ثمة قضايا تشير إلى أسباب الخوف من اليسار الثوري في سوريا. حدّة المفاجأة، أنّ أكثرية الخائفين منه هم من بقايا اليسار ذاته. التاريخ الذي ينتقم لنفسه دائماً، يعاقبهم على هشاشة الرؤية والسياسات اليسارية التي امتلكوها تاريخياً وحالياً. فقد ثاروا في زمن لا ثورة فيه، وتلبرلوا حين ثار الشعب، والشعب بنظرهم مخطئ في الحالتين: قديماً حين لم يلتحق بهم وحديثاً حين ثار دون أخذ الأذن منهم. هؤلاء يعلنون الجهاد المقدس ضد أي يسار ثوري يحدّد موقعه بالانخراط بالثورة، كونها ثورة شعبية، تسعى لتحقيق مصالح الطبقات الشعبية، والمتمثلة في وضع اقتصادي أفضل في نظام علماني ديموقراطي وفي بلد يسترجع أرضه المحتلة ويرفض السياسات الامبريالية كسياسات عولمة، بالمعنى الرأسمالي المعروف وليس من بوابة عقلية المؤامرة والشياطين الكونية.أولى تلك القضايا، رفضهم الجازم لأي تعريف للثورة خارج ثيمة «ثورة الحرية والكرامة»، علماً أنّ هذه الثورة أتت بسياق شروط اقتصادية ليبرالية تعمقت منذ عام ألفين وحتى اندلاع الثورة. هذا موضوع معروف لجميع المهتمين بالوضع السوري، إذ دمرت الزراعة وتراجع الصناعات وبعضها دمر بسبب الانفتاح على تركيا ولا سيما في ريف دمشق، وازداد أعداد العاطلين من العمل بشكل كبير، ولكل هذه الأسباب كانت تلك الشروط الحاضنة الفعلية للثورة. أما قضايا الحرية والكرامة المطروحة، فهي بالتأكيد قضايا أساسية في الثورة، فلفظة الحرية، هي لفظة تدلّ على الرغبة الجارفة في الخلاص من كل هذا العوز المادي والسياسي والثقافي في مجتمع مبعد عن السياسة ويُساط كل يوم بمفاهيم الاشتراكية والمقاومة والوطنية والعداء للكيان الصهيوني.. هذه القضايا هي إرث لفظته الثورة كلية وتبنت بديلاً عنه لفظة الحرية، ككلمة رددتها كافة الثورات العربية مع لفظة العدالة، التي يسقطها ليبراليو سوريا، عدا الدور النشط للشباب السوري اليساري والليبرالي في بدايات الثورة وتأكيدهم بالضد من مصطلحات النظام الأساسية على فكرة الحرية. وبالتالي هذه الثورة لها بعد اقتصادي أساسي لاندلاعها، والانزياح نحو مفردة الحرية لا يغيّر في الأمر شيئاً، ويبقي مطلب العيش الكريم والعدالة الاجتماعية أساساً للثورات.
ثانية القضايا، رفض مصطلح الثورة الشعبية المرتبطة بالطبقات الشعبية المتضررة من السياسات الليبرالية، وفصم كل علاقة بين الليبرلية كسبب اقتصادي للثورة، وذلك بقصد وحيد هو تبني الليبرالية بعد سقوط النظام كسياسة اقتصادية. وبالتالي تكمن المشكلة في هيمنة الدولة برأيهم وليس في تلك السياسات. وإذا كنّا ننتقد تسلطية الدولة واحتكاريتها لجزء كبير من الاقتصاد، دون أن ننسى أن الاقتصاد السوري محكوم أيضاً لسياسات ليبرالية رأسمالية من خارج اقتصاد النظام؛ فالثورة في وجه منها هي ضد اقتصاد الدولة وضد اقتصاد السوق. نقصد هنا، أن السياسات الاقتصادية الليبرالية المحمية من النظام التسلطي، هي من أسباب التأزم والثورة.
والثورة كثورة شعبية هي ضد الليبرالية الاقتصادية وضد الليبرالية السياسية إن جاءت بسياق تلك الاقتصادية منها؛ فما يصار إليه من تظاهرات واحتجاجات واضرابات في كل من تونس ومصر بعد الثورات أكثريته محدد ضد السياسات الاقتصادية الليبرالية الباقية نفسها وضد التسلط المعاد إنتاجه إسلامياً هذه المرة على الشعب، وبالتالي الثورة السورية، اندلعت ضد الليبرالية والتسلط وهي الآن كذلك، وسيبقى الشعب ثائراً إلى أن يحقق أهدافه التي أشرنا لها أعلاه. لا يمكن ليساري ألا ينخرط في الثورة، وبالتالي على يساريي سوريا، التخلص من ترفعهم عن الخوض بمشكلات الفقراء وعدم الاكتفاء ببعض الكليشيهات الليبرالية.
ثالثتها، تلعب الأصول الطبقية لمثقفين وساسة كثر من اليساريين دوراً في انزياحهم الشديد نحو اللبرلة، فهم بالأصل من أصحاب المشاريع الشخصية، وقد لاقى اليسار في السبعينيات هوىً في زمن شبابهم، فانخرطوا فيه، وفعلاً دفعوا ثمناً غالياً من حيواتهم وحيوات ذويهم. ولكن ذلك الأصل، دفعهم وقد وصلوا سن الرشد الليبرالي نحو المطابقة بين فكرهم وواقعهم الطبقي. طبعاً يمكن لفقراء أن يكونوا ليبراليين ويمكن لأفراد من أصول طبقية متوسطة وأثرياء أن يكونوا ماركسيين أقحاحاً. فكرة المطابقة الجديدة بين الواقع والفكر في ذهن هؤلاء، مرتبطة بنقد بل وتهجم شديد على كل ما هو يساري، فاليسار الثوري يوضح حجم ورطتهم إزاء تاريخهم، فقد كانوا يساريين هواة وصاروا ليبراليين هواة. ولكن دافعهم الفعلي هو كما أشرت موقعهم الطبقي، وإن كانوا في موقعهم السياسي الجديد، متضررين من الليبرالية ذاتها التي يسعون إليها، باستثناء قلة دخلوا عالم المال، وصفّوا حساباتهم مع تاريخهم مع ديمومة الاستفادة منه لغايات شخصية ومالية جديدة.
رابعتها البراغماتية الساذجة، وهي تبنّي أفكار وسياسات تقاربهم من الليبراليين والاسلاميين من أجل انتصار الثورة وإسقاط النظام كما يدعون. هذه الفكرة تقوم على عدم الثقة بالشعب، لأنها من جانب آخر، تقود إلى تمييع الموقف من التدخل العسكري، بل وتستجديه بقوة، وذلك لتحقيق الهدف السابق، رغم أن أي قراءة لواقع الثورة السورية والموقف الداعم للنظام من قبل كل من روسيا وإيران، وقراءة السياسة الدولية الخاصة بالمواقف الأوروبية والاميركية توضح أنّ لا مصلحة لتلك الدول بالتدخل العسكري، وإن أكثر أشكال التدخل، سيديم الصراع لزمن طويل، تتدمر فيه الدولة بكل مؤسساتها ويتأزم التكوين الأهلي، وبالتالي يحقق النظام التسلطي بممارساته الهمجية ما تصبو إليه تلك الامبرياليات. أكثر من مثّل هذا الاتجاه مؤيدو المجلس الوطني بشكل فج، ومؤيدو هيئة التنسيق كذلك عبر إنكار دور الشعب في الثورة والوقوف خلف الدور الروسي لحل الصراع. فالموقف الدولي هو التالي: إن السياسات الدولية الروسية والأميركية تضر بالثورة وبالدولة ولا مصلحة للشعب فيها، وهي فقط تمنع تحقيق الثورة لإسقاط النظام بأقصر مدة.
عدم الانطلاق من هذا الفهم أربك الثورة نفسها، وأدخلها بسيرورات طبيعية هي سيرورات المكون العسكري وانتقال الصراع من ثورة شعبية بامتياز إلى ثورة شعبية مسلحة للرد على نظام كان يطور بأساليب القمع والدمار لديه كلما ارتقت الثورة واتسع نطاقها على الأراضي السورية. براغماتية الشعب أمر مفهوم، فهو شعب ترك أعزل بعد وضع اقتصادي متدهور ومعارضة عاجزة ونظام همجي، وبالتالي انفتاحه على الخارج بشعاراته وبتلقّيه المساعدات وغير ذلك، كلها مسائل ضرورية لاستمراريته على قيد الحياة وفي مواجهة عنف النظام اللاعقلاني. وكون تلك المساعدات محدودة بالأصل يعمّق براغماتية الثورة ويمنع ارتهانها للخارج، وهذا بعكس المعارضة التي أصبحت براغماتيتها وبالاً على الثورة وعائقاً يمنع تحقيق انتصارها، فسيطرة تلك المعارضة، منع تشكّل وعي ثوري عند كافة أفراد الشعب السوري، ومنع اشتراك الكثيرين فيها رغم تضررهم الكبير من النظام. ورغم كل ذلك فإن همجية النظام وضرورة الثورة وسعا رقعتها. وقد لعبت براغماتيتها بالتحديد دوراً في تصاعدها.
خامستها، وهي الأسوأ، استبعاد مفردات التحليل الماركسي لفهم الواقع من خلال مفاهيم الطبقات والصراع والواقع الاقتصادي واستبدالها بعدة شغل طائفية، تنطلق من مفاهيم الأكثرية الدينية والأقليات الدينية، واستخدامها أدوات تحليل لتركيبة النظام ولتركيبة الثورة كذلك. هكذا صار النظام علوياً وحامياً للأقليات وصارت الثورة سنية، وبذلك تم تدمير أسبابها الفعلية الاقتصادية والسياسية للثورة، لتصبح مجرد ثورة سنية ضد نظام علوي. هذا منطق رديء في فهم ما يحصل، ولكنه يلقى مؤيدين كثراً عند ليبراليينا، متخيلين بذلك تحميس الطائفة السنية وحدوث ثورة عارمة وإسقاط النظام بسرعة خاطفة. هذه العقلية تخلط بين الحساسيات الدينية وبين الطائفية، وتخلط كل الأمور ببعضها، ليصبح ما انتقدناه هو الحقيقة، بينما الحقيقة أن كل ذلك مجرد كلام شعبي ناتج من وعي صوري أولي، يحق للشعب أن يتكلمه وهو لم يتكلمه سوى كحسياسات دينية، أما الطائفية والأكثرية والأقليات، فهي بالنسبة إليه حساسيات دينية ولا علاقة لها بالطائفية السياسية. الشعب الثائر لو شاء الطائفية، أي لو تملكته بالفعل، لرأينا الطائفية منذ اليوم الاول، لكن ورغم كل محاولات النظام دفعه نحو ذلك، فإنّه بقيّ محدّداً هدفه ضد النظام. هؤلاء الساسة حينما أداروا الوجه عن المنهجية الماركسية أصبح منطقهم طائفياً، وفيه يخفون ميلهم الليبرالي الفعلي. وبالتالي، وبدلاً من أن ينسجموا مع أنفسهم ويحللوا الواقع كواقع رأسمالي متخلف، حللوه كواقع تحكمه البنى القروسطية، وهم بذلك يدللون على ضعف الانشغال بالواقع والثورة وبسياسات النظام، لصالح استسهال كلام عمومي لا يفيد سوى في إعاقة تطور الثورة واستمرار النظام باللعب فيها. والحقيقة أنه لولا قوة الثورة الشعبية، لدمرتها المعارضة المكرسة منذ الايام الاولى لها.
اليسار المنخرط بالثورة، انطلق من أنّ هذه الثورة شعبية ونتاج عوامل اقتصادية ولن يدعمها أحد من دول العالم، وأن دعمها سيكون لصالح سياسات تهدف إلى تدمير الثورة لا انتصارها. إذ للثورة أهداف اقتصادية وسياسية وتغييرية للمجتمع، وأولها العدالة وتأمين فرص عمل وإشاعة الحريات العامة ونظام ديموقراطي ووطن كامل السيادة، وبالطبع قيام العمل على إعمار ما دمره النظام بخبرات وطنية بشكل رئيسي، والتعويض لكافة الفقراء عما آل إليه وضعهم.
هذه القضايا هي من مسلّمات أي عمل ماركسي، فكيف إذاً هي أهداف الثورات العربية؛ اليسار المشوش وليس الليبرالي هذه المرة معنيّ بالتخلص من خوفه وفساد وعيه وامتلاك وعيه الثوري ومعرفة مصلحته الكامنة في الانخراط بالثورة والتغيير من خلالها حصراً. فلا مكان لليسار في سوريا خارج الثورة، وكل يسار متحالف مع السلطة أو يمتهن النقد ويثابر على التنديد ببعض أخطاء الثورة ولا يرى تقدم الثورة، لا مكان له فيها، وربما لا مكان له في الدولة القادمة.
* كاتب سوري