في صفحات التاريخ العسكري، يبدو أنّ عمل المرتزقة ــــ أي من يقاتل لحساب غيره مقابل بدلٍ مالي ــــ هو من أقدم المهن في التاريخ. على جدران معبد أبو سمبل، حُفظت كتابات بالاغريقية القديمة خطّها مرتزقة يونانيون، اكتراهم الفرعون، وهم في طريقهم الى القتال في اثيوبيا.
بل أنّ كلمة «مرتزقة» في اللغات الغربية تنحدر من جذرٍ لاتيني يعني «الراتب» أو «الدخل» (وتعبير freelancer، الذي يدلّ اليوم على من يؤجر مهاراته لأرباب عملٍ متعددين ولا يلتزم بوظيفة ثابتة، ظهر في اللغة الانكليزية لتوصيف جنود المشاة المرتزقة ــــ حاملي الرّمح ــــ في اوروبا القرون الوسطى). حين أصبح الجيش الامبراطوري الروماني مشكّلاً من شعوبٍ شتى ولم يعد مقتصراً على المواطنين الأصليين، وتحوّلت الخدمة العسكرية من «واجب وطني» الى ما يشبه الوظيفة التي تؤدّى مقابل الراتب والمكاسب، كانت نصيحة الامبراطور سبتيموس سفيروس لخلفه وهو على فراش الموت: «ابقوا موّحدين، اجعل جنودك أثرياء، واحتقر الباقين».
الّا أنّ دراسةً أعدّها ضابطٌ أميركي عن تقليد الارتزاق تظهر أن الإعتماد على جيوش الأجراء له حدود وتعتريه مشاكل بديهية، أهمّها أن المرتزق لن يموت لأجلك، وهو يحارب في مقابل راتبٍ لن تعود له قيمة اذا ما قضي في المعركة؛ وهو، كما يقاتل لحسابك بأجر، يمكن أن ينقلب ضدّك مقابل أجرٍ أعلى. لهذه الأسباب، كانت جيوش العالم القديم تحرص على ألا توظف المرتزقة في مواقع أساسية تحدّد مصير المعركة، أو تكتفي بحصرهم في وحدات متخصّصة. دولة كقرطاجة، كانت أغلب جيوشها من المرتزقة لقلّة عدد مواطنيها وطبيعتهم التجارية، حرصت على اختيارهم من قوميّات متعددة بحيث لا يكون لأي منها تأثير وازنٌ في الجيش (ومع ذلك، كان من أسباب هزيمة هانبيعل القاصمة في «زاما» أن خطّه الأمامي، المكوّن من مرتزقة من أكثر من أربع جنسيات، انقلب عليه تحت ضغط الجيش الروماني). ولا حاجة للقول بأنّ هذه المهنة، على أهميتها في الحروب، كانت تحظى باحتقار القادة والجمهور، اذ هي تحوّل فعلاً نبيلاً ــــ القتال والفداء والقتل من أجل قضية ــــ الى عملٍ يؤدّى مقابل أجر. في دراسته من عام 1973، يروي العسكري الأميركي ثيودور كيرشاو أن الاسكندر كان بالغ القسوة مع اليونانيين الذين أجّروا سيوفهم لعدوّه الفارسي داريوس، ولم ينج من الذبح منهم، اثر احدى المعارك، الّا ألفي مرتزق من أصل عشرين ألفاً.
في اليمن اليوم، العنصر الوحيد الذي يجمع بين الفئات والقوميات والأجناس المختلفة التي تقاتل في صفوف التحالف السعودي، وتعين غزوه، هو الإرتزاق. للحقّ، فإنّ الارتزاق والمصلحة والانتهازية تبقى حجّةً أصلح وأكثر منطقية، لتأييد هكذا حلفٍ والسير في ركابه، من خطاب اولئك الذين يحاولون تحويل هذه الحرب الى «قضية»، أو اسقاط أبعاد «قومية» ومذهبية على العدوان. هذا سلوكٌ متوقّع من محورٍ ــــ صار مرسوماً بوضوح ــــ احتفالاته و»انتصاراته» هي في تفجيرٍ يقتل مدنيين في بيروت، أو إعدام جماعي في سوريا، أو حصار يجوّع شعب اليمن (فيما خصومه يحتفلون بحسم معارك استراتيجية في الشام وتكريت وحلب ــــ وهنا الفارق التاريخي). هذا المحور انجرّت نخبه للاحتفاء بالحرب السعودية ــــ الأميركية ضد أفقر العرب، بحثاً عن نصرٍ ما على حساب البلد وناسه، فانتظرتهم هزيمة مذلّة.
بالمعنى العسكري البحت، وبالنظر الى فارق الإمكانيات والقدرات، كان من المفترض أن تكون الحرب السعودية حملة يسيرة وقصيرة، يخترق فيها الجيش السعودي الجرّار حدود اليمن من الشمال، ويقطع عشرات الكيلومترات ويحتلّ صعدة، ثمّ يكمل الى صنعاء وينهي «التمرّد الحوثي» والحرب. الّا أنّ ما يجري هو أنّ اليمنيين يدخلون المدن السعودية الحدودية من ثلاثة محاور على الأقل، ويتقدّمون داخل المملكة، فيما الجنود الاماراتيون قد بدأوا بالإنسحاب من البلد، بعد أن ذاقوا شيئاً من الحرب للمرة الأولى منذ تأسيس بلادهم (وفي الأيام الأخيرة، قُتل ضابطٌ اماراتي وهو داخل الأراضي السعودية، اضافة الى أول ضحايا قطر في المعركة).
الجنود الإماراتيون المرتحلون تستبدلهم وحداتٌ استقدمت من السودان ودول افريقية أخرى، اضافة الى مجموعات مرتزقة من كولومبيا وغيرها؛ وقد صار هناك بالفعل ما يقارب اللواء ــــ 2000 جندي ــــ من السودانيين المساكين الذين أرسلهم حكامهم الى هذا الأتون مقابل «رشوة» اقتصادية لا تزيد على 2.7 مليار دولار، ويقال إن العدد النهائي سيفوق العشرة آلاف. منذ الأيام الأولى لوصولهم، خسر السودانيون 16 جندياً وعشرات الجرحى (بحسب مقالٍ لأولغا ايميريتش)، وقد قُتل عددٌ آخر منهم في تعز البارحة، بينما قوات الجيش اليمني و»أنصار الله» تقدمت الى مواقع تُشرف على قاعدتهم العسكرية الرئيسية، في العند بمحافظة لحج.
اللجوء الى وحدات المرتزقة يعني، ببساطة، أن الخليجيين لا يثقون باليمنيين الذين يقاتلون الى جانبهم، ولا يعتبرون أنهم سيشكلون يوماً قوة قتالية يعتمد عليها. ومن لديه شكّ بالطبيعة الارتزاقية لهذه الحرب، ما عليه الا أن يراجع «شحنات الجنود» الذين وصلوا للقتال في اليمن مؤخراً، وبينهم، اضافة الى السودانيين، وحداتٌ من اريتريا والسنغال (أجل، السنغال صارت جزءاً من «عاصفة الحزم»، وجنودها يقاتلون لـ «استعادة الشرعية» في اليمن). في مثالٍ آخر، وهو مشهدٌ مألوف تاريخياً بين من يقاتل بأجر، قامت وحدات «المقاومة الشعبية» في عدن بالتمرّد وحاولت اقتحام القصر الرئاسي، واصطدمت بالاماراتيين والحرس الجمهوري، لأن رواتبها لم تُصرف.
المسألة الأساس هي أن حرب اليمن لا تُحسم من الجوّ، والغارات لا تنفع الا لتدمير البنى التحتية ومعاقبة الشعب (ولو كانت قادرة على تحقيق نتائج عسكرية، لتمكّن الطيران السعودي ــــ أقلّه ــــ من طرد «أنصار الله» من أرضه الوطنية). الحرب تقرّر بالعزيمة والإرادة والأيدي على الزناد. لديك، في جانبٍ، جمعٌ من غزاةٍ لا يرغبون بالتضحية، وجيوشٌ للإيجار، وعملاء محليون من أفسد النخب؛ وفي الجانب الآخر مقاتلون بالفطرة، تربوا على الحرب والتضحية، وقد قامت حركتهم أصلاً على قصة استشهاد حسينية الطابع ــــ منذ نزل حسين بدر الدين الحوثي مع رفاقه في ذاك الوادي عام 2004، وهم يعرفون انّهم اختاروا الموت على الذلّ. هذه حربٌ حُسمت قبل أن تبدأ.