يتحلل نظام حكم المحاصصة في العراق بمرور الوقت وتراكم الأزمات، ويتحلل معه خطابه السياسي والفكري المرادف. ويلاحظ المراقب أنّ جميع الذين هتفوا بالأمس تأييداً لهذا النظام، حتى من العلمانيين الذي ساهموا في تأسيسه، رغم سيطرة الإسلاميين من الشيعة والسنة والقوميين الأكراد، يدفعون الثمن الآن، أو، إذا شئنا الدقة، يُدَفِّعُون المواطنين ثمن اختيارهم السياسي هذا، ويحاولون البحث عن حل لأزمتهم وأزمته دون أنْ يجرؤوا على خرق سقف الحكم وبنيته التأسيسية الحقيقية.
بكلمات أخرى: إنهم يريدون حلّ أزمة الحكم الطائفي بوسائل طائفية، أما المطلوب حقيقةً، فهو تغيير طبيعة الحكم من محاصصاتي طائفي إلى نظام ديموقراطي قائم على المساواة والمواطنة الحديثة بما يمنع تكوّن المشهد السياسي من أحزاب مكونات طائفية وقومية لتنشأ على أنقاضها أحزاب وطنية عابرة للطوائف والقوميات.
خلال الأسابيع القليلة الماضية، سرتْ موجة هجاء ونقد حادّ في الساحة السياسية العراقية لحكومة «الشراكة الوطنية» القائمة. وقد ترافقت هذه الموجة مع تصفيق سياسي حاد وتأييد عارم لخطط «التحالف الوطني» الذي يضم الأحزاب «الإسلامية الشيعية»، لتأليف حكومة أغلبية سياسية باعتبارها «خياراً ديموقراطياً يضمنه الدستور» كما قيل. مبررات هذه الموجة كثيرة وحقيقية. منها، واقع التعطيل والعرقلة المستمر لإدارة الدولة، وتحوّل الوزارات والمؤسسات الحكومية الأخرى الى إقطاعيات طائفية وعشائرية وحزبية مغلقة، واستفحال الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية المتلاحقة، إذْ لا يكاد يجري تجميد أو حلحلة أزمة حتى تشتعل أخرى أشد منها ضراوةً. موجة مضادة أخرى قابلتها تنادي برفض حكومة الأغلبية تحت شعار «لا يمكن لمكون واحد أنْ يحكم العراق المتعدد المكونات»، معنى ذلك أنّ الرافضين يتبنون الخطاب الطائفي «المكوناتي» ذاته. الواضح، أنّ الناطقين باسم موجة الرفض تلك لا يحدوهم الخوف من عدم تمثيل «مكوناتهم» في الحكومة الجديدة بقدر ما يخيفهم إلى درجة الذعر ألا يكونوا «هم» أولئك الممثلين! أما الأحزاب الكردية ــ الحزبان الحاكمان تحديداً لا المعارضة الكردية المبعثرة ــ فخوفها مختلف نوعياً لأنّها ستكون الخاسر الأكبر من أي تحالف قد ينشأ بين «الآخرين» أياً كانوا، ذلك لأنّه سيأتي على حسابها وسيكون من العسير عليها الاحتفاظ بمكاسبها وغنائمها التي حصلت عليها بدعم مباشر وصريح من دولة الاحتلال وحلفائها السابقين المحليين!
إنّ الحلَّ الذي توصل إليه فريق من الائتلاف الحاكم، هو «التحالف الوطني»، معبراً عنه في ما سمي حكومة «الأغلبية السياسية»، هو حل لا أفق له فهذه الحكومة إنْ قيض لها التَشَكُّلُ فعلاً فلن تكون حكومة أغلبية سياسية ديموقراطية بل حكومة أغلبية سياسية طائفية! إنَّ فرصة إقامة تحالف سياسي من هذا النوع كانت قائمة فعلاً بعد الانتخابات التشريعية الأخيرة، وقد جرى تخريبها من قبل بعض الأطراف وفي مقدمتها طارق الهاشمي، الذي «كان يخشى أنْ يسيطر غرماؤه الشيعة على منصبي رئاسة الجمهورية والحكومة معاً»، وفق ما كشف عنه أحد مؤسسي كتلة «العراقية»، النائب حسن العلوي، الذي قام بدور العَرّاب في المفاوضات حولها.
يمكن أنْ نجد دليلاً على هذا التحليل الذي يفرق بين حكومة الأغلبية الديموقراطية المألوفة في العالم والاختراع العراقي المسمى «حكومة الأغلبية السياسية» في محاولة رئيس حزب «المجلس الأعلى» عمار الحكيم، الذي التحق أخيراً بمعسكر المؤيدين لحكومة الأغلبية بعدما رفضها طويلاً، في محاولته القفز على هذا التناقض الجوهري بين النموذجين للحكومة قفزاً لفظياً حين قال «لقد دعونا إلى حكومة أغلبية سياسية ذات شراكة للمكونات للخروج من النفق المظلم الذي نعيشه... إنّ الشراكة هي أساس النجاح، والوحدة هي أساس التقدم والحكومة الجامعة لكل المكونات هي الأقوى». فالحكيم يخلط النفط بالماء لاستخراج سائل جديد يبقى في حقيقته نفطاً وماءً لا أكثر ولا أقل؛ إنّه يحاول جمع «حكومة أغلبية» مع «حكومة ذات شراكة للمكونات». بمعنى أنّه يخلط عملياً بين حكومة التحالف الطائفي وحكومة الأغلبية الديموقراطية التي يُفْتَرض أن تقوم على أساس ديموقراطي. هذا الأساس يتناقض جوهرياً مع ما يريده الحكيم والمالكي والنجيفي والبارزاني وسواهم، لأنّه قد يؤدي عملياً لأنْ يكون جميع الرؤساء في السلطات الثلاث والوزراء من طائفة أو قومية عراقية واحدة، فهل يقبل هؤلاء ذلك؟ أو إلى أنْ يكون رئيس الدولة أو رئيس الوزراء من أقلية دينية أو قومية في مجتمعات مندمجة مجتمعياً قد لا تتجاوز نسبتها 2% من السكان كتجربة الرئيس الهندي «السيخي» الحالي مانموهان سينغ، وقد تتجاوز قليلاً نسبة 10% من السكان كما حدث في تجربة الرئيس الغابوني عمر بانغو، فهل يرضى هؤلاء بهذا المآل؟ غير أنَّ الحكيم يعود بعد بضعة أسطر ليؤكد الفرق بين حكومة الأغلبية وحكومة الشراكة ويخير سامعه بينهما فيقول «الأغلبية ليست طائفية أو قومية، بل هي أغلبية سياسية ممثلة للشعب العراق... فإذا كنتم لا تستطيعون فهم الشراكة فعليكم بالأغلبية». ببساطة، يمكن القول إنّ الحكيم ودعاة «حكومة الأغلبية السياسية» الآخرين يحاولون الحصول على عنقود عنب من شجرة الخروع!
إنَّ الأمور على أرض الواقع تقول لنا شيئاً مختلفاً عما يقال في الخطب والبيانات دون أنْ يخرج من حيث الجوهر على المضمون السياسي والاجتماعي الذي تتأسس عليه. على الأرض، سيعمد التحالف الوطني «إسلامي شيعي» إلى تأليف حكومة أغلبية بعد أنْ يضمن توفير 163 نائباً مؤيداً لها من مجموع 425 في مجلس النواب. وهذا العدد، كما يرجح بعض الساسة كمحمود عثمان، ممكن الوصول إليه، فيما رأى نائب آخر أن الوصول إليه من سابع المستحيلات، بعدما حسب أعداد النواب بطريقته الخاصة، التي تذكرنا بالمثل الشعبي التونسي القائل «مَن يحسب وحده يفضل له»!
إن واقع الفساد الشامل، الذي بلغ أوجَهُ في تسعير بعض الحقائب الوزارية وأصوات النواب بأسعار معلنة وعرضها في السوق السياسي يُسَهِّل كثيراً جمع هذا العدد، لكنّ الجوهر السياسي والاجتماعي للحكومة في هذه الحال لن يتغير وسيبقى كما كان محاصصاتياً طائفياً، إنما سيجري تزيينه «بقطع فولكلورية» متنوعة من المكونات المجتمعية الأخرى لتأكيد حضور الجميع، وإنْ على نحو رمزي. معنى ذلك، أنَّ حكومة الأغلبية السياسية ستكون أمام ثلاثة احتمالات من حيث طبيعتها، فهي إما أنْ تكون تحالفاً «شيعياً كردياً» في مواجهة ممثلي العرب السنّة، أو تحالفاً «شيعياً سنياً» في مواجهة ممثلي الأكراد. يمكن أيضاً أن تكون تحالفاً سنياً بين العرب والأكراد في مواجهة الشيعة، لكن في جميع هذه الحالات سيكون هناك بعض القطع من الموزاييك الطائفي لتأكيد الطبيعة «الوطنية» الزائفة للتحالف الحاكم.
في ضوء هذا الواقع، يتساءل البعض: هل هناك أية إمكانية لقيام تحالف حقيقي يخترق الطوائف والعرقيات ويقدم حكومة وطنية حقاً يدعمها خليط من النواب من المكونات المجتمعية الثلاثة الرئيسية يقترب من النسب السكانية لهذه المكونات؟ للأسف، ليست هناك أية إمكانية لنجاح هذا الاحتمال، فكل نائب أو وزير يخرج على قائمته سيعامل كخائن قومياً أو طائفياً وسيلاحقه حَمَلَة كواتم الصوت. الأكثر تشاؤماً وبؤساً هو أنّ هذا الاحتمال حتى إذا نجح عملياً وحدثت المعجزة فإنه سيكون خياراً فاشلاً، ولن يحل أزمة الحكم لأنّه يفتقد الأساس الاجتماعي الذي يدعمه على أسس وطنية صلبة، مثلما يفتقد نظاماً انتخابياً ديموقراطياً شفافاً ومتوازناً. ولهذا، ستتحول هذه الحكومة إلى ميدان للصراع الداخلي بين أطرافها، وسيضاف محور جديد للصراع هو محور صراع الحكومة الجديدة مجتمعة ضد الذين حرموا المشاركة فيها وفي «خيراتها» وأصبحوا في صفوف المعارضة رغم أنوفهم! من هنا، يمكن أن نفهم تحذيرات رئيس التحالف الوطني، إبراهيم الجعفري، من احتمال «لجوء بعض الكتل السياسية إلى المعارضة المسلحة إذا ما جرى الاتفاق على تأليف حكومة الأغلبية...»، ليس لأنّ هذه الكتل «لا تجيد فن المعارضة السلمية» كما قال الجعفري، بل لأنّ الجميع يريد «المشاركة» في النهب لا أنْ ينفرد «فريق الأغلبية السياسية» بالنهب، ويكتفي الفريق الآخر بالتفرج عليه من مقاعد المعارضة السلمية.
لكن، طالما أنّ احتمال حدوث معجزة تغير واقع الحال وتنقذ البلاد والعباد، يقترب من الصفر، وطالما أنّ احتمالات التغيير من الداخل وبواسطة الانتخابات ضعيفة، وأخيراً، طالما أنّ حراكاً مجتمعياً يأخذ شكل انتفاضة شعبية أو أي حراك اجتماعي واسع النطاق لا يمكن توقعه في المدى المنظور، مع أنّ بواعثه قائمة وملحة، فهل يمكن التعويل على أن تأليف حكومة أغلبية قد يصبح عملياً بوابة للتغيير الكبير المطلوب؟
لا يمكن المغامرة بحشد الكثير من التفاؤل في هذا الصدد، فمن الممكن أن تؤدي حكومة الأغلبية الى ما هو أشرّ وأدهى من واقع الحال القائم اليوم، ويمكن أنْ يدفع الخاسرون المجتمعَ الى دورة جديدة من دورات الاقتتال الأهلي تعيدنا الى سنوات الجثث في 2006 وما تلاها، إنما يمكن توقع أنْ تقوم الأطراف القوية في التحالف الجديد الحاكم بتغيير بعض أسس قواعد اللعبة السياسية، التي أوجدها الاحتلال الأميركي، وهي قواعد مرسومة وفق مخطط «المتاهة». بمعنى، يمكن هذا التحالف الجديد أنْ يعدل الكثير من مواد الدستور، وبخاصة تلك التي تشلُّ السلطات والمؤسسات، كما يمكنه حل العديد من الإشكالات التي تسببت بها مواد دستورية غامضة ومريبة سُنَّتْ لإحداث المزيد من الفتن والأزمات في العراق.
إن هناك الكثيرين ممن سيرفضون هذه التغييرات لأنّها ستقذف بهم الى خارج اللعبة السياسية، لكننا ندرك أيضاً أنّ هناك بعض الوطنيين والمخلصين لأنفسهم ولبلادهم ــ على ندرتهم ــ من المستعدين للتضحية بموقعهم السياسي الشخصي من أجل هزم مشروع الحكم الطائفي التابع للهيمنة الأميركية في العراق.
إن ترسيخ نظام ديموقراطي حقيقي في العراق أو في أي بلد مماثل لن يكون ممكناً إذا لم تحدث عملية اندماج مجتمعي حقيقي، تؤدي إلى تفتت ورحيل الطبقة السياسية التي جاءت بهذا النظام وجاء بها، وتعديل الدستور على نحو جذري وعميق يضمن تواصل عملية الاندماج المجتمعي مع الحفاظ على خصوصيات المكونات القومية لا الطائفية في البلاد. أما استمرار الدوران في حلقة حكومة المشاركة الطائفية أو الأغلبية الطائفية، فليس عبثياً وحسب، بل هو خطير أيضاً، وقد ينتج دورات جديدة من الاقتتال الأهلي أو موجات الهجرات الجماعية لبعض المكونات اليائسة، بل وتفكك العراق وتشظيه الى دويلات طائفية وعرقية متذابحة!
* كاتب عراقي