حملت الانتخابات الديموقراطيّة الأولى، التي شهدتها بلدان الربيع العربي، تيّارات الإسلام السياسي إلى السلطة، في ما يمكن اعتباره تتويجاً لصعودها وانتشارها الواسع خلال العقدين الأخيرين. ذلك أنّه رغم عدم وجود أي دور لهم في انطلاق الثورة، بل حتّى إنّهم استمرّوا في موقف المتفرّج المتردد، وبالكاد سجّلوا حضوراً متأخّراً بمشاركات خجولة في حراك الشارع المنتفض، إلا أنّ الإسلاميين استطاعوا في تونس ومصر الحصول على أصوات الناخبين.
ناخبون وجدوا في الدين ملجأهم الآمن طيلة عقود من التهميش والفقر، في ظل القهر والاستبداد وسحب السياسة من المجتمع. وعبر التعبئة الدينية الشعبويّة، والأموال الطائلة التي بُذلت في «أعمال الخير» الانتخابيّة، تصدّر الإسلاميون المشهد الانتخابي على حساب ضعف قوى المعارضة التقليديّة، من قوميين ويساريين وليبراليين. قوى فشلت في إقناع الشارع بأنها بديل حقيقيّ، وخصوصاً أنّ مصطلحات من قبيل «القومية والعلمانية والحداثة» ارتبطت في أذهان العامّة بأنظمة القمع والديكتاتورية بعدما انتحلتها زوراً الأنظمة الساقطة ردحاً من الزمن.
حتّى الحركات والتجمّعات الشبابيّة، التي أسّسها نشطاء الثورة ومفجّروها الفعليّون، لم تتمكّن من حجز موقع لها في المشهد السياسي لما بعد الثورة يتناسب مع دورها في التغيير. يعود السبب إلى التشرذم وقلّة الخبرة في العمل العام المنظّم ومتطلّباته، مقابل قوة الإسلاميين التنظيميّة والماليّة الهائلة، فضلاً عن الخبرة المديدة في العمل السياسي والاجتماعي.
غير أنّه على الرغم من زعمهم احترام الديموقراطية والتزامهم بها، لا يبدو أنّ الإسلاميين قد نجحوا حتّى الآن في تبديد الشكوك التي طالما راودت عدداً غير قليل من المثقّفين والمفكّرين حول مدى جدّية التزام الإسلاميين بقواعد اللعبة الديموقراطية والتداول على السلطة. بعبارة أخرى، لا يزال هناك من يحذّر من «ديموقراطية المرة الواحدة»، إذ إنّ لفظة: الديموقراطيّة لم تتسلّل إلى أدبيّات التيّارات الإسلاميّة إلا أخيراً، حين لمسوا صعودهم في الشارع، بعدما كانت معظم قوى الإسلام السياسي تكفّر الديموقراطية وتكفر بها لزمن طويل، وبالتالي لا يعدو حديثهم عن «الدولة المدنية» أن يكون حيلة لفظيّة في ظل ضبابيّة المفهوم وإشكاليّته.
في هذا السياق، يغلب على الخطاب الإسلامي اختزال الديموقراطية وتخفيضها إلى جانب من آليّاتها الإجرائية، بحيث تكاد لا تعني غير «صندوق الاقتراع». وتبيّن الوقائع مدى تدخّل السلطة الدينية لدعاة الحركات الإسلاميّة واستغلال نفوذهم «الرّوحي» بغية التأثير على خيارات «المؤمنين» السياسيّة، أو حتى «تكفير» الخصوم السياسيين والفئات الأخرى، ما يفرغ عملية الانتخاب من مضمونها الديموقراطي ووظيفتها في تجديد الجسم السياسي للدولة.
ومع تصحّر الحياة السياسية، وافتقار البلدان العربية إلى إرث ديموقراطي حقيقي وحداثة عهدها بالانتخابات، قد يحيل هذا الوضع إلى «قانون العدد»، أو سيادة الأغلبية العددية عوضاً عن سيادة الحقّ والقانون، وصولاً إلى منطق (الغَلَبة) واحتمالِ سيطرة الكثرة على القلّة في مجتمعات ذات غالبية مسلمة بالأساس، ويشغلُ الدّين حيّزاً هامّاً من وعيها. ولا أدلّ عليه من الخيار العاطفي الانفعالي للناخبين والذي عبّر عنه ناخب مصري سُئل عن سبب انتخابه للمرشحين الإسلاميين فأجاب «علشان دول بخافوا ربّنا»!
هذا المشهد سيفتح الباب واسعاً أمام تحدٍّ كبير ينتظر الحكّام الجدد يتمثل في كيفيّة التعامل مع مخاوف «الأقلّيات» الدينيّة والمذهبيّة. معالجة هذا التحدّي ستفرض التخلّي تدريجاً عن العباءة الأيديولوجية لأنّ بقاءها سيعزز لغة الانقسام ويدفع بالأقليّات إلى الانكفاء على نفسها، فتتحوّل الطائفة إلى فاعل سياسي جمعي بديل من الأفراد المنتمين لها وخيارهم الحر الواعي، وتغدو مصالح الجماعات ونغمة «الخصوصيّة» هي لغة التخاطب السياسي على حساب المواطنة والمساواة الحقوقيّة، أساس قيام الدّولة الديموقراطيّة الحديثة وعد الثورة وشعارها الأبرز.
لن يكون ذلك التحدّي هو الوحيد الذي على الإسلاميين مواجهته. فالاحتجاجات الشعبيّة التي دشّنت الربيع العربي لها أسباب تكمن في الأزمات الاقتصاديّة والاجتماعيّة المتفاقمة التي وإن كانت النظم السابقة هي المسؤول الرئيسي عنها، إلا أنّ سقوطها لا يعني زوال تلك الأزمات تلقائيّاً. بالتالي، لن يكون من السهل تجاوز امتحان المرحلة الانتقالية دون تناول المسألة الاقتصادية والاجتماعيّة بالجدّية اللازمة.
يبدو أنّ الإسلاميين يدركون هذه المعادلة وهم يتعاملون معها ببراغماتيتهم المعهودة، فقد أبعدوا كوادرهم ذات الوزن السياسي عن الواجهة، واعتمدوا بشكل أساسي على التكنوقراط في الحكومة، بحيث يمكنهم التهرّب كقوّة سياسيّة من المسؤولية المباشرة. لكنّ المواطن الذي منح صوته لمن «يخافون الله»، ما لم يشعر بتحسّن ملموس في معيشه اليوميّ، سيعيد النظر في خياراته الانتخابيّة اللاحقة، بغضّ النظر عن ألاعيب المرشدين والسياسيين.
لا يزال من المبكّر الحكم على تجربة الإسلاميين في السلطة، ومن غير المجدي محاسبتهم منذ الآن على النيات أو الأيديولوجيا. لكنّ ذلك لا يعني التقليل من مخاوف انقلابهم على الثورة ومخاطر عودة الاستبداد بوجه جديد مقدّس هذه المرّة. لكنّ ما يجب على الجميع إدراكه، أنّ الشعوب التي عرفت طريقها إلى الشارع وتحدّت نظم الاستبداد وأسقطتها طلباً للحرّية والعيش الكريم لن تتوانى عن فعلها ثانيةً إذا تطلّب الأمر ذلك. أجل، فالعالم العربي لم يعد كما كان قبل أن يحرق البوعزيزي نفسه.
* كاتب سوري