رغم أنّ الخطاب الذي ألقاه مسؤول الهيئة العاملة للمكتب السياسي للاتحاد الوطني الكردستاني السيد ملا بختيار في مؤتمر حزب «السلام والديموقراطية» الكردي في تركيا كان باسم مام جلال وحزب الاتحاد الوطني، لكن الخطاب التاريخي بكل معنى الكلمة لم يكن في واقع الأمر مجرد خطاب حزب أو زعيم أو حتى جزء من كردستان، بل كان خطاب أمة، هو خطاب الأمة الكردستانية في زمن ربيع شعوب منطقة الشرق الأوسط.
والخطاب هو رسالتها إلى الأمم الثلاث الأخرى الكبرى في المنطقة: العرب والأتراك والفرس؛ إذ استهل الرجل كلامه بتلاوة أبيات شعر النشيد القومي الكردستاني «أي رقيب» بتصرف منه. النشيد الذي يتصدى للمتربص بالشعب الكردي ويتحداه أن ينال من إرادة الحياة والحرية لديه يخاطبه ملا بختيار قائلاً: أترى أيها المتربص أنّ تلك الإرادة ها هي تنتصر، وأنّ مراهناتك على مدى عقود وعقود لكسر تلك الإرادة قد حصدت الفشل الذريع بدليل هذا المحفل الكردي الديموقراطي التحرري الذي أخطب به الآن، ما جعل الخطاب منذ بدايته يتميز بنبرة إنشائية ثورية استنهاضية، نعم، لكنها واقعية وعقلانية وتاريخية.
فالخطاب كان كردستانياً عابراً للأجزاء الأربعة من كردستان، والنبرة القومية الاشتراكية الديموقراطية التحررية كانت الطاغية على كنهه ومتنه كما على هوامشه وحواشيه حيث في الديباجة نقل للمؤتمرين تحيات مام جلال بروحه الخضراء المتسامحة الذي غدا رمزاً وصمام أمان للديموقراطية والسلام في العراق وعموم المنطقة وتحيات أزهار رمان حلبجة وسنابل قمح كرميان، مروراً بتحيات السليمانية وهولير (أربيل) ودهوك وكركوك وخانقين وشنكال لآمد (ديار بكر) وديرسيم وهكاري وأرضروم في كردستان الشمالية (كردستان تركيا). وليتبعها بنقل تحيات السليمانية وكركوك وخانقين ودهوك إلى مهاباد وسنه وسقز في كردستان الشرقية (كردستان إيران) وإلى قامشلو وعامودا في كردستان الغربية (كردستان سورية) في تشديد على أن القضية الكردية واحدة وأن كردستان واحدة رغم واقع التجزئة والتقسيم وأن حل هذه القضية تالياً ينبغي أن يكون شاملاً. وتلك هي الفكرة المحورية للخطاب الذي ألهب القاعة وملايين المشاهدين أكثر من مرة، ولا سيما أنّ ملا بختيار وهو البيشمركي السياسي المخضرم والمفوه نجح عبر بلاغته وقوة تعبيره ولغة الجسد المتقنة التي أداها على وقع فقرات الخطاب ومحطاته، نجح في تقديم وإخراج خطاب شديد التميز مضموناً وشكلاً، ما يفسر أصداءه الايجابية في طول كردستان وعرضها، وحتى على صعيد الجاليات الكردية في المهاجر.
والحال أنّ الرسالة كانت واضحة وعلى هدى التاريخ كيف أنّه على مدى قرن من الزمان وإثر وأد معاهدة سيفر التي أقرت بحق الأكراد شأنهم شأن بقية شعوب المنطقة في تأسيس كيانهم القومي المستقل واستبدالها بمعاهدة لوزان وتقسيم كردستان بموجب سايكس ــ بيكو ومختلف الدول المقتسمة لكردستان تمارس شتى أشكال الإبادة والقمع والصهر القومي بحق الشعب الكردي ووطنه المجزأ من دون جدوى. فكيف الآن حيث العصر ما عاد عصر تلك المقاربات والمنهجيات العنصرية الدموية القاتلة، بل هو عصر الحوار والديموقراطية وسقوط أنظمة الاستبداد وانتصار إرادة الشعوب وحصولها على حقوقها، ولا سيما حقها في تقرير مصيرها؟ وفي مقدمة تلك الشعوب الشعب الكردي الذي لا بد من أن يتمتع في ظل موجة التغيير الكبرى العاصفة بمنطقتنا بحقه في تقرير المصير في أجزاء كردستان الأربعة؛ فالتعاطي وفق النزعات الاستعمارية العنصرية للإمبراطوريتين العثمانية والصفوية وللفاشيين والدكتاتوريين والمحتلين من بعدهما لكردستان لا يجدي البتة في كسر إرادة التحرر لدى الأمة الكردستانية.
فالتاريخ يقول، كما شدد الرجل ومن قلب عاصمة جمهورية أتاتورك، إنّ الشعوب تنتصر على محتليها وقامعيها ومنطق التاريخ قاطع صارم ها هنا؛ فالشعوب المضطهدة على حق وأنظمة القهر والاحتلال على باطل وعلى طول الخط؛ فالمضي والحال هذه في أسطوانة أبلسة الحركة التحررية الكردستانية ووصمها بالإرهاب بات فعلاً مبتذلاً أكل دهر الديموقراطية عليه وشرب، ويجب التوقف عن ممارسته حالاً. فتارة يتهم حزب العمال الكردستاني بالإرهاب، وتارة يتهم حزب كوملة بذلك. والرجل وإن كان يخطب في مؤتمر حزب كردي في تركيا، لكن البعد الكردستاني العام كان حاضراً في كل مفاصل الكلام، وهذا ما تبدى في الإشارة أعلاه إلى حزب كوملة الكردي الإيراني.
ويمضي ليشير إلى مفارقة أنّ القوميات الرئيسية الأخرى إلى جانب الأكراد في الشرق الأوسط لكل منها دولها كما حال الأتراك في تركيا والفرس في إيران وعديد الدول العربية إلا الأمة الكردية التي يربو تعدادها على خمسين مليون نسمة، ومع ذلك فهي محرومة أدنى حقوق التمثيل والمشاركة السياسيين في مختلف الدول المقتسمة لكردستان (ما خلا عراق ما بعد البعث)، فضلاً عن الحق في الاستقلال في إطار دولة كردية وأنّه على مدى القرن المنصرم وبسبب طمس حقوق الشعب الكردي وغمطها ظل الشرق الأوسط وخاصة الدول المقتسمة لكردستان (تركيا وايران والعراق وسوريا) وكلها دول محورية ومركزية في اقليمنا الشرق أوسطي دائراً في دوامات الحروب والتوتر وعسكرة المجتمعات واهدار الطاقات والثروات على التسلح وتمويل الحروب العنصرية المتناسلة لكسر ارادة الشعب الكردي في نيل حريته.
لكن ونحن في بدايات القرن الجديد، فإنّ الأكراد مصرون أكثر فأكثر، ولا سيما في خضم ربيع الشعوب الذي تعيشه منطقتنا على انتزاع حريتهم واحقاق حقوقهم وتصعيد حراكهم الديموقراطي التحرري سلمياً وسياسياً بالدرجة الأولى، لكن مع الاحتفاظ بحق الدفاع عن النفس في وجه حملات القمع والإبادة ورفض الحوار واعتماد الحلول العسكرية الأمنية لطمس قضية عادلة. كذلك إن يدهم ممدودة للسلام والحوار والتعايش مع القوميات السائدة في الدول التي اقتسمت وطنهم بما يمهد لتعاقدات وطنية جديدة تفرز دولاً ديموقراطية تعددية توافقية تنتفي فيها نزعات العسكرة والمركزة وطمس التعدد ورفض الآخر، ولا سيما الآخر الكردي. الأمر سيعود بالنفع على مختلف شعوب المنطقة التي آن الأوان لأن تخرج من شرانق الاستبداد والتخلف الى آفاق البناء والمعرفة والابداع واعطاء الأولوية للانسان وللتعليم العصري والطبابة المتقدمة والتنمية المستدامة والبحث العلمي واقتصاد المعرفة والمعلومات وتحرير المرأة وتمكينها وتكريس ثقافة العمل الابداعي الانتاجي والعدالة الاجتماعية والاصلاح الديني وغيرها من مداميك أي اجتماع بشري حر عصري ومتحضر. وفي هذا الصدد يجب ألا ننسى تجربة أوروبا التي بعد عقود طوال من الحروب الضروس بين قومياتها الكبرى أهتدت الى طريق السلام والديموقراطية والتعايش لتغدو القارة العجوز قاطرة التقدم الإنساني ديموقراطياً وحضارياً وعلمياً... فتعالوا يقول الرجل لنبني جميعاً أتراكاً وأكراداً وفرساً وعرباً شرق أوسطنا الجديد على أسس التعدد والتسامح والتكامل وعبر القطع مع رواسب المنظومة الاستبدادية الحاكمة في المنطقة بكافة حواضنها الفكرية والاجتماعية والثقافية... والتي وصلت الى طريق مسدود، وكان الشعب الكردي ضحيتها الأبرز وبلا منازع، ومن هنا فالأكراد كانوا وما زالوا رأس حربة دمقرطة المنطقة بأسرها.
ولعل تجربة كردستان العراق تقدم نموذجاً ساطعاً في هذا المجال لجهة أنّ الشعب الكردي قادر على إدارة نفسه وبناء نموذج حكم وادارة عصريين واعدين وعلى بلورة خيارات ديموقراطية حضارية تفاعلية على قاعدة الاحترام المتبادل مع الشعوب الأخرى المجاورة له. وكم كان بليغاً تساؤل ملا بختيار عن أنّه ألم يكن من الأفضل لتركيا بدل العمل على الغاء اتفاقية سيفر لحرمان الأكراد حقوقهم في بدايات القرن المنصرم القبول بها واحترام خيارات الشعب الكردي ومد جسور التعاون والتكامل معه بدلاً من مناصبة هذا الشعب العداء ومحاولة طمس كافة معالم وجوده بقوة الحديد والنار بلا طائل على مدى نحو قرن من الزمان في سياسة فاشلة ارتدت بتبعاتها الكارثية على تركيا أيضاً وعلى كافة الدول المقتسمة لكردستان التي نحت المنحى نفسه.
والإشارة في الخطاب الى معاهدة سيفر غير مرة لم يأت اعتباطاً بطبيعة الحال؛ فهذه المعاهدة هي أهم دحض تاريخي موثق لا غبار عليه لكافة الدعاوى الاستعمارية التركية وغير التركية حيال عدالة القضية الكردية بوصفها قضية شعب وأرض وليست مجرد قضية أقلية قومية. ولم يكن بلا دلالة استخدام ملا بختيار مصطلح المحتلين في وصفه للسلطات الغاصبة لكردستان؛ ففي هذه اللحظات التاريخية التي تعيشها المنطقة ككل وأفول نظم الاستبداد وإفلاسها المبرم وتصاعد ثورات الشعوب في سبيل حريتها، من المهم تسمية الأشياء بأسمائها وفق رؤية مبدئية وبراغماتية في آن واحد؛ فالرجل يشدد على ثوابت ومبادئ عدالة القضية الكردية، وفي مقدمها حق الشعب الكردي في تقرير المصير. وحقيقة أن كردستان مقسمة بين أربع دول إن مضت في خيار رفض الشراكة والتعايش مع الأكراد، فإنّها وكتحصيل حاصل دول محتلة تمارس سياسة ابادة استعمارية بحق كردستان وشعبها. الا أننا كأكراد دعاة سلام وحقن دماء وحوار وتعايش بما يمهد لحل قضيتنا القومية في مختلف الأجزاء على قاعدة التشارك والتعاقد مع القوميات الحاكمة في الدول المقتسمة لوطننا في اطار تعددي اتحادي لامركزي، الأمر الذي أثبت نجاعته في العراق عبر الحل الديموقراطي الفيدرالي للقضية الكردية.
ولعل أكثر ما ميّز الخطاب هو دعوته الصريحة بلا مواربة الى تحرير الزعيم الكردي الأسير عبد الله أوجلان واطلاق سراحه لبدء الحوار بغية انضاج الحل السلمي الديموقراطي للقضية الكردية في تركيا ومن قلب أنقرة التي كانت حتى الأمس القريب جداً تحاكم النشطاء الأكراد لمجرد نعتهم أوجلان بالسيد. إذ إنّ السجون على عكس ما يبتغي القيّمون عليها تزيد من قوة وفاعلية قادة الشعوب المضطهدة وزعمائها. غرفة السجن صغيرة، نعم، لكن الزعيم الثائر الأسير يمتد نفوذه على امتداد وطنه وعلى امتداد آفاق عدالة قضية شعبه الرحبة. ورغم اتهام مانديلا وعرفات وملا مصطفى البارزاني ومام جلال... وغيرهم من رموز حركات التحرر الوطنية الديموقراطية وقادتها بالإرهاب، إلا أنهم أصبحوا جميعهم بعد عقود من الكفاح والنضال في سبيل قضايا شعوبهم العادلة رموزاً وطنية لشعوبهم، بل وحتى رؤساء دول. وكذا الحال مع عبد الله أوجلان الذي بات رمزاً قومياً وتحررياً، لا لشعبه الكردي فقط، بل لمختلف الشعوب المضطهدة حول العالم. لذا، إن إطلاق سراح أوجلان يعد خطوة ملحة للشروع في طريق التسوية السلمية العادلة لقضية الأكراد في تركيا، ذلك أن ثمة كلاماً كثيراً أشبه بجعجعة بلا طحن عن الحل في أوساط الحكومة التركية، لكن من دون أدنى خطوات جدية ملموسة وملامسة لجوهر القضية الكردية بما هي قومية وسياسية، ودوماً بحسب ملا بختيار. ولعل الخطوة الأولى الواجب اتخاذها والأكثر إلحاحاً، تعبيراً عن نية صادقة لحل القضية هي المبادرة الى فك أسر الزعيم أوجلان في جزيرة أيمرالي بما يشكل بادرة حسن نية من قبل أنقرة ويثبت الرغبة الحقيقية لطيّ صفحة سياسات الانكار والاضطهاد والتتريك بحق كردستان وشعبها لمصلحة بناء حمهورية تعددية توافقية جديدة في تركيا يتمثل فيها الأتراك والأكراد على قدم المساواة والتكافؤ وبما يحقق مصالحهما المشتركة، وما أكثرها. لا بل إن ملا بختيار كان صريحاً في القول إنّه ما لم يطلق سراح أوجلان فلن تحل القضية.
وكم كانت عابقة بمعان العنفوان والصدق والحس القومي الإنساني المرهف الواقعة التي رواها الخطيب حين دخل كردستان تركيا عندما كان بيشمركة في 1977 لاستقبال مام جلال حيث صادف فتى يرعى المواشي في منطقة هكاري فبادر إلى تقبيله بحرارة لكونه أول كردي من تركيا يراه في حياته. وإنه بعد نحو ثلث قرن من تلك الواقعة، ها هو من قلب أنقرة يحضر مؤتمراً لحزب «السلام والديموقراطية» الكردي الذي ينعقد في ظروف استثنائية تعيشها تركيا والمنطقة برمتها لتفعيل وتيرة النضال في سبيل نيل أكراد تركيا حقوقهم القومية الديموقراطية، وليختم خطابه بالقول: «إنّه التاريخ يا غبي». التاريخ الذي أكد ويؤكد دوماً أن الحرية ستنتصر وكلنا ثقة ويقين من أنّ أوجلان سينال حريته وستتمتعون كشعب كردي في تركيا بحقوقكم المشروعة.
هو خطاب أمة كما أسلفنا، وهو خريطة طريق لحركة التحرر الكردستانية في أجزاء كردستان الأربعة في زمن التحولات الكبرى هذا وعصر ربيع شعوب المنطقة هو خطاب مؤسس ومنظر لإطلاق الربيع الكردستاني، وهو بمثابة مانيفستو هذا الربيع الذي أعلنه ملا بختيار ممثل مام جلال والاتحاد الوطني الكردستاني ومن أنقرة عاصمة الدولة التي تضم الجزء الأكبر من كردستان مساحة وسكاناً (قرابة نصفي مساحة كردستان وعدد سكانها).
* صحافي من كردستان العراق