بركان الأحداث المُتسارِعَة في المنطقة سبَّبَت حِمَمُه مَرَضاً سياسيّاً يعمُّ المَشهد العربيَّ، ليس بالجديد في مقاييس نمطيّة الأفكار المُجتمَعيّة، لكنَّ الجديد أن يستشري في الأوساط الإعلاميّة، والأكاديميّة في كلِّ المحافل كظاهرة صوتيّة، ومهنة للكسب السريع بلا ضوابط ومقاييس تحت مُسمَّى المُحلِّل السياسيِّ والاستراتيجيّ، وكأنّه قدر شعوبنا المتخومة بالأميّة المعرفيّة، والثقافة الجماهيريّة أن يُساهِم في صناعتها تجّار التحليل السياسيّ كجزء من كوليرا ثقافيّة تحصد ضحايا الثرثرة المُستديمة، والفكر المُستورَد؛ فجعل تُجّارها قواعد خاصة تُحيط بهم كمناهج خاصة بالتحليل السياسيّ.
هذا الإفراط صنع حشرجة في صناعة الرأي العامِّ العربيّ، وكأنَّ السياسة أصبحت مركزاً للتزحلق على الجليد -على حدِّ تعبير نزار قباني-، أو ضرباً في المندل، أو قراءة الكف لا يُحتاج فيها إلى أبجديّات القاموس السياسيّ، بل بحقٍّ إنه عصر استباحة العلوم السياسيّة والقواعد العلميّة في التحليل السياسيّ.
الجهل السياسيّ الذي سيجعل اﻵباء االمؤسسين في عالم فنِّ المُمكِن يبكون في قبورهم نادمين وهم يسمعون التحليلات التي تدِّعي فهم المنظومة المعرفيّة في فهم مُتغيِّرات الأحداث، والتحوُّلات الدوليّة بعيداً عن أيّةِ مُقارَبة أبستميولوجيّة تدخل في فهم الطبيعة المعرفيّة للمنظومة منذ التقاليد الآرسطيّة إلى يومنا هذا. حالة تردٍّ واضح في فهم جوهر مُتغيِّرات السياسة، وكأنَّ هذا الاختصاص قد تعلَّق بالظاهرة الأميركيّة، والأوروبيّة، وإنَّ العرب حالة خارج سياق التاريخ بهذا الخصوص، والانقطاع التاريخيّ الذي سبَّب هذا الفراغ الهائل كَمَا يُعبِّر عنه الفيلسوف الفرنسيّ ميشيل فوكو في كتابه نظام الأشياء The order of Things إلى مفهوم الإزاحة المعرفيّة Displacement، وما يترتّب على ذلك من انقطاع، أو فراغ معرفيّ. المُحلل السياسيّ هو من المُفترَض أن يكون ابن المُؤسَّسة الأكاديميّة الذي دَرَسَ، واستوعب مناهج التحليل السياسيِّ بصِيَغه العلميّة، وعاش الإطار النظريَّ بكلِّ تفصيلاته، وجدليّاته، مُتلقياً المناهج الأكاديميّة في الدراسة المُستقبَليّة، والقدرة على قراءة ما بين السُطور. وَعادة ما يرتبط -أيضاً- بمراكز الأبحاث والدراسات، علاوة على العمل ضمن الوظائف الجامعيّة.
ظهور هذا النمط له أسباب عِدّة، من بينها: غياب الرؤية السياسيّة Political Vision للنخبة الثقافيّة والاجتماعيّة، وابتعاد المُؤسَّسات الأكاديميّة المُتخصِّصة عن الواقع، وكأنّها حرصت على دراسة قضايا خارج نطاق المنطقة، والأحداث المُلتهبة كنوع من الترف الفكريّ. وتخيَّل أنَّ جامعاتنا تهتمُّ بالعلاقات بين اسبانيا والبرتغال، والاقتصاد في جمهورية التشيك، والبطالة في بولندا، ولا تُقدِّم أيَّة دراسات تتعلّق بغول داعش الذي يمتدُّ في المنطقة، ولا بتلك الدراسات الضروريّة المتعلقة بفهم ظاهرة التطرُّف، علاوة على غياب الدراسات المُستقبَليّة في مناهج العلوم السياسيّة في الدراسات العربيّة؛ لذا تحاول قفزاً على العُرف السياسيِّ من دون تأنٍّ أو تأصيل، فوقعت في بئر التجهيل، وهيمنت عليها عفاريت المُؤامَرة، وتقدَّمت نظريّات تُجّار التحليل السياسيِّ على كلِّ مُعادَلات الفكر السياسيِّ، ونظريّات العلاقات الدوليّة، والتنظيم السياسيّ، وأصبحت الفضائيّات هوليوود نجوم مواسم التحليل العربيّ، كما يقول الكاتب اللبنانيّ سمير عطا الله إنَّ "المحلل السياسيّ في وسائل إعلامنا العربيّة هو ببساطة شخص يقول لك ما سيحدث غداً، ثم يقول لك في اليوم التالي، لماذا لم يحدث ما قال إنه سيحدث غداً".

تخيَّل أنَّ جامعاتنا تهتمُّ
بالبطالة في بولندا ولا تُقدِّم أيّة دراسات تتعلّق بغول داعش

الهَذيان التحليليّ اعتمد على مصادر أحياناً مدفوعة بشحن الكارت المُسبَق الدفع عبر مناهج التحليل العربيِّ التجاريّ، ومن أبرز تلك المناهج: منهج المُؤامَرة الجنونيّة.
مرض العصر الفكر السياسيِّ العربيّ القديم المُتجدِّد من خلال استغفال الجمهور باستدعاء نظريّة، ومنهج المُؤامَرة Conspiracy Theory بكلِّ موقف، وحدث خصوصاً عندما يتعرَّض البلد إلى تهديد خارجي... الكسل السياسيّ، والاجتماعيّ، وخميرة الخمول المعرفيّ جعلتنا نبحث عن الشمّاعة التي نُعلِّق عليها أخطاءنا بطريقة غير واقعيّة، ونفضّل عزو كل ما نراه خُصُوصاً مشروع تنظيم داعش الإرهابيِّ ذلك المشروع ابن بيئتنا العربيّة المُتطرِّفة إلى رمي كلِّ ما يحصل إلى الغرب، وكأنَّ مناهجنا، ومدارسنا لا تعلِّم التطرُّف أبداً، ورفاهيّتنا الاقتصاديّة لا تُساعِد في صناعة البيئة المُناسِبة لولادة الداعشيّ، وباعتبار منهج التحليل السياسيِّ التجاريِّ يقوم على تبسيط الأفكار من دون البحث عن عمقها، وجذورها الفكريّة فإنه يبحث عن استصراخ الهيجان الجماهيريِّ لكي تكون له شعبيّة مصنوعة من إيهام الجمهور في مطبّات لا تغني، ولا تسمِنُ من جوع.

منهج الفوتوشوب السياسيّ

مَعَ تنامي دور وسائل الاتصال الاجتماعيّ بدأ الزيف الإلكترونيّ عبر مطابخ مُخصَّصة لصنع الرأي العامّ المُضادِّ تعمل، وتُروِّجُ أكاذيب في إطار التنافس السياسيِّ، أو الصراع باستخدام المكياج السياسيِّ لبعض السياسيِّين مقابل تشويه الآخر، وهذا المنهج يمتاز بسرعة الانتشار؛ لأنّه يعتمد على العاطفة، والسرعة في التسويق السياسيّ، ولكن -في المقابل- يعتمد معايير واضحة، وقادرة على التشويه في ظلِّ المُجتمَعات الافتراضيّة العربيّة عبر تحليل الظواهر السياسيّة بالاعتماد على معايير تصريحات، وأخبار سياسيّة مُزيَّفة، أو غير حقيقية. مثلاً من حسابات وهميّة، أو مواقع، ووكالات التزييف، ويُبنى عليها التحليل السياسيّ، والفيسبوك اليوم أكبر ميدان تطبيقيّ لهذا المنهج.

منهج أحلام اليقظة

نقطة الجذب في واقعنا الاجتماعيِّ باستخدام تعويذة (أنا أعتقد) التي يحملها المحلل السياسيّ التجاريّ في رسم سيناريو هوليووديّ للأحداث السياسيّة، وشرك الاستحواذ الدراماتيكيّ، وكما يحبُّ العرب المسلسلات التركيّة، والمكسيكيّة، والأفلام الهنديّة فإنَّ هناك رغبة ضروريّة في اختلاق القصص، والأحداث، وتفاصيل مُجرَيات لقاء صُنّاع القرار، وكأنَّ المحلل السياسيَّ التجاريَّ يجلس تحت طاولة الحوار، ويختلق أحداثاً، ومواقف ليس لها وجود سوى في مُخيَّلته، ويعمل منها Newsworthy story لمُتابعيه بعيداً عن قاعدة مَن يمتلك ناصية المعلومة يتجنَّب مغبّة التحليل.


منهج الاستقلاليّة المزعومة

وإذ إنَّ الإيمان المطلق لا يُمكِن العُثور بتاتاً على الاستقلاليّة في قاموس السياسة والإعلام، وهي مُفرَدة بعيدة كلّ البُعد عن الواقعيّة في عالم السياسيّ، ولكن أن يمضي المحلل بإيديولوجيته المُفخخة ليزيد وقود النار الطائفيّة التي تشتعل في المُجتمَع في عالم يعيش الانتقال من عصر الإيديولوجيا إلى عصر المعلومة؛ لذا لا بحث عن الوسطيّة والاعتدال إذ أصبح السؤال المُتكرِّر: مُحللو الأحزاب، ومُحللو المعارضة والحكومة. ولهذا بدأ أكثر رُوّاد التيّار الثقافيّ الانعزال بعيداً عن عالم فنِّ المُمكِن؛ لأنَّ الإغراب فقد سكونه، وفسَّروا نظريّاته على نظمهم التجاريّة الرخيصة.
* مدير مركز بلادي للدراسات والأبحاث الاستراتيجيّة ـ العراق