منذ دخوله المعترك السياسي اللبناني، بدا الرئيس نجيب ميقاتي مشروعاً سياسياً واعداً، وزعامة تتجاوز التقليد، باتجاه أداء سياسي مبدع. وقدم الرئيس نجيب ميقاتي نموذجاً مميزاً وخاصاً في الحكم؛ ففي مسيرته أداء مختلف عن باقي السياسيين الذين سبقوه في سدة الرئاسة الثالثة، أو في البرلمان كنائب، أو في الوزارة كوزير. استطاع أن يجمع في شخصه وأسلوب حكمه، وأدائه السياسي عدة مزايا من أسلافه: أخذ من رشيد كرامي رفض الحزبية، ومن سليم الحص النزاهة، والموضوعية، ومن الحريري النهوض الاقتصادي، وهمّ رفع مستوى التعليم، ومن صائب سلام الموقف والتحدي.في حكومته الأولى، ورغم عمرها القصير، حقق الرئيس ميقاتي عدة منجزات كانت البلاد بأمسّ الحاجة إليها، وهي خارجة من زلزال استشهاد الرئيس الراحل رفيق الحريري، وأولها وأهمها، استيعاب الخضات الناجمة عن الاغتيال، وتهدئة البلاد قبل السقوط في الفوضى المطلقة. هكذا أطلق شعار الوسطية صمامَ أمان لبلد تتعذر التسويات فيه بسبب شدة الانقسامات العمودية، وقاد الانتخابات النيابية بحيادية وعبر بالبلد إلى التهدئة وإمرار قطوع الاستحقاق الانتخابي بسلام. وفي غمرة الانقسام والاصطفاف بين 14 و8 آذار، أدى دور امتصاص الصدمة.
وعلى الصعيد الانتخابي، ترأس لائحة 14 آذار في انتخابات 2009، كي لا يخرج عن الإجماع الطرابلسي، حرصاً على موقف طائفته ووحدتها، وعلى عدم خرق الجدار الطرابلسي.
في الحكومة الثانية، أمسك العصا من الوسط وحفظ كل تركة تيار المستقبل في السلطة، وحرص على عدم التفريط في أي من ثوابت 14 آذار، وخاصة تمويل المحكمة الدولية، وحماية قادة الأجهزة الأمنية، وعدم السماح بممارسة الكيدية. لم يتصرف نجيب ميقاتي على أنّه يترأس حكومة 8 آذار، بل أعطاها بعداً دولياً مع مظلة كافية لاستمرار البلد. ومنذ مجيئه إلى الحكومة الثانية، عمل على تفكيك الكتل الشعبية المواليه له، كي يبتعد عن النمط الميليشيوي، مركزاً على ترسيخ دور المؤسسات ليعبر إلى الدولة. ولم يسع ليكون لديه شارع مقابل شارع. في المقابل، كانت القرقعة حوله كبيرة من فريقي 14 و8 آذار، وهذا دليل على حياديته.
ومنذ اندلاع الأزمة السورية، دخل لبنان مرحلة من مراحل الضعف، والتفلت والتجاذب، ولم يعد لبنان تحت سقف التوازن الإقليمي بتحويل سوريا إلى ساحة مواجهة، وتصفية حسابات، وتداخل معظم الحدود: اللبنانية، والسورية، والأردنية والعراقية، والتركية، وتحويلها ساحات اشتباك. وعندما انقسم اللبنانيون إلى فريقين متنافرين على خلفية الأزمة السورية، حاول الرئيس ميقاتي حفظ ما يمكن عبر نأي البلد عن الالتحاق بالأفرقاء المتصارعة المتمثلة بمحورين قويين: غربي ــ عربي مقابل روسي ــ صيني ــ إيراني.
ولكي يمنع تفاقم الأمور بين الأفرقاء المحليين في تصارع مواقفهم إزاء الأحداث السورية، ترك الأفرقاء اللبنانيين يعبّرون عن مواقفهم كل بحسب رغبته، فسمح لمن شاء بالتضامن مع الثورة السورية، ولمن شاء بالوقوف إلى جانب النظام، كل على طريقته، شرط عدم الخروج عن الخطوط الحمر، فامتلأت طرابلس وغيرها من المناطق باللاجئين السوريين، دون اعتراض من الرئيس ميقاتي بل مد يد العون لهم من منطلق إنساني ــ أخلاقي.
استمر فريق الرابع عشر من آذار بالرهان، والمغامرة، والتحريض، والتفريط بكل مقدرات البلد، وزجه في أتون مقامرة لا هوادة فيها مقابل استرداد السلطة، مستحضراً كل مفردات الخطاب الطائفي والمذهبي، وصولاً إلى محاولة الانقلاب الثاني ودخول السرايا.
لا شك في أن الرئيس ميقاتي استطاع العبور بالبلد من قطوع إلى آخر، في ظل الانقسامات الحادة، والاصطفافات الطائفية، والمذهبية، وتفشي ظاهرة السلاح، ولعبة المحاور، واحتدام الأزمة في سوريا والمراهنات.
في غمرة الضياع، والوقت الضائع، وبانتظار التسويات، استمر في حياديته متمسكاً بالوطن، والبحث عن سبل إنقاذه. وفي أوج الهجوم على السرايا، ابتعد عن الشارع وأبعد مناصريه بالرغم من أنهم يتمتعون بقواعد شعبية صلبة، رافضاً ردود الفعل.
لم يهن، ولم يضعف تحت وطأة الضغوط التي مورست عليه من أجل الاستقالة، لكنه عرف كيف يقارب المأزق بحنكته البليغة، فصاغ موقفاً شديد الذكاء، قوامه أن الاستقالة في سياق التمسك بالسلطة شيء، وترك البلد فريسة للفراغ والتقاتل شيء آخر.
إن ممارسة الحكم عند الرئيس ميقاتي نمطية خاصة غير معتادة في اللعبة البرلمانية اللبنانية. جمع التصلب في موقفه، وأطلق يد الجيش اللبناني وبذلك أحرج المراهنين على السقوط الحتمي للدولة، ولم يلجأ إلى ردّ فعل عشوائي يعطي ورقة لخصومه، فأفشل مظاهر المراهقة السياسية التي طغت على السطح في الأيام الأخيرة، وفضح جهالة قراء الموقف الدولي والإقليمي.
نجيب ميقاتي باختصار، رجل دولة لم يلعب لعبة العصبيات، واكتفى بالرهان على الدولة حلاً وحيداً للإنقاذ، فأنجز بذلك شعارات رفعتها قوى الرابع عشر من آذار وعجزت عن تحقيقها. من شعارات العبور إلى الدولة، وحماية المؤسسات، وصون مقام رئاسة الحكومة، هي قالت وفشلت، وهو الذي حقق بنجاح ما ادعته ورفعته من شعارات.
نجيب ميقاتي بذلك هو رجل الدولة الحقيقية، وهو العابر إلى الدولة اللبنانية العصرية حيث فشل الآخرون.
*كاتب لبناني