كان للدكتور عزمي بشارة موقفه من التحولات الكبيرة التي عصفت بالعالم العربي خلال العامين الماضيين. لكن موقف بشارة من الأزمة السورية ظل محل نقاش واسع، ثم توسع بعدما بدا بشارة بنظر خصومه مسانداً للحكومات التي تولت إدارة مصر وتونس وليبيا، وصمته عما يجري في البحرين، أو عدم إيلائه الحراك هناك، الحيز العادل قياساً بطريقة مقاربته الحراك في بقية الدول العربية. إضافة الى تجاهله الحراك في السعودية على محدوديته كنشاط، لكن ربطاً بمعرفة بشارة بعمق هذا الحراك كانتفاضة مستمرة على سياسات تفقير وتمييز عنصري. لكن ما هو غير ظاهر بقوة للجمهور، التباين الحاد الذي صار ينمو بين موقف بشارة وموقف المقاومة في لبنان. سيما وأن علاقة قوية كان تربط بينهما في مواجهة النظام الصهيوني الاستعماري في فلسطين والاحتلالات الأجنبية لدول عربية وإسلامية. في ما يلي، نص كتبه بشارة على صفحته على موقعي التواصل الاجتماعي «فايسبوك» و«تويتر». وهو اختبر أسلوباً واضح المقاصد والهويات، لكنه فضل عدم تسمية طرفي الحوار مباشرة. مستخدماً (س) و(ص). مع أنه قدم تعريفاً.«الأخبار» تعيد نشر هذا المقالة، لأهميتها، من زاوية النقاش مع عزمي بشارة نفسه، ومن زاوية التفاعل السلبي القائم بين أوساط يعبر عنها بشارة اليوم، وبين حزب الله، الطرف الأبرز في المقاومة المعاصرة ضد إسرائيل والولايات المتحدة، بسبب موقف حزب الله من الأزمة السورية وإعلانه دعمه للنظام هناك...

وتسهيلاً للقراء، فإنه كلما يرد حرف (س) يرجى قراءته على أنه (عزمي بشارة)، وكلما يرد حرف (ص) يرجى قراءته على أنه (حزب الله)، فاقتضى التوضيح.
(المحرر)


س ليس فرداً بعينه، وص ليس شخصاً واحداً.
النظام السوري: نظام فاشي أُسَري أمني متلبرل اقتصادياً يتعامل مع البلد الذي يحكمه كأنه احتلال بلا قوانين من القرن السادس عشر. وهو يستخدم القتل بالجملة منذ أن ثار شعبه مطالباً بالكرامة والحرية. ويعمل حالياً بمنهجية على تحويل بلاده إلى ركام، ويتنادى العقلاء والخيّرون لكي لا يحوّل المجتمع السوري أيضاً الى ركام.
في الجانب المقابل، يقف الشعب السوري بقضه وقضيضه مدافعاً عن ماضيه ومستقبله. كما تقف قوى عديدة عادت وتعادي النظام السوري لأسباب لا علاقة لها بأسباب الشعب ودوافعه، وقد تسيء لمستقبل سوريا. ولكن النظام لم يترك للشعب مجالاً لاختيار أصدقائه وحلفائه.
لم يتدخل أحد لحماية الشعب السوري من جرائم ضد الإنسانية.
فلسطين: وطن عربي محتل يتعرض لاستعمار استيطاني. قضيته كانت وسوف تبقى عادلة.
قضية المصريين الأولى هي قضايا مصر، وقضية السوريين الأولى هي الظلم في سوريا، وينسحب هذا على كل شعب. ولكن فلسطين كانت وسوف تبقى قضية العرب الأولى، فعليها يجتمعون. وقد تحطمت محاولات النظام أن يستغلها. فلا علاقة لفلسطين بالاستبداد، ولا بتبرير الجريمة.
لا يعارض (س) التغيير في المنهج والتفكير إذا اكتشف العلم أموراً جديدة، وإذا عرف بنفسه أموراً جديدة، ولا سيّما أنه باحث يبني تحليله على الحقائق والمعلومات ويحاول أن يتمسك بالموضوعية العلمية. لكنه ينفر من التغيير في القيم، ويحاول أن يبقى وفيّاً لمبادئه المشتقة من حق الإنسان بالكرامة والحرية، ومن المساواة بين البشر.
حيثما ذهب وجد (س) نفسه في موقع مضاد للظلم والطغيان، وفي موقف داعم للعدالة والحرية. (س) مثقف وطني وعروبي ولا يشعر بالنقص من كونه جزءاً من الحضارة الإسلامية، وقد تشرب الكثير من ثقافتها وتاريخها. عقله علمي وثقافته عربية إنسانية متنورة، وقلبه مع المظلومين. وقد وجد نفسه مبكّراً يناضل ضد الظلم أولاً في فلسطين، والتقى مع الموقف ضد الظلم في كل بلد عربي، وحتى في العالم.
تعرف (س) على (ص). (وص هذا كما ذكرنا في التعريف ليس شخصاً واحداً، بل نمط من الأشخاص). التقيا وتعارفا في مرحلة الهزائم العربية والأنظمة المستبدة، وفي التحالف مع المقاومة ضد اسرائيل، وفي التحالف مع سوريا، أولاً كدولة عربية مركزية لا تزال تتكلم خطاباً عربياً، ولأنها تحتضن فصائل المقاومة الفلسطينية وتدعم المقاومة في لبنان.
كان (س) يعرف أن النظام السوري سلطوي رث. ولكنه اكتشف فداحة الظلم والفساد في سوريا، وغياب حكم القانون، وسيادة الخوف، وسهولة اتخاذ الإجراء القمعي ضد الفرد، ومدى احتقار إنسانية المواطن وإذلاله في كل مناحي الحياة. وتحدّث بهذا الشأن مع (ص). عاش (س) صراعاً داخلياً وخاض حوارات ساخنة بهذا الشأن. (ص) تقبل هذا الكلام، وعزّى (س) نفسه بضرورات قضيته وتحالفاتها، وبأن الشعب السوري لم يثر بعد، وبأنه لا يمكن إثارة كل القضايا في الدنيا دفعة واحدة.
لكنه رفع النبرة أكثر فأكثر في نقده، وحاول أن يقنع نفسه بأنه لا يمكنه أن يخوض معارك شعبه وبقية الشعوب، ولكنه عروبي، فما معنى بقية الشعوب هنا إذاً؟ قرر أن يبقى مركزاً على التناقض الرئيسي مع إسرائيل، ونقد الأنظمة السلطوية العربية المتحالفة معها، وهي إضافة إلى خيانتها قمعية أيضاً، وفي حالة سوريا كان يكتفي بالحديث عن مطلب الديموقراطية بشكل عام، ونقد نمط الاستبداد الأمني الأُسَريّ المتلبرل اقتصادياً. ولكن حتى المقاومة توقفت بعد حرب 2006، وبدأت تظهر معالم تحالفات طائفية ساهم في الدفع إليها موقف السعودية وغيرها من الدول السلطوية الرجعية ضد المقاومة في لبنان وفي غزة. وبدأ (س) بالتعبير عن نقد علني للنظام ولطبيعة عمل فصائل المقاومة عموماً. لم يلق ذلك ارتياحاً، وتلقّى العتاب بعد الآخر.
كان (ص) منفتحاً يستمع بتفهم ويزيد على النقد نقداً في بعض الأحيان. واعتقد (س) أنهما متفقان. لكن (ص) كان في الحقيقة يعتقد أن (س) من «جماعتنا» وبالتالي يحق له أن ينتقد داخل العائلة، ويمكن التسامح مع نقده. ويكتشف (س) لاحقاً أنهما في الواقع ليسا متّفقيْن.
نشبت الثورة في مصر وتونس. وقف (س) بحماسة مع الثورتين، فهو معارض للاستبداد ويرى أن الديموقراطية بديله الوحيد، هذا مع علمه بالتعقيدات القادمة، فهو ليس جديداً على علم التاريخ ولا على تاريخ الثورات منذ مرحلة شبابه حين كان يعتبر فيها نفسه ثوريّاً وفيّاً لقيم التحرر (لم يكن ثورياً بلا سبب، هكذا عموماً، ولا بالتعريف، وذلك خلافاً لمن يعتبر نفسه راديكاليّاً لمجرد أنه عصابي متطرف المزاج، وذلك من دون حس بالعدالة العينية، ومن دون حس بألم الناس، ومن دون إدراك سياسيّ لطبيعة المعارك السياسية العينية).
وانتفض الشعب السوري. ورأى (س) أن وقوفه مع الثورة السورية هو الأمر الطبيعي كما وقف مع الثورات الأخرى، وأن هذا منسجم مع مواقفه. ولذلك فعل ذلك بشكل طبيعي إلى درجة التلقائية، من دون حسابات، وهذا ما سبق أن ورّطه في مشاكل عويصة مع أصحاب مصالح يحسبون ويراقبون من لا يحسب ويتربصون به. فالتلقائية القيمية نقطة ضعفه. ولذلك استغرب الدهشة والتساؤلات بهذا الشأن. (ص) دعم النظام السوري، وازداد تصلبه كلما احتدم الصراع، وكلما زادت حدة قمع الشعب السوري. احتدم النقاش، حتى أن (ص) اتّهم (س) بأنه تخلى عن «جماعتنا»، في حين ادعى (س) أنه كان متحالفاً مع قضية ولا يزال، وأنه ليس منتمياً لطائفة، ولا هو من جماعة أحد، واتهم (ص) بالوقوف الى جانب قمع شعب يثور ضد ظلم وفساد، سبق أن اعترف (ص) به.
استخدم (ص) خطاب المؤامرة والإرهاب. وأصيب (س) بنفور شديد، ممن يتهم شعباً لديه كل الأسباب للثورة، وتنسدّ أمامه آفاق التغيير غير الثوري، فيواجه الرصاص بجرأة كهذه، وبدلاً من أن يُقدر على ذلك، ثمة من يتهمه بالتآمر.
ص يواصل الهجوم لمعرفته بأخلاقيات (س) الذي يسير في طريقه ولن يستدير ليرد الهجوم، ولن يقبل أن يهبط بنفسه إلى درجة مهاجمة أحد شخصياً، ولمعرفته أنه لن يهاجم المقاومة لأنه صاحب مواقف ضد إسرائيل، ولأنه يقدر من يقاومها ولا يساوي بين من يقاوم إسرائيل ومن يستسلم أو يصنع السلام معها على حساب فلسطين.
يصعق (س) من وحشية قمع التظاهرات وكثافة إطلاق النار على تظاهرات شعبية بادعاء أن في داخل التظاهرات مندسين مسلحين. ويصدم من أن تكرار الأكاذيب يجعل البعض يكررها على مسامعه هو من دون خجل كأنها رأي في مقابل رأي آخر بنبرة مثل: «ولكن النظام يقول إن هنالك مسلحين داخل التظاهرات!!». وتكررت الأكاذيب واتسع مجال الدعاية والافتراء في تبرير قمع النظام للتظاهرات السلمية. وظهرت بوادر سلوك غريب، النظام لا يتعامل مع الشعب كأنه شعبه، بل كأنه عدو لا بد من ردعه وإرهابه بالقتل والتفنن بالعنف، ولا يتعامل مع قراه ومدنه كأنها وطنه، بل كأنها مزرعته الخاصة، فإما أن تكون ملكاً له أو يحرقها.
(ص) يدّعي بأن (س) تخلّى عن معسكر المقاومة والممانعة. (س) يجيب بأنه مقاوم وأنه لم يتخلّ عن مقاومة العدوان، ولا يزال مناهضاً للسياسة الأميركية في المنطقة، وأنه كان دائماً معارضاً للديكتاتورية والاستبداد، وأنه لم يكن عضواً في معسكر أصلاً، وأنه بدأ يشك بمسألة المعسكرات هذه، وبالهدف منها، وأن (ص) تخلّى عن مبادئه بدعمه لنظام قمعيّ ضد شعب ثائر، وأنه كان بالإمكان في الماضي تسكين الضمير بالتحالف من أجل قضية كبرى، وبأن الشعب السوري صامت أو صامد، وأنه لا يمكنه أن يخوض معركة الشعب السوري عنه. لم يكن الشعب السوري ثائراً ـــ ولا كان يطالب بإسقاط النظام، لكنه ثار الآن، وليس من شاهد زور يكفل من يقف مع القتلة ضد هذا الشعب أمام محكمة ضميره إذا كان له ضمير.
(س) يعرف نفسه، ويعرف أنه لم يغيّر مواقفه بهذا الشأن، ويعرف أن (ص) يعرف أنه لم يتغير شيء، وأن كل ما تغير هو أن موقفه من النظام السوري كنظام حكم أصبح علنياً ومتناسقاً تماماً مع مواقفه الأخرى ضد الظلم، وأن (ص) غيّر مبادئه. (س) يقول إنه يقف مع الشعب السوري، هذا كل شيء، هو لم يتغيّر، بل الشعب السوري ثار، والنظام يقمع شعبه.
يعرف (س) أن حملات تحريض كهذه كانت تدار في الماضي ضد آخرين من اليساريين والقوميين والإسلاميين ممن اتهموا بالخيانة لأنهم انتقدوا النظام في الماضي، ونظّمت ضدهم جوقات فاشية غوبلزية من هذا النوع. وبعضهم صمد، وبعضهم الآخر فقد توازنه واضطر إلى أن يحمي نفسه بالتحالف مع المعسكر الآخر، فليس لكل إنسان شخصية قوية وثقة بالنفس ووزن معنوي يسمح له بأن يبقى وحيداً خارج المعسكرات الإقليمية والدولية. قرّر (س) أن يصمد، فلديه الثقة بالنفس والوزن المعنوي والصدقية، ويعرف أن مثل هذه المعسكرات التحريضية ليست إلا زبداً، وقد اندثرت في حالات تاريخية أخرى، ولم تترك الدعاية أثراً سوى العار الملتصق بمن نظمها وشنها ضد الآخرين أيام ستالين وموسوليني وغيرهما.
لكن الأمر الأهم أن (س) تأكد خلال النقاش أنه مخطئ، وأن (ص) لم يغيّر مبادئه. فقد كان مع «جماعتنا» لا مع فلسطين. وموقفه لم يكن ضد الظلم، بل كان موقفاً عصبويّاً. ثم اكتشف (س) أن فلسطين أصلاً غير مهمة لـ(ص)، لأنه يغيّر موقفه ممن يناضل من أجل فلسطين بموجب موقف هذا المناضل من النظام السوري أو من «جماعتنا». فقد يكون (أ) وطنياً ومناضلاً من أجل فلسطين، لكن (ص) يتهمه بالخيانة والعمالة لأنه عارض النظام السوري. وقد كان (ب) عميلاً تاريخاً وحاضراً، لكنه يقف مع النظام السوري في تقاطع مصالح، فيجعل (ص) منه وطنياً، بل ويُمنح منبراً للتحريض على الوطنيين.
وهذا يعني أن فلسطين ليست مهمة لـ«هؤلاء»، وأن النظام الحاكم، والمصالح الفئوية هي الأساس. يعتقد (س) أن هذا موقف خياني لفلسطين وللوطنيين الفلسطينيين لصالح نظام فاشي، ليس فيه جانب متنوّر واحد. وفجأة يرى (س) الأشياء بشكل مختلف. وتتضح له أمور كانت مشوّشة. فقد كان يعيش في حالة إنكار. هؤلاء يخونون فلسطين مثلما يخونون مبادئ العدل والإنصاف، لا لأنهم كانوا معها، بل لأنهم كانوا دائماً مع غايات أخرى. هم غاضبون لأنهم حسبوا (س) من «جماعتنا»، في حين كان (س) يقف معهم على قضايا عادلة دون حساب للجماعات على أنواعها. تزداد فاشية النظام السوري: شعارات «الأسد أو لا أحد»، «الأسد أو نحرق البلد»، «الله سوريا بشار وبس»، «هي ويللا بشار هو الله»، تتقزّم أمامها تحيّة «هايل هتلر». قصف البلد بالطائرات، طائفية أقلياتية تدعمه بشعارات قومية ووطنية (وحتى يسارية أحياناً)، وتستخدم في ذلك فلسطين، وتهم العمالة والخيانة توزّع الجملة لمن يعارض النظام، كما كانت النازية والستالينية تفعل في الماضي.
وتبقى غصة في الحلق. فبعض اليساريين والقوميين المدافعين عن النظام يعتقدون فعلاً أنهم يقومون بعمل ضد تحالف أميركي ـــ سلفي، ولا يرون الشعب السوري خلال ذلك. ليس ذنب الشعب السوري وجود متعصبين يحملون السلاح ضد النظام ويرتكبون هم أيضاً جرائم في ظل جرائم النظام الكبرى. وليس ذنب الشعب السوري أن أنظمة ودولاً تعادي سوريا لأسباب لا علاقة لها باستبداد النظام الحاكم، ولا يجوز أن يُؤخذ الشعب السوري رهينة هذه الملابسات، وأن يطلب منه أن يسكت على الظلم ويتحمل جحيم نظام بلا ضمير ولا أخلاق بسبب هذه الأمور.
وفي روح (س) حسرة لأنهم ينفّرون الشعب السوري الثائر، والشعوب العربية المتضامنة معه من مواضيع الشعارات التي يستخدمونها، ولأن القوى الخارجية المعادية للنظام لأسباب لا علاقة لها بالديموقراطية والعدالة تبدو كأنها تقف مع الشعب السوري، في حين يلاحظ (س) أنها غير مهتمة بتدمير البلد، وأصوات طائفية ضد النظام تهب من الجزيرة العربية ودول الخليج. ويقع الخطاب الطائفي على أرض خصبة رواها النظام بالدماء والدموع. والبلد يُدمّر.
وسقط الحديث عن التدخل الأجنبي والمؤامرة. لم يتدخل أحد لحماية الشعب السوري من جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية ترتكب ضده بالجملة. وتدخل محور كامل ليس معروفاً بحساسيته لحقوق الإنسان لحماية النظام. وكلما طالت المعركة لجأ الناس الى السلاح، ومن بين من يحملون السلاح دفاعاً عن كرامتهم برزت قوى سلفية تقاتل لأسباب لا علاقة لها بمطالب الثورة الديموقراطية.
ورأى (س) أن النظام يتحمل مسؤولية ردود الفعل على دمويته، وأنه كان يمكنه أن يختصر هذا كله لو تجاوب مع جزء من مطالب الثورة في البداية.
مرة أخرى يشعر (س) أن المتمسك بقيم الحرية والعدالة وبفلسطين والعروبة في الوقت ذاته لا بد أن يمضي في طريقه، وأنه ليس وحيداً يدفعه الأمر الأخلاقي، وعزاؤه أن ثمة سوريين يقفون مع شعبهم من المنطلقات المبدئية ذاتها، وغير سوريين متعاطفون معهم للأسباب عينها، وأن وجود هؤلاء ضمانة لعروبة ووطنية وسيادة سوريا المستقبل ضد الفاشية الرثة الحاكمة وحلفائها من الدول السلطوية والشمولية، وأيضاً ضد خصومها الطائفيين، وضد إسرائيل وضد الهيمنة الأميركية على المنطقة.
اللحظة كثيفة والفرز صعب ودموي، وعنف النظام وهمجيّته لا يتركان مجالاً للمراجعة. النظام يتعامل مع البلد من دون مبادئ ولا أخلاق، بل فقط في صراع مستميت على الحكم. إنه مستعد لأن يضحي بالبلد ذاته، فإما أن تكون مزرعته أو يحرقها. أمر سقوط النظام محتوم أمام شعب كهذا، صمد وحيداً من دون دعم جدي (ولا حتى من أموال النفط) أمام نظام مدعوم بكثافة بالسلاح وبأموال النفط (نفط إيران، وفي الماضي لم يكن لديه مانع من تلقي أموال نفط إمارات الخليج والجزيرة العربية). الشعب السوري لم يتلقّ دعماً لائقاً من أي مكان، إلى درجة أن ثورته وتضحياته أصبحت مصدر حرج للعالم. أصبح الهدف إنقاذ البلد.
وتذكّر (س) أن هذه ليست أول مرة يجد نفسه وسط صراع معسكرات في السياسة العربية التي خلفتها مرحلة الاستبداد. فحين يرفض (س) أن يستخدمه أحدها لأهدافه يعاديه هذا المعسكر. حين وقف مع المقاومة، قدّر البعض مواقفه واحترمها للأسباب الصحيحة، وعادته إسرائيل للأسباب الصحيحة. ولكن بعض الطائفيين وأنصار الأنظمة حسبوا أنه من جماعتهم. وحين اتخذ موقفاً ضد الأصولية المتطرفة وجد البعض يمتدحونه ويدعمون موقفه لأسبابهم الطائفية، وحين وقف ضد حصار غزة، ومع الاعتراف الدولي بنتائج انتخاباتٍ فلسطينية لم يتحمس لها منذ البداية، اعتقد البعض أنه أصبح محسوباً على الإسلاميين. وحين كان يكتب ضد الصهيونية وجد في بعض من أيّدوه أشخاصاً ليسوا ضد الصهيونية، بل ضد اليهود. وحين وقف مع الإسلاميين وحقهم في الانتخاب والترشح حسبه البعض عليهم، وحين ناقش الإسلاميين على مواقفهم تذكّر بعض الإسلاميين أنه ليس منهم، وبدأ بالتخوين والتكفير. ثنائيات عصبوية لا تترك مجالاً للتفكير العقلاني ولا للموقف الأخلاقي.
دفعته هذه الالتباسات في السياسة العربية دائماً إلى شق دربه الفكري والقيمي، وتأسيس طريقه بنفسه. وتذكّر (س) بعدما أنسته الثورات أنه كان قد أعلن تعبه قبل الثورة السورية، وأنه يريد أن يتفرغ للكتابة وأن يزرع حديقته بعيداً عن معارك المعسكرات. قد قال ما عنده بهذا الشأن وكفى. ولكن سوريا غصة في الحلق، ويجب أن تتحقق العدالة لشعبها. والطريق الى العدالة طويل حتى بعد التخلص من النظام، لأن النظام خلّف وراءه ركاماً. سوف تتحرر سوريا قريباً، ولا مفر من الإعداد لديموقراطيتها ضد الفوضى والثأر والاقتتال، ويجب فعل كل شيء للحفاظ عليها من أجل شعبها أولاً، ومن أجل العرب وفلسطين.
ولا بد من التأسيس لجيل جديد متحرر من المعسكرات مناهض للطائفية، سنية كانت أو شيعية أو مسيحية أو غيرها، جيل مدفوع بالحرية والكرامة والعقلانية، ومتمسّك بالثقافة والهوية العربية. لا بد من تسهيل المهمة على جيل يسعى إلى بناء العدالة في ظل السيادة الوطنية، ويؤمن بإمكانية توحيد الأقطار العربية الديموقراطية في اتحاد شعوب عربية ديموقراطية تجسر بين المغرب والمشرق، وبين مصر وبلاد الشام، وفلسطين في قلبه.