القاهرة ستنام مبكراً. لم تعد هذه امنية الحكام الجدد، لكنه قرار من مجلس المحافظين باغلاق المحلات العاشرة مساء، لتخرج القاهرة من موقعها على رأس المدن التي لا تنام. هكذا تنام سطوة البيروقراطي السعيد ومهمته الجديدة، ومعه المسؤول الحالم بفرض سيطرته على الفضاء العام. يحلم الحكام الجدد بهندسة للفراغ تتيح لهم تنفيذ احدى وصايا حسن البنا المشهورة بالنوم في التاسعة، لتنفذ كتالوغ الانسان الصالح. ليس الامر متعلقاً بخطة ترشيد الكهرباء، لكنها رسالة انذار للشعب المنفلت «اننا هنا»، والفراغ الذي شغله مبارك بالعسكر والمتلصصين وكمائن الاستعراض البوليسي، سيشحن في عصر الاخوان بموظفين ودعاة اخلاق رشيدة وحماة فضيلة منثورة في كتالوغات ترسم العالم الافتراضي في مدينة تحت السيطرة. انهم يعادون مزاج القاهرة في صنع تجاورات تبدو لزائرها مرعبة، الازمان كلها موجودة في القاهرة: الحي والميت، النشيط الذي يزحم الشوارع في الصباح، واهل الليل الذين يشكلون شعباً آخر. وبين النشطاء والليليين يعيش اغلب سكان القاهرة. مدينة لا يحددها برنامج فوق العادات اليومية. لا ساعات العمل ولا مواقيت الحكومة ولا دورات النهار والليل. يمكنك ان تجد القاهرة وقتما تريد... هذا سحرها وجاذبيتها وصدمتها للزائرين القادمين من مدن ترسم ايقاعها على لوائح الافادة. الحكام الجدد يريدون ان تغيّر القاهرة ايقاعها، وتتحول الى مدينة مطيعة للائحة. اين سيذهب شعب الليل اذن؟ ومتى يجد الغرباء والمغامرون الهاربون من النشاط النهاري مكاناً يحرسه اهل الليل؟ الجميع ينتظر متحفزاً لكل من يقترب من حدوده: اصحاب المقاهي والمحلات يتوعدون من سيطلب منهم التزام القانون، والذين يعيشون في سهر القاهرة يشعرون بخيبة اضطرارهم للدفاع عن مساحتهم. اما الارقام فتشير الى انّ تطويع المدينة سيجلب خسارة لا يمكن تجاهلها. القاهرة ليست مجرد مدينة فوضوية، لكنّها فوضى تركب على نظام، او تشعر معه بالندّية، وهذا ما يبدو مزعجاً لاصحاب الكتالوغات. لكن هواة الحياة يرون فيها انسانية فالتة من «النظام الحديدي» وتمرداً على جاذبية الماكينة الكبيرة التي تبتلع داخلها سكان المدن الغربية وتلقيهم خارجها في نهاية الاسبوع. ماكينة القاهرة فريدة، وربما وحدها مع الهند، لا يطغى نظامها على فوضاها ابداً. هل يستطيع الاخوان تحقيق ما فشل فيه السادات ومبارك، وكلاهما فكر في اقتحام الفضاء الوحيد المسموح فيه بحرية الحركة؟ اراده السادات لصنع صورة المدينة الغربية، هو الذي فتح المجال لترييف القاهرة بضرب الطبقة الوسطى، والسماح بهجرات الشطار، واستكماله مشوار عبد الناصر في اهمال شكل المدينة لصالح وظيفتها البحتة في استيعاب اكبر قدر من السكان. ومبارك بقدراته المذهلة في نشر الانحطاط والانانية المفرطة اطلق شرارة القضاء على كل ما يمكن تعريفه بالمجال العام. هكذا تكررت حكاية رجل من الشطار يلمح بعينه مساحة فارغة بين بنايتين من مباني وسط البلد، يضع قدمه الاولى، وقطعة خشب مستطيلة. يضعها بعد ذلك على حاملين لتصبح طاولة، ثم مع مجموعة مقاعد تصبح نواة مطعم. وبعد اشهر قليلة تختفي المسافة بين البنايتين تحت لافتة المطعم الشهير الذي يتزاحم الناس ويتحلقون حول طاولاته. اختفت تحت هذه الهجمات الممرات والساحات العامة. انّها مسابقات لاحتلال المساحات الفارغة، حتى لو كان هذا على حساب «المساحة العامة». كل ما هو عام محل صراع من غرائز متوحشة ومثار رعب سواء كان مستشفى او مدرسة او هيئة حكومية او شارع. الشوارع للتحرش. والهيئات الحكومية لممارسة سادية الموظفين. والمدارس لتخريج جيوش عاطلين ومحبطين وخانعين، ومثل غيرها، تحوّلت إلى حديقة حيوانات صغيرة، لأنّ التعليم لم يعد مصنعاً من مصانع روابط المجتمع. التعليم في مصر يصنع الجُزر ويقيم الحواجز. هناك ما يقرب من 8 انظمة تعليمية كلّ منها يخلق عادات وشعوباً تلتقي في الشوارع، لكن لا شيء يجمعها. وبعد الثورة استكمل الشطار عصر تدمير المجال العام. احتل كل من يستطيع (بدخوله مافيا ادارة الباعة المتجولين) او يرغب في موقع بمدينة تلقيه الى هامشها ويستعيد اليوم قدرته على احتلال قلبها. كل من يستطيع او يمتلك قوة وضع يده على مكان يسيطر عليه ولا يحركه منها إلا الاقوى منه. وما دامت الدولة قبضتها ضعفت فالانتقام وارد... باحتلال كل ما يمكن احتلاله من مجال عام.


استبدال الأخلاق بالسياسة

العلاقة مربكة فعلاً بين السلطة والأخلاق، تفتح كل يوم سؤالاً عميقاً. ماذا يحدث لمن يصل الى السلطة؟ هل يدخل فضاءً سحرياً يبدل كيانه ويحوّله الى كائن سلطة؟ قلة الكفاءة أعادت الدولة في مصر الى عصورها البدائية، حيث الأساسيات صعبة من قارورة الغاز الى الطريق الآمن، والتصورات السلطوية أيضاًً أعادت الرئيس ومستشاريه الى ما قبل الدولة. مرسي وفريقه من فصائل إلغاء السياسة، يستبدلونها بالأخلاق، ويكاد أن يكون شعارهم: «ما دمنا في الحكم فاطمئنوا». نرجسية ترى الديموقراطية وسيلة لوصول الحكم الى مستحقيه، ومجرد وجود كل هؤلاء الرجال الطيبين في موقع السلطة، فإنّ الخير تحقق. هذه النرجسية كاشفة الآن لمأزق رهيب يخص تيار استقلال القضاء الذي هز مصر كلّها في ٢٠٠٥ عندما كشف عن تزوير الانتخابات وأصبح كل من المستشارين محمود مكي وهشام البسطويسي رمزاً لثورة القضاة على الطغاة. الآن، هذا التيار في الحكم والمستشار محمود مكي هو نائب الرئيس وشقيقه الأكبر وزير العدل. أما رمز هذا التيار المستشار حسام الغرياني، فهو رئيس الجمعية التأسيسية ورئيس مجلس حقوق الإنسان. هم جميعاً شركاء في إعادة هندسة الفراغ السياسي ليكون مركز السلطة المسيطر والمهيمن، وحجتهم أنّ السلطة الآن نظيفة اليد وأنّها في أيدي مخلصين. الأخلاق هنا بديلة للسياسة، مع أنّ طبيعة الشخص ترتبك أمام السياسة التي هي عملية لها سيرورة، وليست حدثاً تستعرض فيه الأخلاق نصاعتها. بدا واضحاً الآن أنّ مفهوم استقلال القضاء لم يرتبط في مفهوم هذه المجموعة بالحريات، ولكن بهيبة القاضي. ولهذا، فحكايتهم الأيقونية هي حكاية القاضي العز بن عبد السلام الذي أصر على بيع الحاكم المملوكي لأنّه مملوك. هيبة القاضي هنا لم تحرر العبد، لكنّها اعتبرت أنّ تنفيذها للثقافة السائدة ندية مع السلطة. وهذا المفهوم يرتبط بالسلطة ويرى «أنني ما دمت موجوداً في السلطة فهي نظيفة». وليغلق الفضاء على هذه الذوات النظيفة ولا مجال للحريات أو لهندسة خارج حدود هذه الهيبة النرجسية. هكذا فإن أول مشاريع وزير العدل قانون جديد للطوارئ، يحاول أن يمرره فيفشل، فيغيّر قناعه ليصبح «قانون الحفاظ على مكتسبات الثورة»، باعتبار أنّ الثورة هي الرئاسة الآن ولا شيء خارجها. وانتصار الرئيس في معركة النائب العام ولو كانت تنفخ سلطة الرئيس، فإنها بالنسبة الى مهندسها، نائب الرئيس، تطهير للقضاء لأن نيتها جيدة ومن يقوم بها رئيس طيب. هذا تقريباً ما يدور في عقلية الحكم، فهم يستبدلون السياسة بالأخلاق، ويعتبرون ذواتهم بديلاً من الكيانات السياسية، ووجودهم وحده يكفي. وهي مفاهيم وتركيبات ستدمر نفسها بعد أن تكون قد ساهمت في مزيد من الكوارث.



وحش الشاشة الجديد



يتصور الرئيس المنتخب انّ الديموقراطية هي وعاء انشائيات، يمد يده فيه قبل كل خطبة، بينما يبني جسور نرجسيته ليصل بها الى لذة الاستمتاع بمذاق السلطة المطلقة. هذا هو حال مرسي بعد تلك الليلة الفارقة التي خاض فيها حربه على النائب العام بينما كانت ميليشيات جماعته تقتحم ميدان التحرير لتهتف على طريقة جمهور كرة القدم: «بنحبك يا مرسي» و«حرية وعدالة... مرسي وراه رجاله». رجال خلف مرسي، هذا اعلان الميليشيا عن نفسها. قطعان شعبوية تدافع عن الرئيس ضد معارضيه، وتهددهم بالرجولة العنيفة. الرئيس اراد ان يكمل استعراضاته بالميليشيا. استدعاها مرة في السلم وملأ بها «استاد القاهرة» في احتفالات اكتوبر، وفي العنف حين طلب منها تفريغ ميدان التحرير من قوى سياسية ارادت ان «تحاسب» الرئيس عما فعله في ١٠٠ يوم. اول مليونية منظمة ضد مرسي استعد الرئيس في مواجهتها باستعراض وميليشيا، وكلاهما انتهى الى كارثة. الاستعراض الى فضيحة، والميليشيا الى جريمة قمع جديد، سجلت لتكون علامة فارقة كما كانت ماسبيرو لحظة فارقة في العلاقة بين الثورة والعسكر. لم يكن أحد يتخيل، الا على سبيل المبالغة، أنّ الاخوان سيستخدمون ميليشياتهم لقمع تظاهرات تطالب بـ«كشف حساب» للرئيس. لكنّها وقعت، وبشكل يثبت انّ هناك في الجماعة من يرى استخدام الميليشيات اسلوباً لانقاذ الرئيس من ارتباكه، او من فشله في الحصول على طيف واسع من الشعبية. مرسي لا يدرك انه يحكم في مرحلة انتقالية، اي انه عابر في لحظة عابرة، كما كان العسكر. لكن هؤلاء لم يصدقوا ذلك وفعلوا كل كوارثهم من اجل البقاء كنواة صلبة في الجمهورية الجديدة، ورحلوا بعد ان خسروا شعبيتهم. مرسي يتصرف كما لو كان رئيساً يحكم ويرتب اجهزة الحكم لتوافق هواه وهوى قبيلته المشتاقة الى اعلان سيطرتها واحتلال موقع الحزب الحاكم، كما كان في موديل الجمهورية التسلطية. مرسي لم يجد بجواره الا الجماعة. هم الرصيد الشعبي الوحيد الذي يمكنه ان يركب السيارة المكشوفة امامهم في الاستاد وهم يلوحون له بالاعلام التي وزعها عليهم وزير الشباب والرياضة مع اذكار المساء التي طبعتها جماعة الاخوان المسلمين. الرئيس أصبح اسيراً للجماعة اكثر بعد وصوله القصر الرئاسي وهذا ما يجعله ينسى غالباً انّه ليس مندوباً في مهمة من مكتب الارشاد، ولكنّه رئيس دولة في لحظة انتقالية، وهذا سر الاخطاء المتتالية في الاقتراب من مؤسسات حساسة مثل القضاء. والجماعة لديها مستويات متعددة في التعامل مع واقع جديد عليهم، بعدالوصول الى السلطة، واتساع المسافة بين تصرفاتهم كجماعة عقائدية او دينية، وبين وجودهم في الحياة السياسية كحزب سياسي. ظلت الجماعة تناقش: هل نتحول الى حزب ام نبقى كجماعة اكثر من ٢٠عاماً. لكنها اجبرت بعد الثورة على اعلان الحزب السياسي وهو ما لا يوافق افكار قطاع ليس صغيراً، يرون ان فكرة الحزب رفضها حسن البنا وانها تؤثر سلباً على الوحدة العضوية في التنظيم الذي قام اساساً للاحتجاج على بناء دولة حديثة.
المسافات داخل الجماعة لم تتحول الى اجنحة سياسية، لكنّها تضع الجماعة امام سؤال المستقبل خاصة مع اتساع الضغوط السياسية والاجتماعية لإنهاء حالة الغموض التي تترعرع فيها الجماعة بعيداً عن قوانين الدولة التي تحكمها. الكيان الغامض للجماعة يسمح بهذا التباين الظاهر في الموقف من كارثة ١٢ اكتوبر التي دفعت فيها ميليشيات لتصفية تظاهرة كشف الحساب. من الذي اعطى الاوامر بنزول المليشيات؟ ومن سحبها؟ بين السؤالين يبدو الموضوع الاعقد هو تحويل الرئيس لقضية هامة مثل تطهير المؤسسات التي تمثل عماد الدولة، الى ورقة في لعبة تمكينه او اثبات شعبيته. هكذا مثلاً حوّل مرسي قضية اعادة بناء مؤسسة القضاء الى قضية خاسرة، بل وتم تقوية الجناح المرتبط بنظام مبارك، كما لم يكن ممكناً قبل فيلم النائب العام. هل هي الرعونة وعدم الخبرة الكافية من الرئيس وفريقه وقبيلته؟ ام انّها العلاقة المركبة بين رئيس يريد شعبية وبين جماعته التي تريد الحكم؟ الجماعة هي الرصيد الوحيد لدى مرسي بعد ان اظهر عدم قدرة على جمع اطياف السياسة حوله، وتحركه وفق كتالوغ قديم جداً للرئيس الزعيم الملهم. وبعيداً عن عدم امتلاك مرسي مقومات الزعامة الملهمة فهذا ليس زمانها في العالم كله (الا في انظمة استبدادية منقرضة مثل ايران)، وفي مصر على وجه التحديد. وكلما امعن مرسي في السير باتجاه هذا الموقع خسر الكثير لانّه سيصبح اسير من يمنحه هذه السيطرة من الجماعة (وميليشياتها) واجهزة الدولة الامنية (الشرطة والمخابرات)، والتي لم يتوقف عند دورها في اخفاء الادلة والمعلومات في جرائم الثورة، واكتفى بقدرته على تشغيلها او استخدامها في فرض السيطرة.
الرئيس مرة اخرى اسير جماعته التي ارتكبت جريمة كبيرة بنزول ميليشاتها لقمع المعارضين متصورة انّها تحمي الرئيس، وربما لتوصل رسالة للرئيس بأنّها حاميته الطبيعية. والرئيس الذي يبدو في خطاباته الاخيرة يبحث عن اعداء ويعيد خطاب الضحية رغم انّه في السلطة، لكنّه الخطاب الوحيد الذي يكسب به الاخوان حتى وهم يرسلون ميليشياتهم يحملون العنف الى ميدان التحرير. هكذا، ومثل فيلم مقاولات، لم يهتم احد في الرئاسة بالحبكة، ولا بتفاصيل الشخصيات ولا بالمكان والزمان، ولا بأي شيء سوى ان يظهر وحش الشاشة يضرب خصومه ويسقطهم على الارض بينما كلمة النهاية تكتب بالخط الرديء نفسه الذي كتب به اسم الفيلم. في فيلم المقاولات الطويل الذي مر منه حتى الآن ١٠٠ يوم، ليس الهدف سوى تحويل مرسي الى «وحش الشاشة». بينما تظل كل الطرق تؤدي الى ديكتاتور جديد لا يريد ان يغيّر، يسعى الى ان يسيطر. والفارق كبير بين ان تكون رئيساً يساهم في وضع نظام جديد وبين ان تكون رئيساً يسعى الى الحكم «على قديمه» ويبني خطته كلها على نقل السيطرة على اجهزة الدولة الى نفسه. يبدو هذا الفارق بوضوح في ازمة النائب العام، الذي تصوّر مرسي انّ المطالبة حتى قبل الثورة باقالته ستمنح شعبية لقرار الاقالة. لم يدرك مرسي وفريقه وقبيلته انّ المهم هنا هو «كيف تتخذ القرار وفي اي سياق، وطبق اي مفهوم، والا لكانت الثورة توقفت عندما وعد مبارك بالاصلاح، او قبلت كما قبلت جماعة الاخوان، وبينهم مرسي نفسه، صفقة عمر سليمان. لكن الثورة لا تريد تغيير اشخاص او احزاب. تريد تغيير العقد بين الحاكم والشعب، وبناء دولة مؤسسات لا دولة يستعرض فيها الوحش عضلاته. مرسي اتخذ قرار الاقالة بمنطق استعراض العضلات وهذا ما اكدته رواية المستشار عبد المجيد محمود عندما كشف عن تهديدات واضحة على التليفون من المستشار احمد مكي والمستشار الغرياني. وكلاهما لم يرد على رواية النائب العام ولم يبرر التهديدات. ولانه فيلم مقاولات كتبه سيناريست محدود، فانّ اختيار النائب العام ليكون كبش فداء هذه المرة كان خارج التوقيت، لأنّه ليس مسؤولاً عن التحقيق في قضية موقعة الجمل، وثانياً لأنّ الرئيس نفسه وبالفريق المصاحب نفسه، والقبيلة الاخوانية نفسها، اعتبروا الالتراس بلطجية حينما طالبوا باقالة النائب العام قبلها بأسابيع. ولأنّ السيناريست فاقد للموهبة ويعتمد فقط على ما يتخيله من تصفيق الجمهور، او يتصور انّ هذا الجمهور قادر على صنع «غلوشة» كبيرة فإنّ مرسي اتخذ قراره بطريقة مبارك نفسها، ولكن بخبرات اقل. لم يقل احد من المستشارين الكبار حول الرئيس انّه ليس من حقه اقالة النائب العام، ولم يقل له احد انّ المهم ليس استبدال شخص بشخص، ولكن في هندسة جديدة للعدالة لا تخضع فيها لقبضات الحاكم. قالوا له: سر على بركة الله، وخلفك حشد من قبيلتك وسينتهي الامر. ولأنّ اللعبة هنا هي اعلان وجود مسيطر جديد، فإنّ المسيطر القديم دافع عن نفسه، وحشد كل قدراته ليصبح بين يوم وليلة المستشار عبد المجيد محمود. وبسبب الرعونة هو رمز الدفاع عن استقلال القضاء في مواجهة محاولات السلطة وتغولها على القضاء. هكذا انتهى الفيلم بمسخرة ان يتحوّل رموز نظام مبارك الى «ابطال» في مواجهة وحش الشاشة الذي استدعى جماهيره ليكونوا معه في ساعة المعركة الكبيرة.
وبالفعل تحركت ميليشيات الاخوان باتجاه التحرير من اجل افساد مليونية «كشف الحساب»، باعتبارها معارضة للرئيس الذي يخوض معركة ابتلاع الدولة. لماذا تعطل المعارضة الرئيس وتكلمه عن الحساب وتطالب بدستور لكل المصريين وعدالة اجتماعية؟ لماذا تعطلون الرئيس بهذه المطالب وهو الذي اقال النائب العام؟ انّكم خونة. وهكذا شحن قادة الجماعة جمهورها الى الميدان ليشهد التحرير يوم ١٢ اكتوبر/ تشرين الأول ٢٠١٢ ولادة ميليشيات الاخوان لقمع المعارضة. الميليشيات تشبه قادتها في الرعونة والارتباك وعدم القدرة على الحسم والاعتماد على اثارة الفزع، لكن ظهورها جريمة سياسية كاملة الاوصاف، واستدعاء لاساليب منقرضة حتى في الديكتاتوريات. هكذا يحول الديكتاتور جماهيره الى قطعاناً يخيف بها معارضيه ويفك بها مفاصل الدولة لتقع بين يديه. ميليشيات الاخوان قامت بتحريض علني من قادة مثل الدكتور عصام العريان الذي يبدو انّه يبحث عن موقع وعزوة في الجماعة، يعوض بها ثقله الخفيف. ولهذا يتصرف باضطراب يقترب من العصاب والهستيريا.
الفيلم لم ينته بعد، إذ ظهر أنّ انصار بناء دولة جديدة على اسس ديموقراطية اكثر مما نتوقع. وظهر ايضاً انّ اساطير الاخوان عن انفسهم وميليشياتهم اقل مما نتوقع. وظهر ايضاً انّه اصبح مفهوماً انّ التغيير لا السيطرة هو المطلوب، وان الحل ليس استبدال نائب عام تابع لمبارك بنائب عام تابع لمرسي، او استخدام اسلوب «شلوت لفوق» نفسه بدلاً من المحاسبة. المهم انّه لم يعد مقبولاً الضحك على الثورة باستعراض العضلات، لأنّ الثورة لم تقم من اجل تنصيب وحش الشاشة الجديد.