لكم من الطينِ كهيئةِ الطير فأنفخُ فيه فيكون طيراً بإذن الله وأُبرئُ الأكمَهَ والأبرص وأُحيي الموتى بإذن الله وأُنبّئكم بما تأكلون وما تدّخرون في بيوتكم إنّ في ذلك لآيةً لكم إنْ كنتم مؤمنين} (9).
{والسلامُ عليَّ يوم ولدتُ ويوم أموتُ ويوم أُبعَثُ حيّا * ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي فيه يمتَرون} (10).
ففضلاً عن الولادة المعجزة، والأفعال المعجزة فإن هناك المكانة العليا:
1 ـ نبوّة وإنباءٌ عن الله وحول ما يقع بين الناس.
2 ـ علم جامع للكتاب والحكمة والرسالات العظمى.
3 ـ القيام بما قام به إبراهيم بشكل استثنائي خلق الطير بإذن الله.
4 ـ إبراءُ المرضى في أجسادهم والنفوس وهي تعني ولاية الروح والجسد.
5 ـ إنه كلمة الله وروحه التي أفاض بها على مريم (ع).
6 ـ رفعةُ الشأن في الدنيا والآخرة.
7 ـ إنه من المقرّبين وهي من الكلمات التي تعني القرب الأقرب من الله.
أما بخصوص أتباعه فهم:
1 ـ الذين تجمعنا معهم قناعةُ قداسة المسيح وأمه مريم.
2 ـ الإيمان بالله ومحبة عباده.
3 ـ بناؤهم النفسي القائم على التواصل.
لذا، فإن قواعد الإيمان التي يرتكزون عليها والطبيعة النفسية الناتجة من إيمانهم التي يتحلون بها تدفعهم لبرّهم والتواصل معهم وأن لا نحاورهم أو نجادلهم إلا بالتي هي أحسن.
{ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظَلَموا منهم وقولوا آمنّا بالذي أُنزلَ إلينا وأُنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون} (11).
فالقاعدة النفسية لهذا الحوار هو التسليم لأصل كل إيمان، وهو الإيمان بالله والاعتراف بخصوصية كل جماعة بإيمانها، إذ لكلٍ جعلنا شرعةً ومنهاجاً، والتفاعل مع هذه الخصوصيات يكون بالتسابق بين أصحابها لفعل الخيرات، ولا يستثنى من مثل هذا الحوار الإيجابي إلا الذين ظلموا، والظلم قد يكون بالافتراء وعدم احترام القناعات الإيمانية أو المسّ بالمقدسات، أو التعدي على حقوق الناس وأملاكهم وأراضيهم وأعراضهم، ومن ذلك القضية الإسلامية _ المسيحية العربية وهي الدفاع عن أرض فلسطين المغتصبة، بل وكل حق وأرض وشعب يُعتدى عليهم.
الحقيقة الخامسة: وهنا يبرز أخطر صنوف التحديات الحاصلة في الحوار بين الجماعات الإيمانية، وهي غلبة مصالح المؤسسة الطائفية أو المؤسسة الدينية على روح التسليم الإيماني وتحويل عناوين التواصل بين جماعات الإيمان إلى قواعد نزاع واحتراب... وبهذا المورد نستحضر قوله سبحانه وتعالى: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمةٍ سواء بيننا وبينكم إلا نعبدَ إلا الله ولا نُشرك به شيئاً ولا يتّخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله} (12).
فقد تصل المؤسسة الدينية أو الطائفية إلى مرجعية تنافس في قداستها حكم الله، فتقع في عقدة تضخيم الذات كبديل عن حاكمية الله وربوبيته تحكم على كل مخالف أو موافق بمقدار المشابهة بالذات أو عدمه، وفي هذا ظلم عظيم لا يدفعه إلا التأكيد على الدور النقدي للإيمان. فنحن هنا لا نتحدث عن إلغاءٍ للمؤسسة ودورها، بل ما نشير إليه هو ضرورة أن يأخذ الإيمان بالله دوراً فاصلاً في مراجعة المقررات الاعتقادية، خاصة منها تلك التي تختزل الرحمة الإلهية والخلاص بالجماعة الخاصة دون غيرها من بقية الخلائق... وحدها هذه القراءة الإيمانية التي يمكن أن تستفيد من الحوار النقدي التكاملي بين الأديان، هي التي يمكن أن توفّر كسر الأغلال العقائدية الضيقة... بل ويمكنها استعادة الحيوية التواصلية لبعض القيم التي كانت في أول نشوئها تحمل طابع المصالحة والتكافل المعنوي والعملي، ثم انزاحت عن معناها من مثل مصطلح «أهل الذمّة» الذي كان يعني أن بعض الذين ليسوا من ديننا حفظ معنويّتهم ووجودهم أمانة في أعناقنا وذممنا... إلا أن التجربة التاريخية لسلطة المؤسسات حوّلت المفهوم _ القيمة إلى جماعة مغايرة ومستفزّة.
الحقيقة السادسة: إن الإسلام التاريخي ليس هو نفسه الإسلام النبوي أو القرآني... فالإسلام التاريخي أخذ نمطية الرسالة المنغلقة على مصالح الذات، بل وأحياناً أخذ دوراً مغايراً للإسلام النبوي، وهذا شأن الكثير، بل أكاد أقول كل تجربة دينية ورسالية...
وأذكر هنا هذا التفريق لأشير إلى أن الصحة الإسلامية المعاصرة والتي تبلورت عام 1979 م. قامت على العمل لاستعادة حيوية الإسلام النبوي، وتكاد أن لا تستحضر في حراكها الاجتهادي إلا الفترة النبوية التي امتدت إلى شهادة الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب (ع)، وهو الأمر الذي فتح معها منافذ تجاوز الماضي المرير وفتح صفحات جديدة من الحوار الحضاري والديني مع المذاهب الدينية الإسلامية والمسيحية بشكل خاص. ولعلّ النقيض الوحيد لهذه الصحوة المعاصرة إنما يكمن بالاتجاه التكفيري الذي ما زال يتصنّم عند التاريخ الصدامي، ويعمل على تحويل الحاضر والمستقبل إلى صورة مشابهة لذاك الماضي السالف.
وسيادة هذه الفرصة ينبغي أن تفهمه الجماعات المسلحة كفرصة ثمينة للتصالح مع إسلام عقلاني اجتهادي حيوي وحيّ.
الهوامش
(1) سورة النحل 16، آية 125.
(2) سورة فصّلت، 41 آية 34.
(3) سورة الكهف، 18 آية 110،
(4) سورة النساء، 4 آية 1.
(5) سورة الحجرات، 49، آية 13.
(6) سورة البقرة 2، آية 62.
(7) سورة مريم 19، آية 30 و31.
(8) سورة آل عمران 3، آية 45.
(9) سورة آل عمران 3، آية 48 ـ 49.
(10) سورة مريم 19، آية 33 ـ 34.
(11) سورة العنكبوت 29، آية 46.
(12) سورة آل عمران 3، آية 64.
* مدير «معهد المعارف الحكمية للدراسات
الدينية والفلسفية»، والنصّ فصل من كتاب يصدر هذه الأيّام بعنوان «في مسالك الحوار الاسلامي المسيحي» («المكتبة البولسيّة»، جونيه)، ضمن سلسلة «المسيحيّة والاسلام في الحوار والتعاون» بإشراف «مركز الأبحاث في الحوار المسيحي الإسلامي» (حريصا/ لبنان)