تشي الأنباء القادمة على أثير الفضائيات وشبكاتها، بأنّ «الجيش السوري الحر» يوسع انتشاره، وينقل مركز القيادة الى الأراضي السورية، وتالياً، سيظل التوسع سارياً وممتداً حتى السيطرة على كل الأراضي السورية، أو جزء كبير منها، فيسقط النظام. ورغم كل التطورات، والآلاف من الخسائر في صفوفه، تستمر الفضائيات وشبكاتها في بث الأخبار المتناقضة، فمن جهة، تضخم اعداد القتلى اليومية، لكن من جهة ثانية، تتحدث عن توسع السيطرة على الأرض تمهيداً للانتصار المحتوم والقريب.بعد مضي سنة وأكثر من نصف سنة، باتت كل المدن السورية تحت قبضة الجيش السوري، وخرجت الحركات المعارضة منها تحت ضغط الجيش العسكري. بضعة أحياء لا تزال تشهد مناوشات لا بد منها في حلب. أما بقية المدن، فقد فشلت المعارضة في الصمود فيها. وتمكن الجيش السوري، نظراً إلى تماسكه وصلابة بنيانه، أن يعيد السيطرة على المدن بعد تكرار الأحداث فيها، كما جرى في ريف دمشق، وحمص ودرعا وادلب وسواها، أكثر من مرة.
الحالة السورية لم تكن في يوم من الأيام إلا استثنائية. إلا أنّها اليوم، في الحركات التي شهدتها سوريا، ريفاً ومدناً، لم تخرج عن قاعدة الثورات العالمية، إذا صحت تسمية الحركة في سوريا «الثورة». فالتاريخ سجل نوعين من الثورات الرافضة لأنظمة الحكم، والانتصارات كانت حليفة نوعين منها: إما الثورات المدينية، أساساً، أو الريفية أساساً. ولم يعرف شكل ثالث من الثورات المظفرة. ويؤدي تاريخ وبنية المجتمع الدور الأساس في تحديد نوع الثورات الملائمة لكل حالة، وليس الأمر انتقائياً للقائمين بالثورة.
الثورات المدينية انطلقت في المدن انتفاضات شعبية عارمة، تمكنت بزخمها الشعبي الحاشد والكبير من إسقاط الدكتاتوريات. واتسمت هذه الثورات بسرعة الوصول إلى الأهداف، وكانت متاعبها، وخسائرها أقل بما لا يقاس في الثورات الريفية. نذكر على سبيل المثال الثورة الفرنسية في 1789، والثورات الأوروبية عامة، والثورة البلشفية في 1917 من ضمنها. وتوضع غالبية التحركات والثورات العربية في الخيار الثاني، إذ تعدّ طبيعة الثورات العربية مدينية بداهةً بسبب ضعف الأرياف سكاناً ومجتمعات وطبيعة وعملاً، بينما تكتظ المدن بالسكان. فالقاهرة المصرية تضم ما لا يقل عن 8 ـ 10 ملايين، اضافة الى أنّ الصناعة المصرية تعدّ صناعة متطورة، وهي تتركز في المدن. وتعد دمشق 6 ملايين، وحلب تقارعها، وبغداد تجاريها.
لا يخالف الوضع الراهن في سوريا قانون الثورات في العالم العربي، فواقع المجتمع السوري مديني بغالبيته، وتتركز غالبية الأعمال والسكان في المدن. بينما يتكوّن الريف السوري من تجمعات قروية صغيرة قياساً بالمدن، ولا ينتج سوى بعض الحاجات الحياتية، ولا تتكوّن فيه قواعد شعبية واسعة وموحدة الأعمال. في بعض هذه الأرياف، اتخذت المعارضة السورية المقاتلة المتمثلة في «الجيش السوري الحر» ملاذاً لها بعد خروجها من غالبية المدن، وتحاول متابعة الصراع من هناك.
لم تكن ثورات الأرياف التي شهدها القرن العشرين، تجارب عابرة، بل كانت كل منها تاريخاً بحد ذاته، حاملة أسماء كالحروب الشعبية الطويلة الأمد. اسمها يوضح مداها، وآفاق عملها التاريخية. انطلقت هذه الثورات في الأرياف كالثورة الفييتنامية، والثورة الكوبية، أو أنّها بدأت إرهاصات في المدن لتنتقل بعد ذلك إلى الريف كالثورة الصينية. استطاعت هذه الثورات تجنيد جماهير الأرياف في صفوفها، وأن تمثّل الجماهير حاضنات لها، ترفدها بالثوار المقاتلين، وتؤمن لها المأوى عند الحاجة.
ولو قارنّا بين بدايات وتطورات الثورات العالمية المذكورة، من جهة، والدور الذي يقوم به الجيش السوري الحر، من جهة ثانية، لأمكننا أن نتلمّس بعض الشيء حجم الفرق بينهما، والآفاق المنتظرة لهذا الجيش. في بدايات الثورة الفييتنامية، اعتمد الثوار على أنفسهم في المقاومة، والحصول على العتاد، والسلاح بأساليب بدائية. استخدموا فخاخ الوحوش، والحفر، وجرار النحل، والقصب للسباحة تحت ماء المستنقعات، وأشكالاً كثيرة من الطرق البسيطة، لاصطياد أعدائهم ومصادرة أسلحتهم التي أمنت التسلح لهم، فتمكنوا من توسيع رقعة قتالهم والساحات التي سيطروا عليها. إلا أن «الجيش السوري الحر» يعتمد على الخارج لتأمين السلاح، ومقاتلة جيش بلده الوطني. يستمد الدعم المالي والعسكري من دول الجوار، ويقاتل به ابناء بلده. كان اتضاح ذلك كافياً منذ البداية لجماهير الشعب السوري، ليترددوا في دعم المعارضين.
تقرّب الفييتناميون من جماهيرهم، وعاشوا حياتهم، وتقاسموا معهم السراء والضراء، ومارسوا عاداتهم مراعاة لمشاعرهم، فكسبوا ودهم، وأمنت الجماهير لوطنية الثوار، وحرصهم على بلدهم، وتأكدوا من عدائهم للمعتدي الأجنبي، فاندمجوا معهم، وباتت الثورة واحدة جماهيرَ وثواراً.
في الصين، جرى ما يشبه التجربة الفييتنامية، حيث عايش الثوار الماويون حياة الشعب الصيني الريفية وهم في مسيرتهم الكبرى من المدن نحو الأرياف. كذلك راعوا تقاليدهم، فلم «يأخذوا إبرة من الجماهير»، و«لم يداعبوا النساء»، كما قيل وقتها، وساعدوا الشعب على مواجهة مشاكله، ومارسوا كل ما ارتاحت إليه قلوب الشعب، فتكوّنت للثورة الصينية القاعدة الشعبية الحاضنة. كان الثوار يواصلون مقاتلة أعدائهم في نظام الحكم، والقوى الخارجية الداعمة لهم، وفي الوقت نفسه يعيشون بين الجماهير، ويواصلون ممارساتهم الثورية الانسانية معهم، إلى أن اشتد عودهم، ونظموا صفوفهم بعد انضواء أبناء الشعب في صفوفهم، وكانوا يدفعون آلاف الشهداء في المواجهات الشرسة مع خصومهم، لكن الشعب لم يبخل عليهم برفد الثورة بالمزيد من المقاتلين من أبنائه. «الجيش السوري الحر» لا يجد ما يكفي من أبناء الشعب السوري ليقاتلوا في صفوفه، وجل الذين يقاتلون من السوريين، تغريهم أموال الخليج ودول الغرب، أما غالبية المقاتلين، فهم من متشردي الآفاق، الذين لا يجدون أعمالاً ولا مصادر حياة في دولهم المدقعة الفقر، فيأتون مرتزقة لتأمين العيش بالقتال حيث يجدون من يشتريهم.
و«الجيش السوري الحر» ومجموعات المعارضة الرافدة له، قتلوا أبناء شعبهم تحت حجج الدعم للنظام. لم يتوانوا عن أسوا الممارسات، ولم يتقبلوا انتقاداً من الناس، ولا تبرر اتهاماتهم لمن سموهم «شبيحة» و«مخابرات» وما شابه... إساءاتهم إلى الجماهير جعلت هؤلاء ينكفئون عن التحرك، ودعم معارضي النظام، وبقي «الجيش السوري الحر»، ومسلحون معارضون، في عزلة خارج الوطن، ولم يبقَ لهم إلا الإمداد الخارجي يعتاشون عليه ليستمروا.
استغرقت الثورتان الفييتنامية والصينية خمسة عشر عاماً، معتمدتين على نفسيهما في كل احتياجاتهما، قبل ان يأتيهما أي دعم من الأصدقاء الحلفاء لقضاياهما الوطنية في مواجهة الوجود الاستعماري الفرنسي والأميركي فيهما. وكانتا كلما تقدم الزمن، تنامت قوتهما، وصلب عودهما، واستغرقتا ما بين 25 و30 سنة حتى تحقيق النصر النهائي. أما «الجيش السوري الحر»، فهو يشن حرباً ضد جيشه الوطني، مستخدماً أموالاً وأسلحة مأجورة، لم تعد حقيقتها ولا مصادرها، خافية على أحد.
ويكفي أنّه لم يعد موجوداً سوى في بعض من الأرياف، وخصوصاً القريبة من الحدود، حيث يمكن امداده بالعتاد والسلاح من الخارج.
ربما يحتاج الكلام إلى جرأة أكبر للقول إنّ الأزمة السورية انتهت على المستوى العسكري، وما يجري ليس إلا مناوشات لتقطيع الوقت، ربما، بانتظار تسوية محلية وإقليمية ودولية، لم تنضج بعد، أو حتى ينضج موعد الحسم.
* كاتب لبناني