70 ألفاً، حسب الإخوان المسلمين، أو أقل من عشرة آلاف، وفق الأمن العام الأردني، كان عدد المشاركين في «جمعة إنقاذ الوطن»، في 5 تشرين الأول 2012 في عمان؟ الرقم الواقعي، وفقاً لحسابات المراقبين والصحافة العالمية، يدور حول خمسة عشر ألفاً. ولا يعدّ هذا الرقم تطوّراً نوعياً في كمّ المشاركة في فعاليات الحراك الشعبي، التي شهدت مسيرات واعتصامات شارك فيها الآلاف سابقاً. فما الجديد في هذا الحدث ليجعله مفصلياً، وليحظى باهتمام سياسي وإعلامي غير مسبوق؟
جاءت هذه «الجمعة»، بعد توقف جُمَع الاحتجاجات الشعبية أشهراً، لتكون إخوانية بالكامل، من حيث الدعوة والتنظيم والبرنامج والشعارات؛ لا بل إنّها تُعدّ النشاط الأول لهيئة سياسية جديدة أنشئت باسم «الهيئة العليا للإصلاح» مكوّنة، حصرياً، من إخوان الجماعة وإخوان ذراعها السياسية في حزب جبهة العمل الإسلامي. وتعكس هذه الحصرية، من جهة، قراراً إخوانياً بالانفراد بقيادة المعارضة الأردنية، لكنّها تشير، من جهة أخرى، إلى عزلة إخوانية عن أحزاب وقوى المعارضة التقليدية الأخرى. وهذه انفضت عن «الإخوان»، إما للنأي بنفسها عن نهج التصعيد، كما هو حال «الجبهة الوطنية للإصلاح» الليبرالية بقيادة أحمد عبيدات، أو بسبب الخلاف حول الموقف من الصراع في سوريا، كما هو حال القوميين واليساريين.
يستثمر «الإخوان» حالة الفوضى في صفوف الحراك الشعبي الذي خضع لعملية تفكيك سياسي ـ أمني انتهت بفقدانه البوصلة الذاتية، وانكشافه على مؤثرات الأجندات المختلفة من خارجه. لقد تشقق ذلك الحراك ـ الذي كان منسّقاً في شبكة وطنية إلى أكثر من مئة وخمسين لجنة ومسمّى تكوّن لوحة فوضوية. ويستخدم «الإخوان» عدداً من تلك اللجان للحصول على غطاء سياسي، لكن من دون تمكين الحراكيين من المشاركة في صنع القرار المعارض.
عوامل عديدة أسهمت في انكماش وتشقق الحراك الأردني، اعتباراً من صيف العام الحالي، منها الشكوك حول المآل غير الشعبي لأنظمة الربيع العربي، وتحوّل الحراك الديموقراطي إلى حرب مروّعة في سوريا، والإصابة المبكّرة بأمراض الانشقاقات الحزبية والفئوية والفردية، وضعف الثقافة السياسية مقابل المؤثرات الإعلامية الليبرالية ـ الوهابية، إلا أنّ المسؤولية الرئيسية التي عرقلت ولا تزال تعرقل وحدة الحركة الشعبية وفاعليتها، يتقاسمها طرفا الثنائية القاتلة (النظام/ «الإخوان»)، المتواطئة على منع قيام القوّة السياسية الثالثة في البلاد، وهي القوة الوحيدة المؤهّلة، ببرنامجها الوطني الاجتماعي، لتلافي انهيار الدولة تحت ضربات الانشقاق الأهلي بين الأردنيين والأردنيين ـ الفلسطينيين.
أصبح واضحاً أنّ طرفي الثنائية تلك، يزمعان الخروج من أزمتيهما بأي ثمن، حتى لو كان الثمن هو الفوضى المعممة؛ ففي الفوضى، تُطوى ملفات محاكمة الفساد ومراجعة الخصخصة والتنمية والمسألة الوطنية، وتعيد النخب الحاكمة انتاج هيمنتها على المجتمع في مواجهة «الإخوان»، ويغتنم الأخيرون الفرصة لتفكيك الحركة الوطنية الشعبية واستلحاقها سياسياً، وتنظيم «الجهاد» للاستيلاء على السلطة، بالانتخابات أو بالعنف.
خلال الأشهر الأخيرة، تمحورت المعركة بين النظام و«الإخوان» حول قانون الانتخابات (سنتوقف، عنده، في عرض مرفق). وقد فشلت جميع المفاوضات الثنائية بشأنه بسبب الهوّة الواسعة بين الموقفين. باختصار، يريد «الإخوان» قانوناً يمنحهم الأغلبية البرلمانية وتعديلات دستورية تمكنهم من الانفراد بالحكم. لذلك، فقد رفضوا كل الحصص المغرية المقترحة، وأعلنوا عن مقاطعة التسجيل للانتخابات المبكرة. نجحت «الهيئة المستقلة للانتخابات» في اجتذاب ثلثي الناخبين المحتملين للتسجيل، وخسر «الإخوان» معركة المقاطعة تلك، وعندما يُنشَر هذا المقال سيكون موعد إجراء الانتخابات قد حُدّد، وستدخل البلاد، عما قريب، في خضم الحملات الانتخابية، ما يهدد «الإخوان» بالتهميش. ولعل ذلك قد اضطرهم إلى اللعب على المكشوف، وبالورقة الأخطر، ورقة التحشيد الديموغرافي ـ السياسي. (من حسن الحظ ـ المؤقت؟ ـ أن النظام استجاب للضغوط الوطنية وتراجع عن مشروعه المعلَن لتحشيد مضاد).
اللافت في فعّالية جمعة «إنقاذ الوطن»، أن الإخوان المسلمين، نجحوا ـ كما لاحظ صحافيون أردنيون، من بينهم فهد الخيطان في «الغد» الأردنية ـ «وربما للمرة الأولى، في حشد أردنيين من أصل فلسطيني خلف برنامج داخلي، لا لأمر يتعلق بالقضية الفلسطينية، كما جرت العادة في السابق».
نائب المراقب العام للجماعة، الحمساوي زكي بني رشيد، كان معنياً بالتركيز على هذا الجانب، فقال، في تصريحات صحافية متحدية «إنّ غالبية المشاركين في مسيرة إنقاذ الوطن هم من عمان والزرقاء»، أي من أوساط الأردنيين من أصل فلسطيني.
ويعكس هذا التحدي تلويح الإخوان المسلمين بقدرتهم على كسر الحاجز السياسي والنفسي، والدفع بالكتلة الأردنية ـ الفلسطينية من حالة الانكفاء والصمت إلى حالة الحركة والتعبير عن مطالبها بالمحاصصة السياسية. هل يستطيعون؟
مؤشرات الجمعة الأولى من الربيع الجديد، لا تكفي للإجابة. فإذا كان صحيحاً أنّ جمهور تلك الجمعة كان في أغلبيته الساحقة، فلسطينياً، فقد كان، بالقدر نفسه، إخوانياً، أي إنّه من جمهور «الإخوان». وسيكون علينا أن ننتظر بعض الوقت لكي نرى ما إذا كانوا قادرين على اجتذاب أوساط أخرى.
بدأ «الربيع الأردني» الأول بتظاهرات حاشدة في عمان والمحافظات في 14 كانون الثاني 2011، واستمر، على مدار عشرين شهراً، في صعود وهبوط متتاليين، انتهيا بستاتيكو مؤسس على توازن في القوى بين الحراك الشعبي والنظام، بينما كانت الكتلة الأردنية ـ الفلسطينية، محيّدة. والآن، هل نستطيع القول إنّ ربيع «الإخوان» ـ باسم المظلومية الفلسطينية، قد بدأ في الأردن؟
يلاحظ سليمان الخالدي من «رويترز» أنّ الإخوان المسلمين يحتجون على «قانون انتخابات يبقي على نظام يهمش تمثيل الأردنيين من أصل فلسطيني ـ الذين يستمد الإسلاميون التأييد منهم ـ لمصلحة الأردنيين الذين يمسكون بالسلطة بقبضة قوية، ويشكلون العمود الفقري لقوات الأمن والجيش، التي تتمتع بنفوذ كبير». ويؤكد تقرير لـ«الجزيرة نت» أنّ «الإخوان» يقودون الاعتراض على قانون الانتخابات، الذي «يعطي العشائر في المناطق الإقليمية التي يقطنها عدد قليل من السكان، حصة من المقاعد البرلمانية، أكبر بكثير من تلك المخصصة لمعاقلهم في المدن».
من الواضح أنّ «الإخوان» توصلوا، أخيراً، إلى الدمج بين قضيتهم الخاصة المتعلقة بمطلبهم للشراكة في الحكم ـ أسوة ببلدان الربيع العربي ـ وبين قضية تيّار المحاصصة السياسية، الساعي إلى استقطاب الأردنيين ـ الفلسطينيين. وسوف يمنح هذا الدمج الطرفين قوة مضاعفة قادرة على تحفيز وتنظيم قاعدة جماهيرية متسعة وراء برنامج سياسي يحظى بدعم دولي (أميركي وأوروبي) علني، ويمكنه أن يفوز، أيضاً، بالدعم الإقليمي من قبل قَطر وأنظمة الربيع العربي وتركيا.
لا تشغل سفراء الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي في الأردن، قضية، كما تشغلهم قضية زيادة التمثيل السياسي للأردنيين من أصل فلسطيني. وتكشف وثائق «ويكيليكس ــ الأردن» أن الانشغال الرئيسي للسفارة الأميركية بعمان ينصبّ على هذه القضية المغرية، من حيث أنّها تمزج بين هدف يخدم المصالح الإسرائيلية في التوطين السياسي للفلسطينيين في الأردن، وتقويض حق العودة، وبين هدف يخدم «المُثُل الديموقراطية». وبينما كانت السفارات الغربية تناقش هذا الموضوع الحيوي في السياسة الأردنية، لسنوات، مع نخب برجوازية معزولة عن جماهير المخيمات والأحياء الفلسطينية، أصبح لديها اليوم شريك سياسي قوي ذو مكانة إقليمية ومحلية، ويتمتع بقواعد جماهيرية، أعني الإخوان المسلمين.
لم تكن «جمعة إنقاذ الوطن» منسقة بين طرفي النقاش، لكن أحد السفراء الأوروبيين، سأل وفداً إخوانياً، بصراحة، عن قدرة الجماعة على تنظيم مسيرة من خمسين ألفاً، لكي يكون بالإمكان تسويغ دعم جدي وعلني للمطالب الإخوانية. كانت الرسالة واضحة. وهي التي حددت الرقم المعلن مسبقاً للمسيرة الافتتاحية للربيع الإخواني المتأخر في خريف الأردن المستنزَف مالياً واقتصادياً والمعاقَب لصموده في رفض التدخّل في سوريا.
على هامش تلك المسيرة تعالت أصواتٌ بين «ضيوفها» من نشطاء الحراك الشعبي، عبّرت عن المزاج المناهض للفساد والخصخصة، والمحتج على إفقار الأغلبية وتهميشها، لكن المحتوى السياسي الرئيسي للفعالية، ظل مؤطراً بالمطالب الإخوانية المحددة بـ«شروط الاصلاح السبعة»؛ وهي « قانون انتخاب ديموقراطي وعصري يمثل إرادة الشعب، واصلاحات دستورية تمكّن الشعب من أن يكون مصدراً للسلطات، وحكومة برلمانية منتخبة تحقق تداول السلطة على المستوى التنفيذي، وترسيخ دولة القانون والمواطنة على أساس الحقوق والواجبات، والفصل بين السلطات وتحقيق استقلالية القضاء، وإنشاء محكمة دستورية، ووقف تدخل الأجهزة الأمنية في الحياة السياسية والمدنية، ومكافحة الفساد بجدية وفعالية».
نلاحظ، هنا، أنّ المطلب الشعبي الرئيسي المتصل بالتصدي للفساد قد احتل أسفل قائمة شروط الاصلاح. وقد صيغ بكلمات باهتة، ومن دون تحديد عياني، وبإغفال الزمن: فساد الماضي أم فساد المستقبل؟ الجميع يتحدث، بما في ذلك الفاسدون، عن «مكافحة» الفساد، لكن القضية الشعبية الفعلية تتمثل في المحاكمات الشاملة والمتزامنة لملفات الفساد الكبرى، ومراجعة اتفاقيات الخصخصة، واسترداد أموال الخزينة وممتلكاتها وإحياء القطاع العام الاقتصادي، لكنّها مطالب لا تعني الإخوان المسلمين، ولا تمثّل جوهر قضيتهم في الأردن.
شروط الاصلاح الإخوانية مصوغة بصورة فضفاضة ومضطربة، لإخفاء مضمونها الفعلي؛ فالشرط الخاص باستصدار «قانون انتخاب ديموقراطي وعصري يمثل إرادة الشعب» هو موضع سجال بين الإرادات الشعبية. ولا يوجد، في الواقع، أي نوع من الإجماع على نظام انتخابي ما. وعلى سبيل المثال، فإنّ ما يهم المحافظات، بالدرجة الأولى، هو عدد مقاعدها، بينما تهتم النخب بطريقة الانتخاب وبالدائرة الوطنية، فيما يسعى تيار المحاصصة إلى إعادة توزيع المقاعد النيابية على أساس الكثافة السكانية. وعلى هذا، فإن المطلوب وطنياً وديموقراطياً، هو قانون انتخاب توافقي، أسهم الإخوان المسلمون في منع التوصل إليه بسبب إلحاحهم على قانون انتخاب يضمن زيادة مؤثرة في تمثيل الأردنيين ـ الفلسطينيين ووفق نظام انتخابي يكفل للإخوان بالذات حصد نتائج تلك الزيادة والحصول على الأغلبية البرلمانية.
لا أعرف ما إذا كان هناك نقاش داخل «الإخوان» بشأن طبيعة الحكومة التي يريدونها، برلمانية أم منتخبة؟ ذلك أنّهم طالبوا بالاثنتين معاً في بند «الحكومة البرلمانية المنتخبة»، وهو خلط بين مطلبين متناقضين. فالحكومة البرلمانية هي غير الحكومة المنتخبة. الأولى تتشكل وفق المشاورات النيابية الملزمة أو الأغلبيات النيابية، أما الثانية، فتعني انتخاب رئيس الوزراء مباشرة من قبل المواطنين. وفي الحالتين، يظهر، بوضوح، أنّ «الإخوان» مصممون على انتزاع السلطة لأنفسهم، جزئياً بالأغلبية البرلمانية، أو كلياً بانتخاب رئيس الوزراء. وهو ما يفتح باب الاحتمالات بشأن مدى الإصلاحات الدستورية التي يقترحونها.
المطلب الخاص بـ«دولة المواطنة على أساس الحقوق والواجبات» يعكس، في السياق السياسي العياني هنا، محاولة لإثارة روحية «الحقوق المنقوصة»، لا غير. فمن الواضح أنّ الإخوان المسلمين لا يهتمون بالمساواة الحقوقية المدنية (حيث الأولوية للشرع) أو بالمساواة الدينية (هل يقبلون مسيحياً رئيساً للوزراء؟ أو حق المواطن بالاعتقاد إلخ؟) أو بالمساواة بين الجنسين أو بالمساواة الاجتماعية.
الشرط الوحيد الصريح من شروط الاصلاح، هو الخاص بـ«وقف تدخل الأجهزة الأمنية في الحياة السياسية والمدنية». تقليدياً، وبينما كان الإخوان المسلمون غارقين في التنسيق مع «الأجهزة»، كان ذلك المطلب أساسياً بالنسبة إلى المعارضة والحركات الشعبية الأردنية، لكنه، في الظروف الجيوسياسية الملموسة القائمة اليوم، يعكس حاجة إخوانية إلى تحقيق هدفين، أولهما إطلاق حرية «الجهاد» ضد النظام السوري وحرية حماس بالعمل ضد السلطة الفلسطينية. وثانيهما إضعاف الدولة الأردنية بما يسمح للإخوان بالاستيلاء على السلطة وإقامة الدولة البديلة ذات الرداء الإسلامي، مستفيدين من فترة الفراغ السياسي الحالية، قبل أن تنجز الحركة الوطنية الأردنية، مهمتها التاريخية في بناء حزبها القادر على تنظيم المجتمع وإدارة الدولة، على الضد من الحزبين السلطويين، حزب «الإخوان» وحزب النظام.

ثلاثة سيناريوهات

نحن الآن أمام لحظة مفصلية قد تتطور في واحد أو أكثر من ثلاثة سيناريوهات؛ أكثرها سوءاً: تصعيد إخواني مثابر، وخصوصاً في خطة مصممة لعرقلة العملية الانتخابية، ربما تنتهي بمواجهات أمنية مفتوحة الاحتمالات.
السيناريو الثاني يتمثل في نجاح العملية الانتخابية وجهود الحركة الوطنية في تظهير نخبة سياسية جديدة قادرة على التصدي للمهمات الوطنية الاجتماعية؛ حل المسألة الوطنية واستئصال الفساد ومراجعة الخصخصة والشروع في خطط التنمية المحلية في المحافظات. في هذا السيناريو، يمكن خلق السياق الملائم للاندماج الوطني والتسويات الاجتماعية الداخلية، وتجديد الدولة الأردنية في أفق سياسة خارجية تنفتح على فضاء الهلال الخصيب إقليمياً، وروسيا والصين دولياً. ولنجاح هذا السيناريو هناك شرط يتعلّق بوقف العنف والتوصل إلى تسوية وطنية في سوريا.
في السيناريو الثالث، قد يجد النظام الأردني نفسه، مضطراً إلى شراء الوقت والمساعدات والدعم السياسي من التحالف الأميركي ـ الخليجي لقاء أدوار سياسية وأمنيّة في الإقليم. لكن، ينبغي أن ننتبه، هنا، إلى أنّ دوراً أردنياً في سوريا يتطلب، لتغطيته داخلياً، التحالف لا الصراع مع الإخوان المسلمين. وهو ما ينطبق، كذلك، على الدور الخاص باستيعاب نتائج انسحاب إسرائيلي أحادي الجانب من المناطق المأهولة في الضفة الغربية. يظهر هذا الاستعصاء كقَدر يضع النظام في موقع موضوعي هو غير موقعه الجيوسياسي التقليدي، فالمفارقة الاستراتيجية التي تعيشها عمّان تكمن في أنّ خياراتها السياسية التقليدية تصبّ في طاحونة الإخوان المسلمين، الذين منحهم الربيع العربي قدرات أعلى وأكثر فعالية في خدمة المخططات الغربية في المنطقة.



قانون الانتخابات حصيلة تعكس موازين القوى

التعديلات المُدخلة على قانون الانتخاب العام، لا تعكس النقاشات الطويلة حوله، إلا بالنسبة إلى المثقفين الواهمين. ذلك أنّها، ببساطة، ليست سوى خلاصة لموازين القوى في البلاد. وهذه لا تسمح بأكثر من ثلاثة تعديلات: استحداث دائرة وطنية، وهيئة مستقلة للانتخابات، وشروط معقولة للنزاهة.
ما تداولته التيارات والشخصيات واللجان، طوال ما يقرب من السنتين، حول قانون الانتخاب المأمول، لم يخرج عن نطاق اقتراحات وطموحات لم تتبلور في مشروع سياسي يحظى بالإجماع وبقوة الدفع الكافية لفرضه. وبالمحصلة، صدمت النخب بعدم قدرتها على التغيير. حتى الملك عبد الله الثاني نفسه، أعلن أنّه غير راض عن قانون الانتخابات بصيغته النهائية.
تحت الضغط المتعدد الأشكال للعشائر وبيروقراطية الدولة، لم يكن ممكناً المساس بالدوائر المحلية ومقاعدها، فبقيت كما هي 108 مقاعد يجري انتخابها بموجب نظام اقتراع يقوم على الصوت الواحد للناخب. وهو نظام يتضمن عيوباً عديدة، وغير مرض حتى بالنسبة إلى القوى الاجتماعية في المحليات. لكن، في المقابل، كان تغيير ذلك النظام المعيب، يتطلب، بصورة أو بأخرى، إعادة توزيع المقاعد النيابية، بما يصطدم بمصالح محلية وازنة. وبذلك جرى إقرار الدوائر المحلية ونظام الاقتراع كما كانا في السابق، كما جرى الإبقاء على الكوتا النسائية، وزيادتها إلى 15 مقعداً.
في المقابل، وتحت ضغوط القوى الحزبية والمثقفين، استُحدثت دائرة وطنية من 27 نائباً يجري انتخابهم وفق نظام القائمة المغلقة وعلى أساس النسبية. وهو ما يفسح في المجال لمنح الانتخابات محتوى سياسياً وأيديولوجياً، ويحرر المشاركين من قيود الأصل والطائفة والكوتا والمنطقة والعشيرة.
لكن نسبة النواب المنتخبين على المستوى الوطني تظل محدودة، ولا تحدث أثراً نوعياً في تركيبة المجلس (27 مقعداً من أصل 150). وتتوقف نوعية التحوّل الديموقراطي في الأردن على زيادة مقاعد الدائرة الوطنية إلى ما يوازي 50 بالمئة من العدد الكلي لمقاعد المجلس النيابي. غير أنّه بات واضحاً أنّ إصلاح النظام الانتخابي جذرياً في الأردن، يتطلب أولاً، وقبل كل اقتراح أو طموح، الإجماع على حسم ملف الهوية الوطنية والمواطنة والتحديد القانوني للهيئة الناخبة. وذلك من خلال إخضاع قرار فك الارتباط مع الضفة الغربية للإجراءات الدستورية والقانونية التي تنهي حالة الفوضى والغموض الحاليين في مجال التجنيس السياسي المستمر وإمكانية الانزلاق نحو كونفدرالية ثنائية مع الجزء المتروك، إسرائيلياً، من الضفة الغربية.
رفض النظام كما «الإخوان»، دائماً، قوننة فك الارتباط. ومن المفهوم أنّ النظام يخشى أن تكتمل، بتلك القوننة، شروط التغيير الديموقراطي في البلاد، أما «الإخوان»، فإن غموض العلاقة مع الضفة الغربية، يقع في صلب مشروعهم لحكم الضفتين. في المقابل، فإنّ حسم ملف القضية الوطنية، سوف يخلق بيئة سياسية جديدة نوعياً، تسمح بتخليق الإجماع الشعبي على نظام انتخابي وطني وديموقراطي في آن واحد، ويؤدي إلى الاندماج المجتمعي وتوحيد المجال السياسي في البلاد. تبيّن الآن أن تلك الأطروحة ليست مجرد رأي طالما هوجم من قبل الموالاة والمعارضة معاً، بل هو الأرضية الضرورية لأي اقتراح تقدمي في مجال الإصلاح السياسي، سواء لجهة تعميق التعديلات الدستورية أم لجهة التحوّل الديموقراطي. وهذه المعادلة لا تزال ماثلة. ومن دونها ستظل القوة السياسية الرئيسية في بلدنا، المتمثلة في جماهير المحافظات، محشورة بين خيارين سيئين، (1) خيار الفئات الحاكمة التي لا تريد لهذه الجماهير أن تستقل سياسياً، وأن تكوّن نخبها البديلة، و(2) خيار «الإخوان» المفضي إلى خلخلة المعادلة الديموغرافية السياسية للتكوين الوطني الأردني.
بين سندان الحكم ومطرقة «الإخوان»، تعددت الاقتراحات الخاصة بتعديل النظام الانتخابي، لكنّها، جميعها، لم تحظ بالدعم الاجتماعي السياسي الكافي، بما يحوّلها إلى مشروع سياسي فعلي. وهكذا انتهينا إلى نظام انتخابي يكرّس العلاقات السياسية القديمة في الدوائر المحلية، بينما يسمح للتيارات والشخصيات العامة بالمنافسة على كعكة صغيرة للغاية.



المواطنة والهوية



المواطنة مفهوم ليبرالي برجوازي أصيل وتقدمي، نُحتَ في مجابهة الأرستقراطية الإقطاعية والعسكرية والفئات صاحبة الامتيازات، بهدف خلق إطار متساو يندرج فيه البرجوازيون في عهد صعود الرأسمالية. وقد تطوّر هذا الإطار ليشمل، لاحقاً، الفلاحين والعمال وكل الفئات الشعبية، بحيث أصبح كل فرد في الدولة، بغض النظر عن وضعه الطبقي، مواطناً، أي عضواً في الدولة، له حق الاقتراع للمجالس البلدية والتشريعية ـ وكان هذا الحق محصوراً في السابق على الملاكين وأصحاب الامتيازات ـ ومتمتعاً بالحريات المدنية والسياسية وبالمساواة القانونية، لكن، ليس، بالطبع، المساواة الاجتماعية.
وقد تبيّن، في الممارسة التاريخية الملموسة، أنّ المواطنة، كإطار للمساواة القانونية والسياسية، هي مجرد وهم، طالما أنّ هناك فئات تحتكر وسائل الإنتاج والثروة وتفرض سيطرتها الاقتصادية ـ وتالياً السياسية والثقافية ـ على الأغلبية الشعبية. وعلى هذه الخلفية، ظهرت الحركات الاجتماعية التقدمية الهادفة إلى إعادة توزيع الثروة والسلطة على المستوى القومي (كما في أنظمة التحرر الوطني) أو انتزاعها لمصلحة الأغلبية الشعبية (كما في التجارب
الاشتراكية).
وفي بلد كالأردن، يتمتع حوالى 2 بالمئة فقط من مواطنيه بـ60 بالمئة من ثرواته، ويعيش ثلث سكانه تحت خط الفقر، وسدسهم تحت خط الجوع، فإنّه لا معنى لرؤية تغييرية تستند إلى مفهوم المواطنة، بل إنّ هذه المفهوم، في الظروف الأردنية العيانية، مضلل إلى أبعد حد، ذلك أنّه يسعى إلى المزيد من الضغوط على كتلة مفقَرة ومهمّشة ـ لكن لنخبها بعض الامتيازات السياسية ـ لمصلحة نخب برجوازية، تريد، إضافةً إلى استيلائها على الثروة، أن تستولي على السلطة السياسية، باسم المحاصصة على أساس الهوية.
لكن المواطنة تظل الإطار الذي لا غنى عنه للدولة الحديثة، سواء أكانت ديموقراطية أم لا. فمنطق الحداثة يستحضر منطق المواطنة. لماذا؟ لأنّ الدولة تتحقق في وحدة الهوية الوطنية، والمواطنة هي الإطار اللازم لجبّ الهويات الفرعية ذات الدينامية التفكيكية، لكن، فلننتبه، هنا، إلى نوعية الهويات الفرعية التي ينبغي جبّها بالمواطنة. إنّها الهويات الدينية والطائفية والمذهبية والجهوية والإثنية القومية الخ، لكن ليس بينها الهوية السياسية الوطنية. فدولة المواطنة تصهر الهويات الفرعية، ما عدا الهويات الوطنية السياسية التي، بإلغائها، لا تعود هناك دولة وطنية واحدة، بل فدرالية لتجمّع هويات وطنية.
لم يكن المجتمع الأردني بحاجة إلى الفكر الليبرالي الغربي، لكي يبتدع أشكالاً محلية مبدعة تلغي الهويات الفرعية (مسلم مسيحي درزي عربي شركسي شيشاني أرمني شامي فلسطيني الخ) في وحدة مجتمعية ذات هوية وطنية واحدة هي الهوية العربية الشرق أردنية. وهي هوية نشأت على أسس نمط انتاجي فلاحي بدوي عشائري، وتطورت، لاحقاً، في دولة وطنية.
لا مشكلة هوية لدى الأردنيين، بغض النظر عن الدين والجهة والأصل. ولا مشكلة في أنّ قسماً من الشعب الفلسطيني الشقيق تهجّر قسراً إلى الأردن، وحصل على الجنسية الأردنية، وأصبح في عداد المواطنة، لكن مع تمسكه بالهوية الوطنية السياسية الفلسطينية التي تعد حصناً من حصون مقاومة المحو الصهيوني لفلسطين وشعبها، إلّا أن المشكلة التي تواجهها الدولة الأردنية، اليوم، تكمن في مساعي شقّها على أساس ابتداع صراع زائف بين هويتين وطنيتين متعايشتين، واقعياً، في إطار مواطنة قانونية تعني الفرد ولا تعني الجماعة. الفرد ـ بغض النظر عن أصله ـ مواطن له حقوقه الكاملة في البلد المضيف، والجماعة ـ بغض النظر عن مواطنيّة أفرادها ـ جزء من الشعب الفلسطيني، وحقوقه في
فلسطين.
خارج هذه المعادلة (مواطنة الفرد وهويّة الجماعة) تطرح القوى المناوئة لاستراتيجية المقاومة والوحدة القومية المشرقية، حلّين، يقوم أولهما على تذويب الهويتين الوطنيتين، الأردنية والفلسطينية، في هوية ثالثة، هاشمية أو «خليجية» أو عولمية الخ، ويقوم ثانيهما على اقتراح المحاصصة السياسية بين الجماعتين الوطنيتين في إطار فدرالية طوائفية تتأسس على حرب أهلية مستمرة، ساخنة أو باردة.