لا شيء أكثر أهمية ومصيرية بالنسبة إلى لبنان واللبنانيين من إدراك أنّه لم يعد ممكناً بقاء كياناتهم السياسية (هي تسمية رائجة في العراق خصوصاً، لكنها تلائم أكثر واقع القوى السياسية اللبنانية) شريكاً مضارباً في العلاقة مع قضية الدولة وقضية الوحدة الوطنية وقضية السيادة... هذا الخلل التكويني المكرس في نظام المحاصصة الطائفي ــ المذهبي القائم، يشارف الآن على توليد مستويات خطيرة من المجازفة بقدرة لبنان وصيغته على الصمود إزاء المتغيرات الضاغطة، وأخطرها الأزمة السورية المتمادية.وبمعزل عن دور القوى الأجنبية الكبير في صياغة خرائط المنطقة وفي تشكيل دولها، ومنها لبنان «منذ أواسط القرن التاسع عشر»، فإنّ الصيغة التي استقر عليها النظام السياسي (أي نظام العلاقات بين اللبنانيين) قد استدعت دائماً، بسبب الانقسام والصراعات وهشاشة الضوابط ووهن المشتركات الداخلية، استدعت التدخل الأجنبي: للاستقواء أو لتعديل التوازنات أو للحفاظ عليها. ومع مرور الزمن، بات هذا التدخل تداخلاً عضوياً في الشأن المحلي. وبما أنّ الغلبة والقرار هما دائماً للأقوى على حساب الأضعف وللكبير على حساب الصغير، فقد ترسخت معادلة ارتهان الداخل للخارج على النحو المخلّ الذي نعيشه ونعاني منه اليوم.

ولا تجد القوى المختلفة والمتصارعة غضاضة في ذلك. لا بل إن الاعتراف بهذا الأمر قد ارتقى إلى مستوى المجاهرة والتفاخر. فالارتباط بقوة خارجية (دولة أو مرجعية سياسية أو روحية) قد بات عنوان قوة؛ إذ يكون المرتبط «مسنوداً». وخلاف ذلك يسأل عنه من قبيل النيل من قدرته على المواجهة أو المنافسة أو الحصول على حصة في الكعكة اللبنانية المتناقصة باستمرار.
من رحم هذه الذهنية، أو الثقافة المشوهة، ولدت معادلة السين ــ سين مثلاً. ولم تفعل التطورات والتفاعلات والأزمات خصوصاً سوى تكريس دور الخارج على حساب الداخل. وهكذا باتت الحلول مستعصية والحروب الأهلية ممكنة والخسائر مرتفعة إلى أن تنعقد التسويات الخارجية وتنفتح لنا أبواب الطائف في 1989، أو أبواب الدوحة في 2008.
والمضحك المبكي في آن واحد، أننا أدمنَّا هذا النوع من العلاقات. لا بل إننا نشعر بنوع من «الامتيازات» التي تولدها. ولقد بالغ البعض إلى حد الشعور والتصرف على أنّه الولد المدلل لدى الفريق الخارجي الذي يرتبط به. وليست قليلة الحالات التي طاولت فيها الأزمات بعد أن استفحلت الانقسامات. وكان لبنان واللبنانيون هم من يدفع الثمن: من التماسك والاستقرار والأمن والوحدة الوطنية والسيادة. أما الخسارة الكبرى فكانت تقع على الدولة التي يتراجع حضورها ودورها باستمرار لمصلحة الدويلات المحلية والدول الخارجية. كان الجميع يأخذ من المشترك الذي هو الدولة، لحسابه الخاص، أي لحساب المجموعات والقوى السياسية المستقوية بالخارج والمرتهنة له. وبهذا المعنى باتت الدولة هي الفريق الأضعف. فالخسارة عندما تقع، تدفع ثمنها وحدها، أما خسارة الآخرين فنسبية جداً. فهم شركاء في الربح لا في الخسارة. وبذلك أصبحوا شركاء مضاربين ينالون من الأرباح عند الحصول عليها ولا يشاركون في الخسائر عند وقوعها.
لكن اللعبة تتعقد باستمرار مع تعقد الظروف ونشوء المستجدات وتبدل التوازنات. وهذا ما يعيشه ويعاني نتائجه فريق 14 آذار حالياً. إنه يتعجل القطاف. وهو يظن أن الظرف مواتٍ. هو يحسب أن حلفاءه قد انتصروا، وأن أعداءه قد هزموا. وهو بوصفه الابن المدلل يستطيع أن يقطف الثمار سريعاً وقبل أوانها. وحيث إن «الغرض مرض» كما تقول الحكمة الشائعة، فقد أعماه استعجاله القطاف الذي يرتجيه عن رؤية حقائق الصراع في لبنان والمنطقة والعالم.
ينبغي القول بدءاً، إنّه ليس في هذا الصراع منتصر بالمطلق وخاسر بالمطلق أيضاً. لا بل إنّ النتائج في حسابات الربح والخسارة قد تكون متكافئة بهذا القدر أو ذاك. لقد خسرت موسكو في ليبيا، لكنها تواجه الآن في سوريا، بكل مُقدراتها العسكرية والسياسية والديبلوماسية والأمنية. إن ما تحاوله روسيا والصين ودول صاعدة أخرى هو إعادة تشكيل لخريطة التوازنات الدولية انطلاقاً، تحديداً الآن من الأزمة السورية. ويدور في موازاة ذلك وبالتفاعل معه، صراع ضار لتشكيل الشرق الأوسط الجديد: وفق التصور الأميركي أو وفق تصور مضاد. وكذلك دخلت ساحة الصراع قوى جديدة كبيرة وصغيرة. قوى شعبية وقوى سياسية؛ تيارات وإثنيات؛ طموحات وبرامج...
ويجدر القول أيضاً إنّ اللوحة معقدة حتى بالنسبة إلى الفريق الواحد. فجديد الأحداث ومفاجآتها وخصوصاً البعد الشعبي الهائل في الانتفاضات العربية، قد أربك حسابات الكبار والصغار، وفرض بالتالي على أكثرية المعنيين من اللاعبين والمتضررين، إعادة النظر في الحسابات والتقديرات والخطط والبرامج...
إلا في لبنان! فهنا تستمر اللعبة التقليدية في خطوطها العامة والتفاصيل. لا يستنتج معظم المعنيين شيئاً سوى السعي إلى المزيد من المكاسب الفئوية. ولا يزدادون بالطبع إلا مزيداً من الخفة ومن الاستخفاف بمصير بلدهم. ليست أبداً بطولة وإنجازاً أن يجري تعيين عدد من السفراء وفق التقاسم التقليدي. الخطير أنّ القدرة على احتواء الأزمات الداخلية والوافدة لا تتجاوز الصفر: مقاطعة الحوار، مقاطعة مجلس النواب، مقاطعة مجلس الوزراء، مقاطعة اللجان، طرح الحد الأقصى من المطالب والأعنف من الاتهامات، التشنج المذهبي المفتوح على أسوأ الاحتمالات، التلويح بالقطيعة بعد المقاطعة وصولاً إلى التقسيم نفسه...
هذه البضاعة ليست ما يحتاجه لبنان. هو يحتاج إلى أمر آخر نقيض لها: يحتاج إلى مراجعة عميقة، ستفضي من وجهة نظر لبنان ووحدته الوطنية وأمنه واستقراره، إلى سياسات أخرى ومقاربات أخرى وقيادات أخرى.
هل تحصل المعجزة؟ هل في الوقت متسع؟ هل تنهض قوى الإنقاذ إلى دورها التاريخي: ماذا يريد الشعب في لبنان؟!
* كاتب وسياسي لبناني