تبدو الكتابات التي تقارب المقاومة في العالم العربي حالياً «إيديولوجية» أكثر منها مقاربةً معرفية تبحث في إشكاليات المسألة التي أضحت في مرمى سهام كثيرة، منذ اندلاع الانتفاضة ضد النظام السوري المستبد «الممانع»، الذي يصار تحت ستار رجمه إلى شيطنة فكرة المقاومة، لرمي الطفل مع سلته في نهر الانتفاضات الجارف. يحدث ذلك في محاولة لتركيب أجندة خارجية تقف على الضد من أحلام الجماهير المنتفضة، بغية «إقناعها» بأن المقاومة ليست إلا رديفاً للاستبداد، وبالتالي لا بد من تشييعها إلى مثواها الأخير!
إن تداخل الاستبداد مع المقاومة في صيغة معقدة تتعرض للتهتك في لحظة معقدة أيضاً، تتجلى بأن يقتل ويسجن ويتعرض للإذلال مؤيدو المقاومة السوريين على يد المستبد الذي تقف فصائل المقاومة في صفه، يعطي فكرة عن صيغة هذا التعقيد، الذي يسمح لأصحاب الأجندة تلك باللعب، لمحاولة رجم المقاومة التي لم تنجح بعض فصائلها في تحييد نفسها عن الاستبداد، فباتت تخسر شعبيتها تحت وطأة الهجوم عليها، وبقائها في المركب الخاسر.
بعيداً عن الأدلجة التي تقول الشيء بغية إمرار شيء آخر تماماً، سنحاول ترصد مجموعة من المعلومات والحقائق وإيضاحها لفصلها عن عملية الأدلجة التي يراد إمرارها لضرب المقاومة تحت ستار الانتفاضات العربية، والسورية تحديداً.
أن يكون النظام السوري مستبداً وفاشياً، وكذلك الإيراني فهذا لا يعني أنهما لم يكونا ممراً للسلاح إلى المقاومة بكافة أطيافها، لتشكيل توازن رعب بوجه عدو المنطقة الأول (إسرائيل)، رغم أنّ الدعم هنا ليس لأن تلك الأنظمة ممانعة ومقاومة، بل كورقة من أوراق أحسنت تلك الأنظمة جمعها لتحسين موقعها في التفاوض حين تحين ساعة الحسم. وهو أمر تفعله كل الأنظمة في المنطقة، ولعل دخول تركيا وقطر على خط الأزمة الفلسطينية واحتواء حماس أخيراً، ليس إلا محاولة لدخول تلك القوى على خط الممانعة، بغية وراثة الدور السوري فيه؛ لأنّ «الممانعة» ورقة رابحة فعلاً. يدل على ذلك الشعبية التي حصدها أردوغان في العالم العربي بعد وقوفه بوجه شمعون بيريز في مؤتمر دافوس (2009) وبعد تعرض سفينة «مافي مرمرة» للهجوم في المياه الدولية (أيار/ مايو 2010)، وكذلك ارتفاع شعبية الأمير القطري «حمد آل ثاني» بعد وقوفه إلى جانب حزب الله عام 2006، وزيارته الجنوب (تموز، 2010)، وزيارته غزة ( تشرين الأول،2012)، حيث يسعى كل منهما إلى تصدير نفسه «ممانعاً» على طريقته، بغية سحب بساط «الممانعة» من سوريا وإيران لمصلحة قطر
وتركيا.
هنا نحن أمام معلومة غير قابلة للأدلجة لا يمكن دحضها وهي أنّ النظام السوري وإيران قدما دعماً وسلاحاً للمقاومة اللبنانية والفلسطينية. ليبقى السؤال: هل كان هذا الدعم في مصلحة المقاومة أم لا؟ هل استفادت المقاومة أم لا؟ هنا نحن أمام حقائق لا يمكن نكرانها أيضاً، تتجلى بانسحاب إسرائيل من جنوب لبنان بفضل المقاومة الوطنية اللبنانية، وقدرة غزة على الصمود في عام 2008، والآن كذلك. لكن هذا لا يعني أبداً أنّ النظامين السوري والإيراني ممانعان، وكذلك القطري والتركي (الآن ولاحقاً)، بل يستغل كل منهم تلك الأوراق لتحسين موقعه على صعيدين: الداخل الذي سكت عن استبداد النظم، والخارج الذي يتردد في مواجهة النظم تلك خوفاً من إشعال المنطقة، لتغدو المقاومة بالنسبة إليهم مجرد ورقة لعب في البازار الإقليمي/ الدولي. وهذا ما يجب على المقاومة أن لا تقع في فخه، عبر الموازنة بين مصلحتها الوطنية ومصالح الداعمين، فإنّ كسر التوازن اختلت المعادلة ضد المقاومة.
هنا ينبغي التفريق بين الحقيقة التي تتجلى بالدعم (وهذه معلومة لا مكان لنكرانها) وبين الهدف من هذا الدعم (وهنا رؤية تختلف قراءتها من شخص لآخر، أي كيفية توظيف المعلومة السابقة) من جهة، وبين هدف المقاومة وأحقيتها العادلة وعدم توظيف عدالة قضيتها ضد عدالة قضية شعب آخر (سوريا وحزب الله مثالاً) من جهة
أخرى.
لتوضيح الأمر أكثر، الآن يقف حزب الله في صف النظام السوري المستبد الذي دعم المقاومة سابقاً وحالياً لأهدافه الخاصة، وتقف حماس الآن بعد انشقاقها عن النظام السوري في صف قطر وتركيا اللتين تدعمان أيضاً لأهدافهما الخاصة. اختلاف أجندة الداعمين هنا لا تلغي شرعية المقاومة، إلا إذا كانت المقاومة مجرد أداة بيد داعمها، فإنّها تخرج من بوتقة المقاومة إلى بوتقة الأداة، وهو أمر يبدو أن قوى المقاومة تقف فيه الآن على مفترق طرق؛ إذ تبدو الأجندة السورية/ الإيرانية أكثر حضوراً يوماً بعد يوم على برنامج حزب الله اللبناني. ويبدو أنّ حماس بدأت تدخل في الأجندة التركية/ القطرية، وهو ما يمكن تلمسه بوضوح من خطابات نصر الله المشدودة إلى دمشق وطهران وخطابات خالد مشعل المشدودة إلى الدوحة وأنقرة
أخيراً!
استبدادية النظامين السوري والإيراني وسعي أنقرة والدوحة إلى احتواء المقاومة، لا تعنيان الأخيرة بشيء، لأنّ المقاومة حق مشروع بغض النظر عن الداعم، ومن حقها في ظل ميزان الصراع العالمي المختل لمصلحة إسرائيل، أن تبحث عن وسائل الحصول على السلاح بكافة الطرق المشروعة. ولعل من حنكة المقاومة أنّها تستغل كل الأطراف لأهدافها الخاصة؛ إذ في 2006 كانت تحظى بدعم النظام السوري والإيراني والقطري، وغداً قد تحظى بدعم دول أخرى من محور آخر تماماً، ولعل أقل ما يمكن قوله لنادبي المقاومة اليوم عبر ربطها بالاستبدادين السوري/ الإيراني، فلتقدم أنظمة ما بعد الربيع العربي «الديموقراطية» (مصر وتونس وليبيا)، وأنظمة الاستبداد/ الاعتدال (قطر والسعودية والأردن والمغرب) ومعهما الديموقراطية التركية على تسليح المقاومة ضد إسرائيل إن كانت المشكلة في الاستبداد، كما تسلحان «الجيش
الحر»!
لكن الأمر الواضح أيضاً، أنّه لا يحق للمقاومة الوقوف إلى جانب نظام الاستبداد بوجه شعب يقتل بالطائرات، شعب طالما كان مقاوماً بحق، وهذا ما خسره حزب الله تحديداً الذي لم يدرك أنّ السوريين الذين يقتلون وتمتلئ بهم السجون وتهان كراماتهم على أيدي «رفاق السلاح»، هم أنفسهم السوريون الذي وقفوا على الحدود عام 2006 ليستقبلوا اللاجئين اللبنانيين، وهم الذين تبرعوا بمالهم لإيواء أشقائهم بحق، وهم الذين كانوا الحاضن الأساسي للمقاومة وحزام أمانها. هذا جرح ليس من السهل على حزب الله أن يعالجه بعد اليوم، هذا إن تمكن من معالجته!
على الجماهير أن تدرك أنّ المقاومة شيء واستثمار الأنظمة شيء آخر تماماً، وهذا ما تستغله بعض القوى لضرب مشروع المقاومة ككل، سعياً منها إلى تشويه فكرة المقاومة في أذهان المنتفضين، كمقدمة لما يجهز له لاحقاً من تسويات جزئية غير عادلة، يبدو أنّ قطر وتركيا تتجهزان لأداء دور العراب
فيه.
درس غزة الأهم، أنّه أعاد المقاومة إلى دائرة التداول الشعبي، إذ بينت ردود الفعل أنّ بوصلة الشعوب لم تحد رغم انشغالها بدواخلها المنهكة، لتبقى المعادلة باختصار: تسقط أنظمة الممانعة والمخانعة (الاعتدال العربي) معاً، وتحيا المقاومة ضد الاستبداد والعدو الإسرائيلي في آن واحد.
* شاعر وكاتب سوري