لم يكن ظن نتنياهو وحلفائه صحيحاً تماماً لجهة أنّ الظرف موآت لخوض معركة عسكرية كبيرة في قطاع غزة. لقد بالغ حكام اسرائيل في تأثير الأزمة السورية وهو كبير فعلاً. كذلك بالغوا في تقدير مفاعيل الاتفاقات الاولية التي سهلت استيلاء الاخوان المسلمين على السلطة في اكثر من بلد عربي، وخصوصاً في مصر، لكنهم اهملوا، في المقابل، وقائع من نوع الخيبة الفلسطينية من انسداد الأفق السياسي: أفق المفاوضات والتسويات. ولقد عبَّرت السلطة الفلسطينية، اكثر من سواها، عن هذه الخيبة، وخصوصاً بعد انفلات الجشع والغطرسة الاسرائيليين دون رادع ودون مساءلة ودون عقاب... وبعد استقالة الولايات المتحدة من اي دور، ومعها الرباعية الدولية، فيما امعنت القيادة الصهيونية في فرض المزيد من الوقائع التي تجعل من شبه المستحيل إقامة دولة فلسطينية على جزء من الاراضي المحتلة عام 1967.كذلك فقد اهمل حكام اسرائيل انّ للازمة السورية اولوية مطلقة في المرحلة الراهنة، من وجهة نظر واشنطن وحلفائها العرب الخليجيين على وجه الخصوص. ذلك أنّ الازمة السورية قد اصبحت عقدة تتوقف على طبيعة حلها جملة من المسائل في العلاقات الدولية وفي العلاقات والتوازنات الاقليمية على حد سواء.
كما ان الفريق الاسرائيلي الحاكم قد قلَّل من اهمية نتائج حرب نهاية عام 2008 على غزة، التي حملت اسم «الرصاص المسكوب». فبعد تلك الحرب اكتسبت غزة مزيداً من القوة ومن العطف ومن التضامن الدولي. ولعل ابرز عوامل القوة كان في ما توافر لها من الدعم الايراني والسوري، وفي ما بذله حزب الله من الجهود في سبيل نقل الكثير من تجاربه الناجحة الى القطاع المحاصر بالعدوانية الاسرائيلية، وبالتواطؤ والشراكة اللذين كان يوفرهما نظام الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك.
وينبغي التوقف ملياً عند نقل «التجربة اللبنانية» الى غزة. فلم تكن المسألة مسألة تقنية فحسب، رغم اهمية الخبرة والتقنيات المنقولة واهمية الاسلحة المهربة بجهود مثابرة وكبيرة وناجحة غالباً. المسألة الاهم في ذلك كانت في شقها المعنوي والتعبوي والسياسي، لجهة توليد قناعة بالقدرة على مواجهة آلة الحرب الصهيونية، رغم كل ما تتمتع به من تفوق ودعم وعدوانية وخبرة. ولقد وقع التنسيق بين حركة حماس وحزب الله في سياق ممتد من التعاون اللبناني ـ الفلسطيني الذي يرقى الى اواخر الستينيات، والذي شهد عدة محطات مهمة في تاريخ الشعبين، بكل ما رافقها من نجاحات واخفاقات، وكل ما اتصفت به من ابداعات او مرارات او اخطاء او انجازات...
إنّ لبنان قد دخل في التاريخ الفلسطيني المعاصر، تاريخ الاغتصاب والنكبة، بوصفه ايضاً تاريخ المعاناة والمقاومة والانتصار. لقد واجه الشعبان اللبناني والفلسطيني معاً غزو اسرائيل للبنان عام 1982. وفي هذه المواجهة سُجلت صفحات بطولية رائعة رغم فداحة الخسائر ورغم الهمجية الاسرائيلية، ورغم الدعم الدولي لاسرائيل والتواطؤ الرسمي العربي مع عدوانها. ولقد حفَّزت انتصارات المقاومة في لبنان، بشقيها الوطني والاسلامي، الانتفاضة الفلسطينية الاولى. كذلك فقد كان لهزائم اسرائيل في لبنان، أي انسحابها المذل عام 2000 وسقوط هيبة آلتها العسكرية وهزيمتها عام 2006، كان لها وقع شديد لدى الشعب الفلسطيني الذي تزداد معاناته، في المقابل، على يد الصهاينة وداعميهم.
لا شك انّ التحالف الذي قام واستمر وتعزز ما بين حركتي حماس والجهاد (وهي حركة تمارس دوراً مهماً في تركيز الاولوية على القتال ضد العدو) من جهة، وما بين حزب الله وداعميه الايراني والسوري من جهة ثانية، قد ساعد كثيراً على تصليب الوضعين السياسي والقتالي في غزة. هذه حقائق ملموسة، تجري محاولات إبرازها لاسباب تعبوية ودعائية حالياً، وخصوصاً بعد الازمة السورية، وبعد خروج قيادة حماس من سوريا، لكنها قد باتت جزءاً من معادلة الصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي، وحتى العربي ـ الاسرائيلي، وحتى إشعار آخر، بل ليس مبالغةً القول إنّها باتت جزءاً من التحولات الاستراتيجية في هذا الصراع. وهي تحولات تصب حكماً في مصلحة نضال الشعب الفلسطيني ضد اسوأ او ابشع انواع الاحتلال الذي عُرف على مدى التاريخ!
تُضاف الى كل ذلك عوامل ليست قليلة الاهمية من نوع التوتر الذي ساد العلاقات الشخصية بين نتنياهو والرئيس الاميركي باراك اوباما. وهو التوتر الذي دفع رئيس حكومة اسرائيل الى مغامرة غير محسوبة بالتورط في المعركة الانتخابية الاميركية على نحو فج وغير مسبوق وغير مقبول. كذلك فإنّ محاولة اختبار القيادة الجديدة في مصر، وهي قيادة اخوانية كانت قد عقدت عدداً من الاتفاقات لتسهيل دعمها في الوصول الى السلطة من قبل واشنطن، ستكون بالضرورة، على وقع الدمار والدماء، محاولة محرجة للطرف المصري وغير مناسبة للطرف الاسرائيلي.
لا يعني كل ما تقدم استسهال القول إنّ اسرائيل قد هزمت، وإن عدوانها كان وبالاً عليها، لكن لا شك ان عوامل جديدة تدخل في المواجهة. وهذه العوامل ذات بعد استراتيجي مرشح لإدخال تعديلات حقيقية على مشهد الصراع التقليدي، حين كانت اسرائيل متفوقة باستمرار على حساب الفلسطينيين. فلقد ادخلت معركة غزة الراهنة عوامل شبيهة بما ادخله الصمود في وجه الآلة الصهيونية في لبنان عام 2006. وكلاهما فرض تعديلاً لا يستهان به على المشهد الصراعي في المنطقة. وهو تعديل مرشح، اذا ما انضوى في نطاق استراتيجية مواجهة اشمل، لوضع اساسي جدي لتسوية يستعيد معها وبها الشعب الفلسطيني بعضاً من حقوقه، وخصوصاً حقه في اقامة دولة مستقلة وعاصمتها القدس.
لكن ذلك يتطلب تحرير اشكال المواجهة الوليدة، من اعباء الفئويات وانقساماتها، ومن جشع السعي نحو السلطة والتمسك بها، ومن اعتماد التفرد والقمع والاستئثار.
الوضع الفلسطيني هو الآن على المحك: فهنا ينبغي ان تبدأ اولى التجارب. وهنا يجب ان تتخذ التدابير والاجراءات، وكذلك أن تُعتمد السياسات والتوجهات التي من شأنها انهاء الانقسام وبدء مسيرة التوحيد وفق رؤية واضحة تتجند معها كل امكانيات وطاقات الشعب الفلسطيني، وهي هائلة، من اجل هدف التحرير والعودة والانتصار.
* كاتب وسياسي لبناني